ثقافة و فنونعربي جان لوك غودار أدخل السينما في حداثتها وترك ثروة بصرية by admin 14 سبتمبر، 2022 written by admin 14 سبتمبر، 2022 18 رائد العقود الستة من تاريخ الفن السابع لا يقارن سوى بنفسه اندبندنت عربية \ هوفيك حبشيان كيف نكتب عن قامة فنية وسينمائية وفكرية مثل جان لوك غودار في رحيله عن 91 عاماً، ومن أين نبدأ في الحديث عنه؟ نحن الذين عشنا حياتنا كلها في زمنه. أعود إلى مشاهدة لقطات من أفلامه عبر “يوتيوب”، لعلها تساعدني في الإمساك بطرف الخيط، أو لربما يلهمني مشهد أو تمدّني جملة بالوحي، فتكر السبحة، لكن ما من عنوان يختزل سيرة هذا العملاق. هناك شعور باليتم يسيطر علينا ونحن نودّعه. غودار هو ستّة عقود من تاريخ السينما، أعظم الذين نظّروا فيها، المعلّم الذي يعرف الجميع شيئاً عنه حتى مَن لم يشاهد فيلماً واحداً له في حياته. هو الأسطورة التي أدخلت السينما في حداثتها، المتحدّث الغامض الذي كان يقول إن هذا الفن أجمل تنصيبة في العالم، الرهيب الذي رحل تاركاً خلفه ثروة بصرية، معرفية، سياسية، نقدية، جمالية. غودار ابتكر اساليب قديمة خلال تصوير “مخطوف النفس” (ملف الفيلم) كلّ شيء بدأ في الخمسينات. أواخرها تحديداً. كانت السينما الفرنسية، على الرغم من الأسماء الكبيرة التي أسستها ما بين الحربين، من مثل رونوار وغريميون وكلوزو، صنيعة الأدب والاستوديوات. “الموجة الجديدة” التي جاءت بغودار وتروفو وشابرول وريفيت ورومير وكلّ هؤلاء المتمردين على “سينما الآباء”، وُلدت من الحاجة إلى الاعتراض على هذه السينما القائمة وأساليبها. بقية الحكاية تاريخ، يعرفه كلّ مهتم بالسينما جيداً، وفقدنا جزءاً منه أمس مع رحيل غودار، الذي كان، مع جاك روزييه، آخر الأحياء من “الموجة الجديدة”. من الشارع جيله يتحدّر من الشارع، لم يكن خريج مدارس السينما. اختبر الحياة بحلوها ومرها قبل أن يجسّدها على الشاشة. كان هؤلاء ملمين بالأدب والشعر والموسيقى بقدر إلمامهم بالسينما. مثقّفون من الدرجة الأولى. أما الأفلام الأميركية، فكانت عشقهم وشغلهم الشاغل، فباتوا من أشد المدافعين عنها في مجلّة “دفاتر السينما”، خصوصاً راوول ولش ونيكولاس راي وهاورد هوكس وألفرد هيتشكوك. غودار كان ابن السينماتيك الفرنسية التي أسسها هنري لانغلوا، هناك اكتشف عالماً لم يحدثه أحد عنه، كما روى، لا المدرسة ولا الأهل. حدثوه عن غوته لكن ليس عن كارل تيودور دراير. يروي أنه هو ورفاقه كانوا يشاهدون أفلاماً صامتة في حقبة السينما الناطقة، وكانوا يحلمون بالأفلام، ويسمعون عن أفلام لم يشاهدوها أبداً. كانوا مثل مسيحيين اهتدوا من دون أن يروا أبداً المسيح أو القديس بولس. غودار اعتنق السينما كديانة. جان سيبيرغ وجان بول بلموندو في فيلم لغودار (ملف الفيلم) في هذا الجو انطلق غودار ورفاقه. شابرول قدّم “سيرج الجميل” (1958). تروفو جاء بـ”حياة المجون” (1959). أما غودار فوصل متأبطاً الفيلم الذي كان سيصنع سمعة “الموجة الفرنسية الجديدة” في أنحاء العالم كافة: “مخطوف النفس” (1960). يقول غودار إن قبل وصولهم، كان “كلّ شيء ممنوعاً، متحجّراً، حِرفياً في أسوأ معاني الكلمة”. ويتابع: “فقلنا: كلا، لا ممنوعات. (…) الموجة الجديدة وُلدت أيضاً من روحية التعارض”. مع “مخطوف النفس” (1960) الذي وضع له السيناريو فرنسوا تروفو، دخل غودار الأسطورة وثار على السينما كما كنّا عهدناها قبل ذلك التاريخ. الفيلم لقاء بين طالبة أميركية (جان سيبيرغ) تبيع الصحف في الشان إليزيه لتوفّر كلفة دراستها في السوربون، وشاب “صايع” (جان بول بلموندو) لا هدف له في الحياة. لن يحدث الكثير. غودار من خلف الكاميرا موجود في كلّ لقطة. انها سينما المؤلف