ثقافة و فنونعربي بودلير بلغ ذروة الشعر الموزون وافتتح حداثة قصيدة النثر عالمياً by admin 24 يونيو، 2021 written by admin 24 يونيو، 2021 130 فرنسا تحيي المئوية الثانية لشاعر “أزهار الشر” الذي حول الطين ذهبا اندبندنت عربية \ مايا الحاج ما الذي يجعل من شارل بودلير حياً، مؤثراً، متجدداً، بعد مئتي عام على ولادته (1821-2021) ؟ كيف استدرج قراءه إلى فراديس الشعر وجحيمه؟ وما الذي رسخ أسطورته الأدبية؟ لغته الشعرية، ثورته الفنية، صوره الرمزية، قصيدته النثرية، عوالمه الغرائبية، أم جمالياته الصادمة؟ الأجوبة تطول وتتعدد، حتى تضيق عنها حدود مقال بل مقالات. ولكن إذا توغلنا في البحث، قد نجد مبتغانا في كلمات بودلير نفسه، وهو يخاطب مدينته قائلاً: “لقد أعطيتِني طينَك، فصنعتُ منه ذهباً”. من هذه العبارة، نستشف قدرة بودلير “الخيميائية” على تحويل العادي والمبتذل بل المُقزز إلى جمالٍ ونُبلٍ وإبداع خالص. وليس التضاد الجلي بين “الطين” و”الذهب” سوى انعكاسٍ لمتناقضات أخرى ثابتة في شعره، مثلما نستدل من عنوان ديوانه الأشهر: “أزهار الشر”. وهنا سر الشاعر، وسحره. هذه الخاصية الأسلوبية، مكنت بودلير من تأسيس ما بات يُعرف بـ “جمالية القبح”. وقد تكون قصيدته الشهيرة “الجيفة” هي الأكثر تعبيراً عن ثنائيات بودلير الضدية بما فيها من صيغٍ غير مألوفة، أو الأصح قولاً مُستهجنة، كمقاربته بين “الرغبة الحسية” و”الجثة المتحللة”. بودلير بريشة الرسام غوستاف كوربيه (متحف كوربيه) هكذا، وسع بودلير أفق الخيال، وأبعاد العقل بما يضمه من أفكار الوعي واللاوعي. وبات شعره مغامرة تجريبية مفتوحة، لا يقف فيها التجديد عند حد. وعبر هذا التضارب والتمرد والتغيير، أحدث بودلير قفزةً شعرية غير مسبوقة، محرراً الفن من قداسته، والشعر من مثاليته، واضعاً أسس المدرسة الرمزية وتيار الحداثة. المدينة… مفتاحاً للحداثة وليس عبثاً أن يختار بودلير “المدينة” فضاءً لقصائده، باعتبارها صورةً لحداثة القرن التاسع عشر وتحولاته. لذا، بدت باريس، المكان الأكثر استيعاباً لهذا التخبط الداخلي بين السأم والضوضاء، الفرد والجماعة، الموت والحياة… بل غدت موقعاً لاختبار تجربة “الوحدة” وسط الزحام. ومع بودلير أولاً، صارت المدينة “مفتاحاً” للحداثة الابداعية ومعادلاً شعرياً للخراب والسقوط والخسارة. وهو ما أكده ت. أس. إليوت بعد نحو قرن، قائلاً: “أعتقد أنني تعلمتُ من بودلير المظاهر الشائنة للمدينة الحديثة بالذات، وإمكانية انصهار الواقعية الأكثر قذارةً فيها والرؤى الخارقة، إمكانية تجاور المبتذل والخيالي”. ديوان “أزهار الشر” (أمازون) والحقيقة أن أدب بودلير (1821-1867)، لا يُقرأ منفصلاً عن طبيعة عصره (القرن التاسع عشر) ونمط حياته المعقدة، بدءاً من القطع مع البرجوازية، مروراً بالدنجوانية والبوهيمية الأدبية في الحي اللاتيني، وكتابة النقد الفني وتأثره بإدغارألان بو وترجمة أعماله القصصية، وصولاً إلى الضائقة المادية، والسأم والمرض ومحاولات الانتحار… وهو نفسه يُقر بهذا التداخل بين “الخاص” و”العام” في تعريفه البديع للفن: “إنه سحر إيمائي يحتوي الشيء والموضوع في آن واحد، العالم الخارجي للفنان والفنان نفسه”. وفي كتابه الشهير عن بودلير، كتب جان بول سارتر مؤيداً هذا الربط بين “الشخصي” و”الأدبي” في حياة بودلير، بقوله إنه “شاعرٌ لا ينسى نفسه أبداً. فهو يتأمل ذاته عندما يتأمل الأشياء، وهو ينظر إلى نفسه ليرى نفسه يُنظر”. ولعل وعي الفنان الزائد بنفسه هو المبدأ الذي قامت عليه “الحداثة الجمالية”، واعتُبر شارل بودلير رمزها إن لم نقل منظرها الأول، بحيث صاغ بعض مفاهيمها في بحثه الشهير “رسام الحياة الحديثة”، كقوله: “الحداثة هي الانتقالي والعابر والعرضي، إنها نصف