بأقلامهم جهاد الزين يكتب من بيروت عن: حين “تكتب” الراقصةُ التاريخَ، يرقص معها: شهادة بديعة مصابني by admin 30 يناير، 2024 written by admin 30 يناير، 2024 167 لا ترسم الراقصة، أي راقصة، ممتلئةً بنعمة مهنتها، مساحاتِ حريةِ جسدِها فحسب، بل هي ترسم مساحاتٍ وحدودا للمتلقّين. النهار – جهاد الزين راقصة ومغنية (من أوائل من أنشدت “زوروني كل سنة مرة” التي لحنها سيد درويش عام 1917) وممثلة وعاشقة وزوجة وأم بالتبني وسيدة أعمال ومؤسِّسة كازينو بل كازينوهات ثم صاحبة مزرعة ومحلات ألبان ، وفاعلة خير، وها هي بفضل الصحافية نازك باسيلا تسجل عام 1956 مذكراتها التي صدرت في كتاب سيعيد تجديد صدوره الناشر سليمان بختي بعد أكثر من خمسين عاما. طبعة راهنة (2024) بتحقيق وتدقيق مميّزَيْن في مجهود هوامشه للدكتور باسم مروان فليفل. ناهيك أصلا عن السرد المتماسك (عدا عدد محدود من الأخطاء النحوية) والمجهود المهم الذي بذلته الصحافية نازك باسيلا وخصوصا في الصياغة السلسة، ولذلك أقترح على دار النشر (دار نلسن) أن تمدنا عنها، أي عن السيدة باسيلا، بمعلومات أوفى في طبعات قادمة، إنها بديعة مصابني. هذا الكتاب هو شهادة متعددة في شخص واحد، سياسي بالغ الأهمية من إمرأة لم تتعاطَ السياسة يوما واجتماعي وفني وشخصي وثقافي وحياتي، تعبر فيها بديعة مصابني كما كان قطار بيروت حيفا القاهرة ودمشق حيفا القاهرة يعبر جبال وسهول سوريا ولبنان وفلسطين في العهد العثماني مرورا بصحراء سيناء حتى مصر “البريطانية”, القطار الذي ركبته السيدة مصابني معظم حياتها ذهابا و إياباً. تثير عندي هذه المذكرات الممتعة عددا من الأسئلة المتنوعة في مجالات مختلفة ربما لم تنتبه بديعة مصابني أن ما روته يطرح مسائل تاريخية وثقافية وفنية تحتاج إلى أن يلتقطها مؤرخون في كل اختصاص لبحثها وإنتاج أسئلة وأجوبة حولها. أبدأ بالصورة التي أعطتها لكل من مدن بيروت وطرابلس وحلب ودمشق خلال الحرب العالمية الأولى. إنها صورة مدن مزدهرة، لدى أغنيائها وجمهورها عموما الوقت والإمكانات للترفيه عن أنفسهم في الملاهي ومسارح الرقص والتسلية. السؤال الكبير هنا كيف يتعايش هذا الوضع مع الفكرة السائدة عن وجود مجاعة في تلك الفترة 1914- 1918 في جبل لبنان الذي يحيط ويلاصق بيروت ويجاور طرابلس؟ أحيل هذا السؤال أولا على الأصدقاء اللبنانيين عصام خليفة وبطرس لبكي (الجبلْ – لبنانيّين)ومنذر جابر (الجبلْ – عاملي) في جمعية مؤرخي العهد العثماني. صحيح أن بديعة مصابني تشير مراراً إلى المجاعة في جبل لبنان ولكن لا تقول أن الحياة في بيروت وطرابلس مشلولة بسبب ذلك، بل هي تروي كيف جمعت ثروة من عملها في ملاهي بيروت وطرابلس وحلب خلال الحرب وطبعا بعد الحرب.يشير الدكتور فردريك معتوق في كتابه الأخير “خبز الموارنة وخبز الحياة” ونقلا عن جده في قريته سرعل في قضاء زغرتا أن جده روى له أن زوجته (جدته) “ماتت في الحرب” ليكتشف فردريك خلال عمله على وثائق كنيسة قريته أنها ماتت هائمة في شوارع طرابلس التي ذهبت إليها تبحث عن الخبز عام 1918. و”دُفنت في مقبرة جماعية على يد عمال بلدية طرابلس الذين كانوا يجوبون الشوارع عند طلوع كل فجر، ويجمعون جثث المتوفين، ثم ينقلونها إلى مقابر جماعية عند أطراف المدينة”. بيروت بديعة مصابني رغم حديثها عن الحرب والمجاعة تبدو بعيدة عن هذه الصورة. فالحرب والمجاعة أمران عامان وغامضان رغم قلقها على شقيقتها المقيمة في قرية شيخان في (قضاء جبيل) ومساعدتها لها عبر ضابط تركي كان صديقا حميما لبديعة، فعالم بديعة هو عالم أغنياء بيروت وملاهيها. وتروي بديعة مصابني كيف كانت تلجأ لصديقها الضابط صلاح الدين لكي يساعدها على المرور وتمرير البضائع في “مخفر النهر” الذي يبدو أنه كان قائما شرق بيروت على الحدود بين متصرفية جبل لبنان وولاية بيروت والذي كان يفرض حظرا على انتقال البضائع نحو المتصرفية. وهذه من الإشارات النادرة إلى دور الأتراك في الحصار على الجبل أيام الحرب. بالمناسبة يخالف محقق الكتاب باسم مروان فليفل صاحبة هذه الشهادة السيدة مصابني في قولها أن أهل بيروت أو “البيروتيين” كانوا يكرهون