جوزيف كونراد (1857 – 1924) (غيتي) ثقافة و فنون تأملات كونراد الفلسفية الغاضبة في جريمة الاستعمار الكبرى by admin 5 مارس، 2024 written by admin 5 مارس، 2024 138 رواية “في قلب الظلمات” التي عجز الفن السابع وكبار سينمائييه عن نقلها كما هي إلى الشاشة الكبيرة اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب منذ بدايات الفن السابع أبدى كثر من مخرجي السينما رغبتهم في تحويل رواية “في قلب الظلمات” إلى فيلم سينمائي. ولئن كان الأشهر من بينهم أورسون ويلز، فإن ثمة أسماء تذكر في هذا السياق لا تقل أهمية عن صاحب “المواطن كين” مثل ديفيد لين وغريفيث وروبين ماموليان وحتى جون فورد… غير أن الوحيد الذي تمكن من تحقيق مشروع كهذا وفي صورة مواربة على أية حال، كان فرنسيس فورد كوبولا الذي صاغ سيناريو فيلمه الكبير “القيامة الآن” بالاستناد إلى تلك الرواية مع تغييرات أساسية في زمان أحداثها ومكانها. مهما يكن، تبقى هذه الرواية واحدة من أكبر روايات القرن الـ20، كما يبقى كاتبها واحداً من أعظم كتاب ذلك القرن. كان اسمه تيودور كورزينوفسكي… فهل يعني هذا الاسم شيئاً لأحد؟ ربما للبولنديين وحدهم، على اعتبار أن اسمه هذا يدل بوضوح على أنه كان بولندياً، مع أنه ولد في مدينة برديتشيف في أوكرانيا. وكان ذلك في عام 1857. وكان أبوه ملاكاً للأرض يعيش هناك، من دون أن يفوته أن يفخر في كل لحظة بكونه بولندي الأصل، وربما أيضاً – وفق ما كان يقول – من أصل نبيل. ومع هذا، على رغم ذلك الأصل وعلى رغم الجاه والمال، ما إن شب الفتى تيودور عن الطوق عند بدايات الربع الأخير من القرن الـ19، حتى قرر أن يرحل عن وطنه الأصلي، كما عن مسقط رأسه، إلى أبد الآبدين. فهو ما كان ليرضى أن يمضي بقية حياته مزارعاً، هادئاً يكون أسرة ويموت مجهولاً تماماً. بحار العالم وطنه كان ثيودور من طينة أولئك الذين تنزرع في أفئدتهم منذ صباهم أشواق المغامرة والتعب والصعود إلى أعلى، وهكذا سيحقق الفتى أحلامه لاحقاً، ولكن تحت اسم آخر، وفي وطن آخر هو بحار العالم ولكن انطلاقاً من بريطانيا التي اختارها وطناً ومنطلقاً نهائياً له. أما الاسم فهو جوزيف كونراد… أي الاسم الذي عرف به كاتباً من أخصب كتاب زمانه، الأمر الذي يشهد عليه في الأقل ما ذكرناه من تطلع سينمائيين كثر إلى أفلمة روايته الكبرى التي نتحدث عنها هنا. لقد ماتوا جميعاً وفي قلب كل منهم غصة لأنه لم يتمكن من أن يحقق واحداً من أروع أحلام حياته الفنية: أما الذي تمكن من أن يحول “في قلب الظلمات” إلى فيلم، أي فرنسيس فورد كوبولا فحققه في صورة جزئي: فهو استعار موضوع رواية كونراد، وأجواء شخصياتها، لينقل أحداثها وعوالمها من الكونغو، حيث تدور الأحداث أصلاً، إلى فيتنام خلال الحرب الأميركية هناك. “في قلب الظلمات” هي، في المحصلة الأخيرة، رواية ذات رداء يرتبط بالمغامرة، لكنها ذات جوهر فلسفي، وتحديداً من ذلك النحو الذي كان يستهوي كونراد الذي كان يستقي مواضيعه من بعض أسفاره ومغامراته، وغالباً ما جعل أفريقيا والشرق ميدانين لأحداث تلك المواضيع. والحال أن الطابع الجوهري الغالب على معظم تلك الأعمال، إنما هو طابع فكري تأملي نفسي ينتمي، مبكراً، إلى القرن الـ20 أكثر من انتمائه إلى أزمان غابرة. لقد قيل عن روايات كونراد دائماً إنها تمتلئ بالصباحات التي تبدو هادئة للوهلة الأولى، ثم تتكشف مملوءة بالنساء الغامضات والعواصف الساحقة… كما مياه البحار والمحيطات تماماً. وفي مثل تلك المناخات كان كونراد يضع شخصياته، وغالباً في بيئات معادية لها – بحر هائج، غابات ساحرة قاسية – ثم يحركها راسماً عوالمها النفسية، مؤكداً تأثير المناخ في تصرفاتها، كاشفاً الأسباب الذاتية جداً التي تدفع المغامرين إلى مغامراتهم عاثراً في قلب الأخطار على ما يحرك النوازع الداخلية لتلك الشخصيات، دافعاً إياها إلى تعرية ذواتها في ألعاب جحيمية تختفي فيها الفوارق بين الذات والموضوع وبين الجلاد والضحية بالتالي بين الخير الشر. مشهد من فيلم فرنسيس فورد كوبولا (موقع الفيلم) من لندن إلى تهريب العاج والحال إن قوة “في قلب الظلمات” تكمن في كونها تمثل النموذج الأكثر نمطية لأساليب جوزيف كونراد فهي تبدأ على متن مركب يمخر مياه نهر التيمز اللندني، حيث يجلس