ثقافة و فنونعربي “تغريبة القافر” تروي أسطورة الفرد “العُماني” العادي by admin 26 مارس، 2023 written by admin 26 مارس، 2023 15 إن “القافر” هو بطل الرواية الذي تلتقي عنده خيوط السرد وشخصياته، وقد ولد من رحم أسطورة كي يصنع أسطورته الخاصة. فبطريقة ما، يصبح “سالم بن عبد الله” أسطورة للشخصية العمانية (نساء ورجالاً فهو الرجل الذي يتحدى اليتم والفقر، والصخور والجبال، والجفاف والقحط، والجن والسحر. القاهرة- النهار العربي \ شريف صالح لا يضع زهران القاسمي شرطاً زمنياً لروايته “تغريبة القافر” (دار مسكلياني) التي تنافس ضمن القائمة القصيرة لجائزة “البوكر” العربية، بل يترك لقارئه التخمين، فلربما جرت الأحداث في خمسينات القرن الماضي، أو أبعد… ربما لا تختلف عما جرى قبل مئات السنين. المؤكد أنها أحداث تعود إلى الزمن الصعب، ما قبل طفرة النفط وحياة الاستهلاك والرفاهية. ويشيد عمارته الروائية عبر أحد عشر فصلاً وخاتمة، كأنها شهور العام. على مفارقات شتى، بعضها لا يتجاوز مواقف جزئية وحوارات عابرة، وبعضها الآخر يشكل صلب البناء الروائي. الذات والفضاء إذا كان الزمن مضمراً، فإن الفضاء جاء صريحاً مهيمناً، فنحن في قرى سلطنة عمان، وكأنّ جميعها تحكي الحكاية ذاتها التي تمركزت في قرية “المسفاة”. صنعت عُمان حضارتها الزراعية المغايرة لحضارات مصر والعرق والشام لغياب الأنهار الكبرى مثل النيل والفرات، وندرة الأراضي الطينية السهلة، بسبب طبيعتها الجبلية الخشنة ووعورة الأراضي. ربما تكون الرواية العمانية الأولى التي تعتني تلك العناية الفائقة بفضاء السلطنة الضارب بجذوره، وكيف شكل هوية ناسها. فإذا كان المصري القديم، أو العراقي مثلاً، شيد حضارة عظيمة، فإن التحديات التي واجهت الإنسان العماني القديم كانت أشد قسوة. نثرت الرواية عشرات الشخصيات بعضها يذكر في سطرين، لكنّ النغمة الأساسية التي تجمع بينها هي ومضة الجنون، والمس الشيطاني ـ إن جاز التعبير ـ إنها شخصيات عاشقة للترحال، والهروب، والاختفاء، وصعود الجبل، ونحت الصخر، ميالة للعزلة كأنها تنتمي إلى عالم الجن وليس الونس بالبشر. فرض الجبل سحره وأسراره، فالوعري ـ أحد أجمل شخصيات النص ـ يوصف كالتالي: “الوعري سلام ود عامور صاحب قلب شجاع لا يخاف البتة، فهو لم يتوان قط عن فعل شيء طلب منه أو قرره من تلقاء نفسه، يتسلق النخل العالي والقمم الصعبة أو يهبط إلى أمهات الأفلاج (قنوات محفورة) الغائرة في العمق والآبار القديمة ذات القعور العميقة. ويقضي ليالي في الجبال وحيداً لا يصاحبه أحد وفي معظم الأوقات لا يختلط بالناس”. كأنه نصف إنسي، نصف جني، وهو ما يتكرر مع معظم شخصيات النص. فإذا استدعينا الموروث العربي الذي يعتقد في سكن الجن في كهوف الجبال والآبار، يصبح على من يعيش في تلك الأماكن ألا يقل عنهم براعة… وأن يتحداهم إذا لزم الأمر. الأسطورة والتجريب كل المجتمعات البدائية مرت بالوعي الأسطوري، فلكل شعب أسطورته المؤسسة. بطبيعة الحال حدثت تحولات من الأسطوري إلى ديانات طوطمية ثم سماوية، ثم عقلانية مادية حديثة. ولكن لا شيء يُمحى من لا وعي الشعوب. فالأساطير تبقى سابحة وملهمة في حكايات الجدات والأغاني الفلكلورية. ويبقى للطوطمية حضورها في أعمال السحر والشعوذة. لذلك تُفتتح الرواية بقصة مريم بنت حمد ود غانم، الغريقة التي انتشلها أهل البلدة. وصاح أحدهم أن الغريقة تراه! إنها غريقة معذبة وجميلة جمالاً غامضاً، لم يكن شيء يهدئ ضربات المطارق في رأسها إلا أن تغمره بالماء… فهل ألقى بها أحدهم في البئر، أم اختارت الغرق للخلاص من صداع مزمن؟ أم ناداها الجني ساكن أعماق الماء؟ لا يولد العظماء من رحم أمهات بل من رحم أسطورة، هكذا ولد سالم بن عبد الله بن جميل (القافر) من رحم أمه الغريقة، ولد ببقر بطنها وليس بولادة عادية. وبالمخالفة لفتوى رجل دين رفض استيلادها وهي ميتة لولا عمتها كاذية بنت غانم التي اندفعت فأخرجت “الحي” من “الميت”، و”المستقبل” من “الماضي”. هنا مفارقة جزئية بين الوعي الرسمي بالدين، والفتاوى المتشددة القصيرة النظر، والوعي الشعبي بالدين المتسق مع قوة الحياة. فالحي أبقى من ميت، وأقوى من فتوى. على مستوى آخر، يبدو الرجال أكثر صرامة وعقلانية والتزاماً بظاهر النصوص، بينما المرأة أكثر مبادرة نتيجة وعيها الغريزي بالحياة والحفاظ على استمراريتها. فالمرأة هي الطبيعة ذاتها في خصوبتها واندفاعها. جاء ميلاد “القافر” أسطورياً من رحم الغريقة، واستلم شهادة يتمه، فحتى والده لم يعرف به إلا متأخراً. إن اليتم ضروري للأبطال المؤسطرين، لأنهم بذلك يكونون أبناء لقوى عليا ترعاهم وتمدهم بالمواهب الخارقة، وليسوا أبناء لآباء وأمهات عاديين. إن “القافر” هو بطل الرواية الذي تلتقي عنده خيوط السرد وشخصياته، وقد ولد من رحم أسطورة كي يصنع أسطورته الخاصة. فبطريقة ما، يصبح “سالم بن عبد الله” أسطورة للشخصية العمانية (نساء ورجالاً فهو الرجل الذي يتحدى اليتم والفقر، والصخور والجبال، والجفاف والقحط، والجن والسحر. يواجه قدره بقوة وكبرياء وعزيمة لا تلين لكنه في الوقت نفسه ليس رجل سلطة ولا جاه. ليس ممن يذكرون في كتب التاريخ الرسمية. إنه أسطورة الفلاح العماني “العادي” ساكن الجبال، وجار الآباء والعيون والأفلاج. “صار الزمن دائرياً مفتوحاً على الأبدية، ولم يعد مستعجلاً على تثبيت المسمار، ولا يهمه الوقت الذي سيصرفه أمام البوابة الصخرية التي تفصله عن الهواء والضوء والحياة”. ماتت أمه غريقة في بئر، ومات أبوه مختفياً تحت ركام أحد الأفلاج، مع ذلك ها هو يزور البلاد بمطرقته ومسماره، وها هو يصغي بأذنيه إلى صوت الماء داخل الصخر. ويشق الفلج وراء الفلج. كأنه يمنح أسباب الحياة للبشر والدواب والزرع. وعندما يغيب تبدأ زوجته في غزل الصوف رافضة عروض أهلها لتزويجها، في استعارة لا تخفي لأسطورة بنيلوبي زوجة أدويسيوس الوفية التي انتظرت عودة بطلها من حرب طروادة: “تجلس أمام مغزلها وتفتح باب الأبدية في انتظار الخيط الذي سيأخذها إلى البعيد، كأنّ كل خيط درب يأخذها لتبحث عن زوجها في الوديان والجبال، بين الأشجار الكثيفة، ومغاور الصحراء والسيوح الممتدة، لعلها تصادف الرجل الذي احتفظت به في ذاكرتها، الرجل الذي طال النسيان كل شيء فيها إلا وجهه”. لكل شخصية في الرواية أسطورتها، ولكن يظل “القافر” الأسطورة الكبرى المؤسسة، وروح العماني. وبالتوازي مع الأساطير، والحكايات الخيالية العصية على التصديق. ثمة حس التجريب المادي والعقلاني، منطق واضح وصارم يربط الحياة بالماء، والزرع بالرعاية. فلا تستقيم حياة ولا تشاد حضارة إلا بوعي تجريبي، يختبر ويعمل بلا كلل. وقد أفردت الرواية سطوراً مطولة ـ حد الإسهاب ـ لكفاح الإنسان العماني في مواجهة الجفاف وقسوة الطبيعة، وشق الأفلاج، والترحال. أي أن المسارين ظلا متلازمين: الاتكاء على سحر الأسطورة، وكل ما هو غيبي… مع التفكر العقلاني والتجريب بكل ما يقدر عليه الإنسان من عرق ودم للسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمصلحتها. “قاسوا المسافة كما فعلوا في الفرضات السابقة لعلهم يجدون سقف أم الفلج، لكنهم لم يعثروا عليه. ولما حفروا في الزوايا كلها بشكل دائري ولم يصلوا إلى نتيجة، بدأ اليأس ينخر في قلوب العمل”. هذا التصرف العقلاني التجريبي لا يتعارض مع طلاء الصخور بالثوم. فالوعي الإنساني في صراعه مع الطبيعة لجأ دائماً إلى المسارين: الأسطوري الغيبي، والعقلاني التجريبي. وهو ما جسدته الرواية بسلاسة واتقان. حضور وغياب كل الشخصيات سائرة في مدار حضور وغياب، حتى الموتى لا ينتهون لأنهم حاضرون في الحكايات، وفي طاقتهم السحرية، وما ينسب إليهم من خرافات. لا تعرف تلك البيئة الجبلية الموت كنهاية محددة، فيكفي أن يلقب سالم بـ “ابن الغريقة” كي تظل قصة أمه حاضرة. وثمة غياب للترحال والبحث عن الرزق والمغامرة، ومن ينقطع أثره أعلى الجبل. فلا يُحسم موته المادي، بل يظل على التخمين. ينقلنا هذا إلى مستوى فلسفي يتعلق بالإيديولوجيا المضمرة في النص ابتداء من عنونته وهي “التغريبة”، إنها كلمة سحرية ارتبطت بسيرة بني هلال “التغريبة الهلالية”. تحيل للترحال والبعد من الديار، أو من يقيم بين قوم وهو ليس منهم. كما تحيل إلى كل عجيب غريب وغير مألوف. كل معاني “التغريبة”، حاضرة بدرجة ما، مع كل شخصيات النص. فإما هي غريبة لأنها في ديار غير ديارها، أو بين قوم لا تنتمي إليهم، أو لأنها عجيبة في سلوكها وانعزالها وما تتمتع به من قدرت خارقة. لكنّ اغترابها الوجودي أشد فداحة، إنه تجسد للشقاء الإنساني حيث تكد وتحفر الصخر بأظفارها، ثم تُدفن داخل الأفلاج وهي ما زالت حية، مع ذلك لا تلقى إلا النكران والنسيان. إنهم البسطاء ملح الأرض، عمروها ومدّوا فيها البساتين وقنوات الماء وزرعوا النخيل والأشجار، ورعوا الأغنام والأبقار وغزلوا الصوف. ثم تضن عليهم الحياة بالراحة والسعادة والتقدير، وما سيرة “القافر” إلا نموذج لتلك التغريبة الأسيانة. على مستوى آخر، يتعلق الحضور والغياب بالماء سر الحياة، فهو غاية كل حي، وبسببه يحيا الإنسان وتزدهر القرى وتعمر البلاد. يحضر الماء كحلم وسراب ورغبة وأمنية، وشرط وجود. يُحضر في نداءت “القافر” وقطرات المطر وما ينز من الصخور، وفي بئر الغريقة وذلك الفلج الذي طوى الأب ثم الابن. وعندما يغيب يتقوض كل شيء فيكون الجفاف والترحال والحفر والسعي بشتى السبل. تذكّر اللغة العربية “الماء” وتؤنث “المياه”، ويعتبر باشلار الماء عنصراً أنثوياً بامتياز، وهو بذلك يعادل أنثوية الحياة لغةً وتصوراً. ويصبح “القافر” مقتفي أثر الماء هو الرمز الذكوري العاشق لأنوثة الماء/الحياة. هكذا شُيدت “تغريبة القافر” على ثلاث مفارقات أساسية: الذات والفضاء، الأسطورة والتجريب، وأخيراً الحضور والغياب. ربما وقع السارد أحياناً في افتتان اللغة، والصوت العالي ذي المقول الجاهز، والافتتان بوجوه تمر سريعاً في سطور، أو ينقطع خيطها فجأة كما حدث مع “آسيا” المرضعة وزوجها. لكنّه ظل ممسكاً بخيوط قصته الرئيسة وبطلها، وعاكساً من خلالها الأسطورة العمانية. إن “تغريبة القافر” عطش سردي إلى الماء الواقعي، والأسطوري، والرمزي. تجسد مقولة باشلار بأن قطرة ماء واحدة تكفي لخلق عالم وإذابة ليل. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post جهاد الزين يكتب من بيروت : “دولة لقيطة” next post دراسة تكشف تأثيرا سلبيا لحقن “البوتوكس” على المشاعر You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024