الأتراك ويرد في أحد الهوامش أنه “لا صحة مطلقا ” لرأيها وأنهم كانوا موالين للدولة العثمانية. وهي تستدل على ذلك في المداهمات التي كان يقوم بها الجنود الأتراك إلى الملهى الذي تعمل فيه وينشرون الذعر بين الحاضرين بحثا عن شباب فارين من الالتحاق بالجندية. بينما الدكتور فليفل يستشهد في رده بكلام منسوب ل”نقيب أشراف بيروت” الشيخ عبد الرحمن بن محمد الحوت المتوفي عام 1916 عن الولاء البيروتي ل “الدولة الإسلامية” العثمانية. تروي عن عملها في بيروت، وكانت فترة الحرب كما أشرنا، كيف جنت “أرباحا طائلة” من العمل بين الملاهي والحفلات الخاصة بما فيها فترة في مدينة دمشق في “ملهى القوتلي”. تصف بديعة مصابني أجواء مدن فلسطين حيفا ويافا وغزة حيث عملت ليس بشكل مختلف عن بيروت وطرابلس، من حيث ازدهار عمل الملاهي الفنية والأهم وجود جمهور، خصوصا في حيفا، يُقْبٍل على الملاهي مع “نصيحة” تلقّتها هناك أن لا تحاول مطلقا العمل في نابلس لأن أهل هذه المدينة محافظون جدا. أما المرحلة بل المراحل القاهرية والإسكندرانية فهي الأهم والأكثر تفصيلا في شهادة بديعة مصابني لأنه في مصر نجحت النجاح الأكبر والأطول في حياتها وتحولت إلى أسطورة شعبية كراقصة وممثلة وصاحبة فرقة استعراضية وصاحبة كازينو، وهي التي جاءت مصر صبية فقيرة بل معدمة بعد سنوات الحرمان الصعبة خلال طفولتها في دمشق، حيث ستتعرض لحادث اغتصاب في عمر السبع سنوات. بعد حياة مديدة وزواج قلق وعاصف من الفنان نجيب الريحاني ستضطر إلى مغادرة مصر تهريباً عام 1949 بسبب ضرائب مصلحة الضريبة مع ثروة شخصية أيضا هرّبتها لتقيم في لبنان وفي شتورة تحديدا حتى نهاية حياتها عام 1974. أي قاهرة رائعة بمسلميها ومسيحييها ويهودها وشوامها وأية إسكندرية بيونانييها وطليانييها وفرنسييها وكل أوروبييها وإنكليزها وطبعا بنسيجها المصري المسلم المسيحي اليهودي ستصفها لنا بديعة مصابني بقلم نازك باسيلا في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وأي ذكريات كوزموبوليتية متعددة وهي التي انطلقت المطربة أسمهان من ملهاها وشقيقها فريد الأطرش وكيف هي بدايات أم كلثوم وعبد الوهاب وزعرنات الجنود البريطانيين الثملين في “كازينو بديعة” وإنفاقهم لرواتبهم خلال الحرب العالمية الثانية وتدخل البوليس الحربي البريطاني لضبطهم.. لا شك أن شهادة بديعة مصابني وحياتها لا تزالان تصلحان لعمل فني عالي المستوى الإنتاجي، سيكون عملا كاشفا على تاريخ الليفانت (المشرق الشامي والمصري) كله خلال ثلاثة أرباع القرن العشرين. أما الفيلم الذي شاهدته مؤخراً للمخرج المصري حسن الإمام وبطولة ناديا لطفي وفؤاد المهندس وكمال الشناوي عن بديعة مصابني رغم نقاء الصورة والمجهود الاستعراضي المبذول فيه وكفاءة الممثلين الرئيسيين، كل هذا ليس في غنى المذكرات ولا تنوعها ولا ما تستحقه. الفيلم الذي عُرض عام 1975 وقيل أنه نجح نجاحا باهرا آنذاك. أخيرا لا ترسم الراقصة، أي راقصة، ممتلئةً بنعمة مهنتها، مساحاتِ حريةِ جسدِها فحسب، بل هي ترسم مساحاتٍ وحدودا للمتلقّين. فهذه المؤسِّسة المبكرة لشخصية الاستعراض الراقص وتحولاته في زمن تداخل الليبرالية الاجتماعية والفنية مع التكوين التقليدي المحافظ للمنطقة، كانت في نهاية زمن سياسي لحدود الدول الجديدة في المنطقة التي كانت تودّع علاقات وتستقبل علاقات ومعها ترتسم آفاقٌ سيظهر مع الأسف بعد تأسيس إسرائل وبسببها أنها مقبلة على انسداد…والمزيد من الانسداد. وفي خاتمة مذكراتها تعي بديعة مصابني التغيير كأنه اصطدام جسدها الذاهب إلى الشيخوخة مع حدود وجغرافيا وديموغرافيا صحيح أنها استنفدتها ولكنها هي نفسها، الحدود والجغرافيا والديموغرافيا، كقطارات دمشق بيروت حيفا القاهرة، آيلة للانقراض. jihad.elzein@annahar.com.lb Twitter: @ j_elzein 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post إيلون ماسك يعلن عن نجاح زرع شريحة دماغية في أول إنسان next post سرقات السيارات: تباين بين شركات التأمين والمصنّعين حول الإجراءات المطلوبة You may also like فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024