ثقافة و فنونعربي بول فاليري يغوص في حياة ليوناردو دا فنشي وأعماله by admin 11 أغسطس، 2020 written by admin 11 أغسطس، 2020 29 قلقه وعدم اكتماله جعلاه الإنسان الأول في تاريخ الفن اندبندنت عربية/ إبراهيم العريس باحث وكاتب يعرف كثر من المهتمين بالشعر العالمي والفرنسي منه على وجه الخصوص أن بول فاليري (1871 – 1945) هو صاحب اثنتين من أجمل قصائد هذا الشعر وأشهرها: “المقبرة البحرية” و”البارك الشابة”، كما يعرف الأكثر منهم تخصّصاً أن لفاليري عدداً كبيراً من الكتب راح ينشرها منذ العام 1889 وتضم نصوصاً نثرية ذاتية وتأملات فكرية جعلته طوال عشرات السنين واحداً من القامات الكبرى في الحياة الثقافية الفرنسية هو الذي وُلد في مدينة سيت الجنوبية على البحر الأبيض المتوسط، وظل طوال حياته يقول إنه مهما عرف من أساتذة ومدارس وشهادات في حياته فإن أستاذيه الكبيرين لم يكونا سوى شمس المتوسط وبحره. غير أن ما هو معروف أقل بالنسبة إلى غير المتخصصين هو أن فاليري كتب كذلك حول الهندسة نصوصاً في غاية القوة نشرها لاحقاً تحت عنوان إجماليّ هو “مفارقة بصدد الهندسة”، كما كتب واحداً من أول النصوص المعاصرة والمهمة حول رسام عصر النهضة ليوناردو دا فنشي، وهو نصّ استبق فاليري به دراسة رائد التحليل النفسي فرويد، حتى وإن كان ثمة كثر بين الباحثين يقولون لنا اليوم إن فاليري حين كتب عن صاحب “الموناليزا” إنما كان يكتب عن ذاته هو قبل أن يكتب عن ليوناردو. أي أن فاليري ماهي بينه وبين الرسام النهضوي وإن بشكل موارب. ولعل ما يعزز هذه الفرضية التي يحتاج تأكيدها دائماً إلى غوص شديد التعمق في لغة فاليري وأسلوبه، يحتاج دائماً إلى الربط بين ظروف حياته وكتابته في الفترة التي كتب هذا النص فيها. ونعرف على أية حال أن فاليري إنما كتب النصّ وعنوانه “مدخل إلى منهج ليوناردو دا فنشي” في العام 1894 لينشره في العام التالي، أي خلال حقبة كان يعيش فيها واحدة من تلك الانهيارات النفسية العنيفة التي صاحبت مراحل عديدة من حياته. بمعنى أنه بالنسبة إلى الدراسة التي نحن في صددها، إنما كان يبحث في كتابته عن ليوناردو عن إسقاط لذاته على مرآة شخصية أخرى كان يجد أسباباً عديدة تربطه بها. الإنسان الأول والفنان الأول ولعل الفكرة الأولى التي يتوقف عندها بول فاليري في نصّه هذا هي تلك التي لم يتوقف الباحثون منذ عصر النهضة عن الاشتغال عليها وهي أن ليوناردو دا فنشي كان أول رسام نهضوي ينطلق في فنه من شخصيته الذاتية كإنسان. صحيح أن العصر نفسه كان عصر مركزية الإنسان وانبعاث النور الإنساني حتى في حكايات القديسين وصورهم، ولكن ليوناردو تجاوز حتى ما كان يسمح به عصره وغاص في فرديته إلى مستويات كانت بالغة الغرابة. فبدا وكأنه إنسان قلق ينتمي إلى عصرنا يتبع لهيب روحه حيثما يقوده ويتبع أهواءه وكأنه في بحث دائم عن شعلة مستحيلة. وربما كمن هنا ذاك السر الذي توقف عنده المؤرخون طويلاً والمتمثل في سؤال حائر فحواه: لمَ لمْ يتمكن هذا الرجل من إكمال أيّ شيء بدأه؟ فهو، وكما يقول لنا بول فاليري، نادراً ما أنجز لوحة بدأ فيها، أو نصّاً شرع في كتابته، أو حتى واصل علاقة أقامها مع واحد من تلاميذه، أو حتى رحلة قام بها إلى أي بلد من البلدان… ولقد سبق فاليري على أية حال فرويد في تحدّثه، مستنداً إلى المؤلف الروسي مريكوفسكي الذي كان واضع أول كتاب كبير عن دا فنشي، عن طابع اللااستقرار الذي طبع حياة الرسام وأملى عليه تصرفاته وعلاقاته وإنجازاته. اقرأ المزيد تحية ألكسندر كالدر للفلسفة المادية اليونانية في “العناصر الأربعة” عودة إلى “أيام الإنسان السبعة” لعبدالحكيم قاسم في ذكراه الثلاثين ولكن أين الغموض في ابتسامتها؟ مهما يكن، نحن نعرف منذ زمن بعيد ما أتى فاليري ليؤكده العام 1895 في نصه هذا من أن ليوناردو كان غير مستقر نفسياً منذ طفولته أي منذ ولد كابن غير شرعي لكاتب عدل في مدينة فنشي، التي يُنسب بالاسم إليها، فكان أن حضنته أمه المهجورة وجعلته رجلها مفصّلة إياه على قياسها وربطته بها منذ سنوات وعيه الأولى ما جعله، بحسب فرويد على الأقل، يبدي تخلياً مبكراً عن أي توجّه ذكوري ويمضي حياته كلها وحتى الممات بعيداً من أية امرأة غير أمه، على كثرة النساء اللواتي رسمهنّ. بالنسبة إلى فاليري لم يكن دا فنشي مجرد رسام أنجز لوحة “موناليزا” التي لم يرَ الكاتب أبداً سبباً لاعتبارها ذات ابتسامة غامضة متسائلاً دائماً: “… ولكن أين هو الغموض المزعوم؟”، بل كان مبدعاً ذا روح كونية شاملة. وعبّر فاليري عن ذلك بقوله: “إذا ما رغبنا في تصوّر إنسان تندو عنه أفعال مرتبطة بأفكار واسعة وسع الكون فإن ليس ثمة في التاريخ من هو جدير أكثر من ليوناردو دا فنشي بأن يكون ذلك الرجل”. وكبرهان على ذلك يؤكد فاليري أن أهم ما لدى دا فنشي هو تلك الوحدة الوثيقة التي تربط منهجه الإبداعي/الفكري وتسمح لنا بالحديث عن التناسق التام في التركيب. ويخلص الكاتب من هذه الفكرة إلى أن ما أنتجه ذلك العقل الإعجازي لا يمكنه أن يكون إنسانيّاً “لكننا إذا ما تساءلنا حول مسار تكوينه سنجده مرتبطاً بمسيرة البشرية في كليتها”. ويمعن فاليري هنا في التفسير: “إن بعض أشغال ليوناردو في مجال العلوم على سبيل المثال، وفي مجال الرياضيات بشكل خاص، تكشف في تركبيتها عن بساطة قد تجعلنا نحكم بأنها ليست من صنع أي شخص على الإطلاق، فنحكم بأنها أفكار غير بشرية”. ومن هنا حديث فاليري عن اللااكتمال الذي يسم أعمال دا فنشي منظوراً إليها للوهلة الأولى على الأقل. وهو اكتمال يعزوه الكاتب إلى قلق ناتج من الخوف من الكمال. خوف الإنسان مما هو تجاوز للإنسانيّ فيه. ليوناردو دا فنشي (1452 – 1519) (getty) عمّا نكتب حين نكتب؟ غير أن فاليري لا يلبث أن يصل إلى نوع من التاريخانية في حديثه هذا. وذلك إذ يقول إن هذه السمات الفريدة التي طبعت فن ليوناردو ستصبح بعد موته بمئات السنين واحدة من السمات الأساسية للحداثة الفنية: الخوف من الكمال، والرعب أمام انكشاف تجاوز الفنان لإنسانيته أمام ناظريه على الأقل. ولهذا كله، في نظر فاليري، وهو توصيف سوف يشاركه فيه فرويد بعد حين وإن كان من منطلق آخر، توصيف أساسي: القلق. القلق الذي حتى وإن كنا نعتبره اليوم جزءاً أساسياً من مبرر وجود الفن، فإنه كان، لدى دا فنشي عنصر جديد في الإبداع. العنصر الذي يجعلنا، مع بول فاليري، نقول عن هذا الرسام النهضوي إنه كان “الإنسان الأول في تاريخ الفن” لأن الواقع يقول لنا إنه مع ليوناردو وبكل تصرفاته، تحوّل الفن من كينونته حرفة ومهنة إلى كونه فناً – سؤالاً، بل فناً – لغزاً، إلى درجة قد يحق لنا أن نتساءل معها: ترى هل وُجد ليوناردو الذي نتحدث عنه، حقاً؟ أم أن ذاك الذي نعرفه لم يكن سوى شبحه الذي يتجدد كل يوم، يتجدد في تنقله وتبدّله وعدم اكتماله وقلقه ومآسي طفولته التي ظل يحملها معه على شكل ذكريات وأحلام احتاج الأمر إلى مجيء بول فاليري لكشف لا إنسانيتها، ومن ثم إلى مجيء فرويد لكشف مبرراتها السيكولوجية؟ مهما كانت الإجابات التي يمكننا أن نوردها هنا، لا شك في أن المهم بالنسبة إلينا في هذا السياق هو أن بول فاليري في هذا النص الذي بعدما نشره للمرة الأولى، استعاده من جديد في عام 1924 مع تعديلات بسيطة تفيد بأنه كان في إمكانه أن يعدّله مرات ومرات بعد ذلك طالما أن القراءة المتأنية له تقول لنا إن الشاعر الفرنسي لم يكن يكتب عن الرسام النهضوي بقدر ما كان يكتب عن نفسه، بل عن الفن في مفهومه الأكثر عمومية، أي الأكثر إنسانية ولو انطلاقاً من إبداع وصفه باللاإنساني، وعن الكمال ولو عبر فن اعتبر أن من أهم سماته كونه لا يكتمل! لوحة “الموناليزا” (غيتي) المزيد عن: بول فاليري/فرنسا/ليوناردو دافنشي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post روائيون مصريون شغلتهم حروب بيروت المتعاقبة next post 4 مقالات مجهولة لمحمود درويش رفض نشرها في كتاب You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.