الفن، أما النصف الآخر فهو الباقي والثابت. ولكل فنان قديم “حداثته” الخاصة. وليس لأحد الحق في أن يمقت هذا العنصر العابر والهارب والمتحول”. قصيدة النثر وحين نتطرق إلى الحداثة عند بودلير، لا بد من التمهل أمام ديوانه الشهير “سأم باريس- قصائد نثر صغيرة”، الذي وضع فيه قانوناً خاصاً لنمطٍ شعري جديد، بات يُعرف لاحقاً بـ “قصيدة النثر”، وقد أثرت – وما زالت – بأجيال من الشعراء حول العالم. وهي – في قلبها وقالبها – بمثابة ثورة فنية على القوانين الشعرية والنظمية والعروضية السابقة، والصارمة. وهو في كل ما كتب، شعراً ونثراً، ألهم شعراء العالم من بعده، ومنهم فيرلين ومالارميه ورامبو، الذي وصفه بملك الشعراء، والرائي الأول. لماذا “الرائي”؟ لأن بودلير كتب قصائده بعينه، لا بمخيلته فقط. بودلير كما رسم نفسه (دار لاروس) هذه العين هي قوة بودلير وطاقته. قصائده هي أولاً بصرية، تُعيد رسم الواقع شعراً، وصوراً. تقرأها فكأنك تتأمل لوحة. وليس هذا التزاوج بين الصورة والكلمة بمصادفة عرضية. فهو ابن الرسام فرنسوا بودلير، والشاب الذي بدأ حياته الثقافية ناقداً تشكيلياً على غرار ديدرو، نموذجه الأثير. فصام… أم ثنائية القطب؟ ولو عدنا إلى خصوصية الكتابة عند بودلير، نجد أن “الازدواج” هو المُستقر الوحيد في حياةٍ عاشها متنقلاً بين الأفكار والنساء والمدن والفنادق والغرف المستأجرة… شعوره بهذا التضارب يمتد إلى مرحلة الطفولة، منذ أن خسر والده طفلاً في السادسة، إلى حين انفصاله عن أمه، لا سيما بعدما تزوجت من الجنرال أوبيك الذي عده خصماً له. وهذا ما كتبه في عبارةٍ شهيرة: “لقد أحسستُ منذ طفولتي بإحساسين متناقضين… رعب من الحياة، ونشوة الحياة”. هل كان بودلير مريضاً بالفصام؟ بعضهم ألمح إلى الأمر، فيما جنحت دراسات حديثة صوب اعتلاله بمرض “ثنائية القطب”، الذي بقي حتى مطلع التسعينيات من الأمراض النفسية الملتبسة، بحيث كان يُشخص أحياناً على أنه “جنون”، وفي أحيانٍ أخرى حال “فصام”. هذه الفرضية نقرأها في دراسة بحثية للأميركية كريستين مورفي بعنوان “حياة بودلير المزدوجة: ثنائية القطب والإدمان”. ديوان “سأم باريس” (دار غاليمار) وإذا توقفنا عند أنطوان كومبانيون في كتابه “صيف مع بودلير” (2015)، وجدناه يقول: “كل شيء منقسم في بودلير، الذي يبقى عصياً على التصنيف”. لكن كثيرين وجدوا أن “انقسام” بودلير هو تعدد، أقرب إلى الحالة الفنية منه إلى المرض. سارتر واحد من هؤلاء الذين قرأوا بودلير بمنظور مختلف، بحيث لم يعتبره مريضاً سوى بنفسه، مهووساً بذاته، متكوراً على “أناه” كأنه زهرة نرجس. نقد تحليلي- نفسي شخصية بودلير هذه، سمحت للنقاد بقراءة أعماله، وتحديداً “أزهار الشر”، ببعدٍ تحليلي- نفسي، انطلاقاً من انشغاله بفكرتي الوعي واللاوعي وفي قدرة كل منهما المزدوجة على الخير والشر. ولعل قصيدته الشهيرة “القطرس” L’albatros من أكثر قصائده رمزيةً وقدرةً على تصوير بودلير/ الشاعر المتخبط بين عالمين. فهو كما الطائر الفخور بجناحيه الكبيرين، يحلق عالياً، يواجه الرياح ويراقب الناس، وحين يهبط على أرض السفينة، تتلاشى قيمته ويغدو مثار سخرية الصيادين. “وما إن يضع البحارة ملك الفضاء هذا على ألواح السفينة/ حتى يتحول إلى أخرق خجل/ يترك جناحيه الكبيرين الناصعين/ يجرجران بجانبه كالمجاديف/ بصورة تدعو إلى الرثاء/ يا له من أخرق تافه وبشع/ هذا المسافر الذي كان في غاية الجمال”. إذاً، شكلت قصائد بودلير امتداداً لسيرته، هو الذي لم يكتب شطراً خارج ذاته. ولهذا، صار بودلير مادةً للدراسات “البسيكاناليتية”، ومنها ما جاء في كتاب “المجازات المهيمنة أو الأسطورة الذاتية” لشارل مورون، الذي قال مرة: “إذا كان اللاوعي يتجلى في الرؤى والأحلام، فإنه بلا شك يتبدى