مارلو، بطل الرواية وراوي أحداثها ليتذكر نهراً آخر ينساب منذ سحيق الأزمنة في عالم آخر وقارة أخرى: وسط “بلاد العاج” في أفريقيا. وما يرويه لنا مارلو هو “مغامرته” هناك، حيث إنه، وهو المولع بالإبحار في نهر غامض غريب، قيض له أن يتسلم قيادة سفينة نهرية تعمل لحساب شركة تتاجر بالعاج، من دون أدنى اهتمام بحياة سكان البلاد الأصليين ومصيرهم. ولهذا النهر مسار يكاد يشبه حركة جسم ثعبان عنيف ومتقلب. إذاً، ينطلق مارلو على ظهر المركب في رحلة سرعان ما ستبدو أشبه بالكابوس، ويصل إلى مقر الشركة في قلب ذلك البلد الأفريقي، لكنه سرعان ما يلاحظ أن المكان خرب، بل إن الخراب يطاول مركبه الذي سيتبين له أن خصوماً له، حسودين، خربوه كي لا يتمكن من مواصلة رحلته إلى حيث يقيم باحث عن العاج ناجح في عمله يدعى كورتز، انقطعت أخباره فجأة. وهكذا حين يتابع مارلو إبحاره بعد أن يصلح مركبه، تكون مهمته الرئيسة هذه المرة العثور على كورتز. وهكذا يكون الانطلاق إلى مكان ناءٍ يبدو وكأنه يقف خارج العالم تماماً، مكان يفترض أن يبحث فيه عن ضالته حكاية هذه الرحلة النهرية في حراكه الذي سيدوم شهرين، وسيتمكن مارلو في آخره من العثور على كورتز… ولكن أي كورتز؟ سفر إلى أسحق الأزمنة إن مسار الرحلة التي ستبدو لمارلو وكأنها سفر إلى أسحق الأزمنة وإلى بدايات هذا الكون، يستغرق شهرين من الغموض والتشويق والتأمل، واختراق أدغال تبدو صامتة كالموت، معادية، مهددة، وعبور مناطق يبدو السكان الأصليون فيها، حين يظهرون بين الحين والآخر، أشبه بكائنات خرافية تشكل جزءاً من طبيعة أزلية. ومن هنا ليس غريباً، ولا سيما في الليالي المرعبة بصمتها، أن يلمح مارلو ورفاقه صوراً أسطورية تقفز بين الأشجار عند ضفتي النهر، ولكن من دون أن تبادر بأي تصرفات عدائية حقاً. إن العدوانية والخطر يلوحان دائماً من خلال الصمت المطبق، الذي لا تخرقه بين الحين والآخر، سوى همهمات وأصوات مختنقة. إن كل هذا يعزز الصمت العام، ويعزز كذلك الشعور بأن كل ما يجتازه المركب إنما هو علامات تقود إلى نهاية ذلك السفر في جحيم الظلمات، وبعد أن يتقدم المركب ببطء وفي ذلك المناخ الكابوسي الغريب، والذي على أي حال يشعر مارلو بأن ثمة في خلفية ذلك كله، شيئاً إنسانياً في جوهره، له صفاء الإنسانية الحقة لا تلك التي صاغتها الحضارات والثقافات، يصل أخيراً إلى مقر كورتز. فإذا بالحقيقة تختلف عن التوقعات: إن كورتز الذي جاء إلى المكان ليجمع العاج، انتهى به الأمر إلى أن يصبح أشبه بوثن حي بالنسبة إلى السكان الأصليين، فأقام ما يشبه الإمبراطورية المستقلة التي صار هو سيدها الوحيد وصنمها. في لندن صحيح إنه الآن مريض ويكاد يحتضر، لكن السكان لا يريدون أن يسمحوا للبيض باستعادته: لا يريدون أن يفقدوا معبودهم… لكن مارلو يتمكن في النهاية من أخذه عنوة إلى المركب هارباً به من السكان الذين تنتفض من بينهم امرأة ضارية غاضبة يبدو من الواضح أنها تجسد حزنهم ومفاجآتهم وغضبهم في آنٍ واحد. مهما يكن فإن كورتز ما يلبث أن يسلم الروح ويعثر مارلو بين حوائجه على كومة رسائل يتبين من خلالها أن للراحل في الحقيقة خطيبة في لندن. فيلتقيها مارلو عند وصوله وقد قرر أن يعطيها الرسائل، وأن يروي لها ما حدث. لكنه أمام حبها لكورتز وإخلاصها له، يكتفي بأن يبلغها بأمر موته، ساكتاً عن الباقي، مؤكداً لها أن الراحل، إنما لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتمتم باسمها. رواية “في قلب الظلمات” التي تعصى بتأكيد التلخيص، لأنها أكثر من رواية أحداث ومواقف ومغامرات، نشرها جوزيف كونراد (1857-1924) للمرة الأولى مسلسلة في صحيفة في عام 1899، واعتبرت منذ ذلك الحين، عمله الروائي الأساس (على رغم أنه كتب قبلها وبعدها أكثر من 30 رواية) لا تنافسها في تلك المكانة سوى أعمال قليلة لكونراد منها: “لورد جيم” و”الإعصار” و”نوسترومو” و”العميل السري”. المزيد عن: أورسون ويلزديفيد لينفرنسيس فورد كوبولاجوزيف كونراد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كائنات الفضاء الذكية قد تعجز عن السفر الكوني next post Smoke forces evacuation and closure of All Saints Springhill Hospital You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024