بامتياز! الفيلم كان بمثابة قنبلة جمالية وسردية، نسف بها غودار التقاليد السائدة في السينما منذ اختراعها. صحيح أنّ كانت هناك تجارب مثل هذه من قبل، لكن كانت خجولة. لم يسبق لسينمائي أن كان على هذا المستوى من التباهي في خربطة الأوراق، وصناعة سينما حرة مستقلة، لا تخضع لا لقيود الإنتاج ولا لرقابة السلطات ولا لرغبات المُشاهد. القيود الوحيدة هي تلك التي فرضها غودار على نفسه، لأنها كانت تحفزه على العمل. مع هذا الفيلم وغيره من أفلام الموجة الجديدة، خرجت الكاميرا من الاستوديوات للنزول إلى الشارع، حيث القصص الحقيقية لناس نصادفهم كلّ يوم، ولا نعرف شيئاً عنهم، فهم ليسوا أبطالاً على الشاشة. حُمِلت آلة التصوير على الأكف، داهمت تفاصيل اليومي والعادي التي لم يهتم السينمائيون قبله بتصويرها. مسدس وفتاة ميشال بيكولي وبريجيت باردو في “الإحتقار” (ملف الفيلم) ما عادت الحكايات تقتصر فقط على الأحداث الكبيرة والحبكة الدرامية. “يكفي مسدس وفتاة لصناعة فيلم”، كما قال غودار في تصريح شهير له. أما السيناريو، فهو لم يعد مُنزلاً، بل أحياناً كان يلقي به غودار في القمامة، في حين أشكال الممثّلين بدأت تختلف عن النجوم الذين عرفتهم السينما سابقاً. حتى كيفية تحركهم داخل الكادر خضعت لتغيير. كانت الموجة الجديدة نقلة على كلّ المستويات، الإنتاجية والجمالية والمونتاجية، وعلى صعيد الكتابة الفيلمية خصوصاً. فتحت الطريق للأجيال اللاحقة وحلّت مدرسة وألهمت الجميع من أقصى الشرق إلى هوليوود. وكأن السينما عادت أدراجها بعد أكثر من 60 سنة على ولادتها، لتولد من جديد. كلّ شيء بدا جديداً طازجاً فيه روح العصر وهواجسه، بعيداً من الأدب والاستوديوات. مع ذلك، عاد غودار مراراً إلى بداياته، ولأنه يحمل روحاً اعتراضية وعقلاً نقدياً حيال كلّ شيء وأي شيء، بما فيها نفسه وأعماله، فقال إن جيله اعتقد بسذاجة أن “الموجة الجديدة” ستكون بداية، ثورة. ولكن، كان الأمر متأخراً جداً في نظره، اذ كلّ شيء كان قد انتهى. “النهاية وقعت لحظة لم تصوَّر معسكرات الاعتقال. في تلك اللحظة، فوّتت السينما كلياً واجبها. كان هنالك ستة ملايين ضحية، قتلاً أو خنقاً بالغاز، من اليهود في شكل خاص، ولم تكن السينما حاضرة. ومع ذلك، من “الديكتاتور” إلى “قانون اللعبة” كانت تنبأت بكلّ المآسي”. مع “الاحتقار” (1963) بلغ غودار ذروة فنّه وعطائه وألقه. هذا فيلم عن السينما ومن داخل السينما، وقد حلّ مراراً في المراكز الأولى لعدد من الاستفتاءات التي أُجريت مع النقّاد عن أفضل الأفلام على الاطلاق. منذ الجنريك، يستعيد غودار جملة لأحد الذين تتلمذ على أيديهم وهو الناقد أندره بازان: “السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا”. ميشال بيكولي وبريجيت باردو وفريتس لانغ هم الشخصيات المعذّبة لهذا الفيلم الذي التُقِطت مشاهده في كابري، على نحو أصبحت الجزيرة الإيطالية شخصية من شخصياته التي لا تتجزأ. لا يمكن لأي عاشق سينما أن ينسى المَشاهد الحميمة بين بيكولي وباردو والمداعبات والحوارات التي بينهما، على خلفية موسيقى جورج دولورو. أما الحكاية فهي عن علاقة بين رجل وإمرأة أصبحا على شفير الانفصال. أقصى النمط الغوداري أيام البدايات (صفحة غودار – فيسبوك) “بيارو المجنون” (1965) ذهب بالنمط الغوداري إلى أقصاه. هنا غودار في واحد من أفضل ما أنتجه في حياته وكان طليعياً في نظرته إلى السينما والعلاقات بين الجنسين. انقسم النقّاد حول الفيلم عندما عُرض في مهرجان البندقية السينمائي، لكنه اليوم محلّ إجماع واعتراف. الفيلم موزاييك مدهش من ألوان وأساليب وحس تجريبي متأصل، يحضر فيه الأدب والشعر والدعابة والموسيقى والفنّ التشيكلي. آنا كارينا وجان بول بلموندو يخطفان القلب. “بيارو المجنون” من نوع الأفلام التي باتت تُعرف اليوم بـ”فيلم الطريق”، يبحث فيه البطلان عن حبّ وحرية على طرق جنوب فرنسا. الشاعر لوي أراغون من الذين دافعوا عن الفيلم، عبر مقال نُشر في مجلّة “الآداب الفرنسية” وعنوانه: “ما هو الفنّ؟ إنه جان لوك غودار”. بيد أن غودار لم يكتفِ بتكرار ما يجيده وتكريس نمط واحد لصناعة السينما. فراح بعد ثورة أيار 1968، يتمايل مع الرياح، ذاهباً إلى حيث كانت ستحمله. قدّم أفلاماً من وحي اللحظة، فهو من التجريبيين الكبار الذين ما إن يجرّبوا شيئاً حتى يصبح الإنتقال إلى شيء آخر ضرورة. السينما التي أنجزها لاحقاً، صحيح فيها مراحل وفترات وصعود وهبوط ومد وجزر، إلا أنها امتداد للحرية التي بحث عنها دائماً سواء في الفنّ أو العيش، وظل وفياً للروح الثورية التي في داخله والتي لم تنطفأ حتى اللحظة الأخيرة من حياته. هذه الروح التي كانت مصدراً لخلافاته مع بعض من رواد الموجة الجديدة الذين عادوا وأنجزوا أفلاماً كانوا يحاربونها بأقلامهم وكاميراهم في مقتبل تجربتهم. السينما التي أنجزها غودار في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وفي الفترة التي أصبح فيها ماوياً، سياسية ومتنوعة وطليعية. هناك أيضاً في تلك الفترة أعمال لافتة مثل “انقذ ما استطعت – الحياة” و”شغف” و”الاسم كارمن” و”محقق” و”موجة جديدة”. من المستحيل العودة إلى كلّ هذه الأفلام التي أنجزها غودار طوال حياته المهنية في مقالة، فعددها يقارب المئة، وقد عُرضت 21 منها في “كانّ”، المهرجان الذي توقّف عن المشاركة فيه خلال السنوات الماضية، رغم عرض أفلامه فيه ورغم نيله “السعفة الخاصة” بمبادرة من كايت بلانشيت قبل ثلاث سنوات. ولكن كعادته، كان غودار حاضراً في كلّ مكان غاب عنه، وهو سيبقى حاضراً في غيابه الأبديّ لوقت طويل. في آخر فيلم له، “كتاب الصورة” (2018)، تجاوز غودار نفسه، منتزعاً من المُشاهد صفة المتفرج جاعلاً إياه شاهداً. هكذا كان غودار، ينتزع منك شيئاً ليمدّك بأشياء. في هذه الخاتمة السينمائية التي تليق به وبتاريخه، بدا فوق النقد. تحبّه أو تنبذه لكن ليس ثمة ما يُقال. فلا توجد مرجعية يمكن الإستناد اليها لتقييم “كتاب الصورة”، أو أي من أعماله الأخيرة. من الضروري التشديد على أن غودار لا يُقارن إلا بنفسه. في لقاء لي قبل ثلاث سنوات مع مساعده وكاتم أسراره فابريس أرانيو، سألته: “هل يدهمه الإحساس بضيق الوقت، وبأن عليه الإستعجال؟”. فكان ردّه: “لا. لا يهوى الإستعجال. حين يدق الموت بابه، سيدق. لن يفعل شيئاً لمنعه. لا يخشى الموت، ولكن يخاف ان يتعذّب كجميعنا”. اليوم، ولأول مرة منذ الثالث من ديسمبر(كانون الأول) 1930، السينما من دون غودارها. صحيح أنه يصعب تقبّل رحيل فيلسوف الشاشة، فهو كان ينظّر لموت السينما وينجزها في آن واحد، في أجمل مفارقة، لكنّ إرثه المعنوي والفكري غير قابل للتبديد. صدى عبقريته ونقده اللاذع ورؤيته للإنسان والتاريخ والحضارات سيبقى يتردد في كلّ أنحاء العالم وسيبقى ماثلاً في وجدان كلّ سينمائي. وها هو اختيار موعد رحيله انتحار تحت إشراف طبي، في لحظة تواجه فيها السينما أكبر تهديد عرفته في تاريخها، سوى جواب آخر من أجوبته غير المتوقعة. المزيد عن: رائد سينمائيا\لسينما الفرنسية\غودار\جان بول بلموندو\بريجيت باردو\فرانسوا تروفو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بطل خوان غويتسولو يسعى إلى تدمير العالم ويكتب حكايته في “مشاهد بعد المعركة” next post كاترين لاسي تفضح أكاذيب المجتمع الأميركي في رواية “مقعد” You may also like الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024