أيضاً في النصوص الإبداعية”. كتابه النقدي الشهير “الفن الرومانطيقي” (دار غارنيه فلاماريون) وانطلاقاً من هذه الفكرة، درس مورون الصور والمجازات المتكررة كامتداد لأسطورة بودلير الذاتية، أو بمعنى أصح لعالمه الداخلي الحميم. هذه الدراسة التحليلية – النفسية خلصت مثلا إلى أن “الثقل” من أكثر الصور المسيطرة على عقل بودلير. وهذا إن دل فعلى إحساس بودلير المُثقل بحياةٍ أقرب إلى اللعنة. وعلى اختلاف سياقاتها، كان بودلير يستخدم صفة “ثقيل (ة)” في الرسائل والقصائد والنصوص النثرية بهدف وصف الحياة، المدينة، جسد الحبيبة وجدائلها السوداء، جناحي طائر، أو تعبيراً عن “السأم”، ذاك الشعور الأصيل والمُتسبب بأمراضه وبنجاحاته التعيسة… ولا شك في أن هذه التركيبة المتعددة دفعت بالمخيلة البودليرية الحساسة الى التطرف، ليستخرج صاحبها من البشاعة جمالاً، ومن الألم شعراً، ومن الزائل خلوداً. وبهذه المخيلة، راقب بودلير العالم عبر ثنائية الخير والشر/ الوعي واللاوعي، ليقدم في “كتابه الصغير، كما يقول بول فاليري، ديواناً بلا سابقة في تاريخ الأدب الفرنسي”، والمقصود هنا “أزهار الشر”. فوضوي… مثالي ليست الازدواجية أسلوباً شعرياً، بل نمط حياة عند بودلير، هو الذي عاش حياته فوضوياً، غارقاً في الديون ومنغمساً في الملذات (أفيون، حشيش، جنس)، بينما كان طوباوياً في أدبه، إلى حد الهوس.اشتغل بودلير على ديوانه “أزهار الشهر” نحو عشرين عاماً (من 1840 حتى 1857)، من أجل أن يخرج “مثالياً”، لا نقص فيه. ولكن، هل استشعر زملاء بودلير ومجايلوه حجم موهبته الشعرية الهائلة؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال، دعونا نقول إن الكتابة لم تكن مشروعاً سهلاً في زمن فيكتور هوغو. وبعضهم يرى أن معاصرة بودلير لصاحب “البؤساء” كانت سبباً في دماره الذاتي، وهذا ما بينه الشاعر الأميركي سي كيه وليمز، قائلاً: “إن من سوء حظ بودلير، وربما من عوامل دماره الذاتي، أنه كان مرغماً على منافسة هوغو”. والغريب أن بودلير كان في أحيانٍ كثيرة يتكلم عن هوغو باستخفافٍ وازدراء، وهذا ما يتجلى في رسالة عرضتها دار كريستيز في مزاد نيويوركي، حيث قال فيها: “هوغو يواصل كتابة رسائل غبية إلي”، موضحاً أن رسائل هوغو أوحت له كتابة مقال يعتبر فيه “أن العبقري هو أبله على الدوام بقوة قانون مصيري”. وفي المقابل، لم يستشعر أحد موهبة بودلير مثلما فعل هوغو نفسه، واصفاً ديوانه “أزهار الشر” بأنه يُحدث “رعشة جديدة في الشعر الفرنسي”. ومع ذلك، فإنه لم يظن لبرهة أن هذا الشاب سيتجاوزه “شعرياً” ليُغير مسار الأدب على مدار قرنٍ، وأكثر. وعلى رغم دعم هوغو، لم يلقَ الديوان اهتماماً أو ترحيباً في وقته، بل إن غوستاف بوردان في صحيفة “لو فيغارو” وصف “أزهار الشر” بأنه “مستشفى مفتوح على الأمراض المستعصية”، وبأن بودلير “شخص مريض فعلاً، يكرر الأفكار والصور الشعرية نفسها على مدار الخط”. ثم تمت محاكمة الديوان وطالبت النيابة العامة بحذف عشر قصائد، ست منها بدعوى إهانة الأخلاق العامة وأربع بدعوى إهانة الأخلاق المسيحية. وفي العام نفسه، حوكمت رواية غوستاف فلوبير “مدام بوفاري” بالتهمة ذاتها. ستة وأربعون عاماً كانت كافية كي يصنع بودلير لنفسه مجداً لا نهائياً، ويبقى، بعد قرنين، هو الشاعر الذي تجاوز منجزات سلفه، واستبق إبداع من خلفه. المزيد عن: شاعر فرنسي\شعر موزون\قصيدة النثر\الجمالية\المثالية\الألم\الإنفصام\فيكتور هيغو\أليوت\القرن التاسع عشر 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post جهاد الزين : أسئلة ما بعد الاتفاق النووي next post بالضوضاء وإحراق الإطارات… فلسطينيون يدفعون مستوطنين إلى الرحيل You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.