جان - سيباستيان باخ خلال إحدى حفلاته (غيتي) ثقافة و فنون براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم by admin 19 نوفمبر، 2024 written by admin 19 نوفمبر، 2024 27 إبداع متجدد يدمج التقليدي بالتجريبي ويعيد تعريف فن الكونشرتو اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب من بين مؤلفات جان – سيباستيان باخ الموسيقية هناك أعمال عدة تعد وفق النظرة السائدة ووفق المعجبين من بين “أفضل أعماله”. هناك ألحان “الفوغا” التي كان هو مبدعها الأساس، ولا تزال حتى أيامنا هذه مرتبطة باسمه يندر أن يجرؤ فنان آخر على الدنو منها. وهناك الأعمال الدينية الكبرى وفي مقدمها “الآلام حسب القديس متى”. وهناك السونيتات والبارتيتات، ثم هناك بصورة خاصة كثير من الكونشرتوات التقليدية وغير التقليدية، لكن ما إن تذكر هذه الأعمال، ويقول المعجبون إنها “أفضل ما لحن باخ في مساره الإبداعي الطويل” حتى تثور اعتراضات، وإن كان ثمة حول باخ نفسه، إجماع عام، يشبه الإجماع حول زميليه الكبيرين موتسارت وبيتهوفن. إذاً، وربما استنتاجاً من تلك الاعتراضات وغيرها، هناك قلة فقط من أعمال باخ المحددة تلقى، في الحقيقة، إجماعاً عاماً بصفتها أعمال هذا الموسيقي الكبير المفضلة، وفي الأقل لدى نخبة النخبة ممن يحلو للنقاد والمؤرخين أن يسموهم “الباخيين الخلص”. ومن هذه الأعمال بكل تأكيد وفي شكل لا شك في أن الإجماع يقوم بصدده، هناك تلك القطع المسماة “كونشرتوات براندنبورغ”، وهي ستة كما يقول عنوانها الأصلي، كتبها باخ حين كان مقيماً في “كوتهن” وأهداها، كما يذكر هو نفسه في رسالة إلى كريستيان لودفيغ دي براندنبورغ، مضيفه في تلك المدينة، مما يعني أن هذه الأعمال الاستثنائية في تاريخ الموسيقى قد حملت، دائماً، اسم المهدى إليه، فأدخلته التاريخ من إذ لم يكن يدري، حين استضاف صديقه الموسيقي الكبير في مدينته موفراً له كما يبدو الأجواء المريحة الملائمة لكتابة قطع موسيقية من نوع يحتاج إلى أقصى درجات الهدوء والدعة كي يحلق. باخ شاباً حين كتب جان – سيباستيان باخ تلك الأعمال كان بالكاد تجاوز الـ35 من عمره، لكنه كان مع هذا قد بلغ من الشهرة قسطاً كبيراً، وكان قد وقع كثيراً من أعماله الكبيرة. وكان بالتالي يشعر بقوة أن عليه أن يجدد. وهو جدد بالفعل في تلك القطع الست، التي يمكن النظر إليها، طبعاً، على أنها أعمال متفرقة، يحمل كل منها خصائصه وذاتيته، ولكن في الوقت نفسه، وهذا أفضل بالطبع، يمكن اعتبارها عملاً واحداً متكاملاً، إذ في مثل هذه الحال تتخذ تلك الكونشرتوات طابعاً تجريبياً، لا سيما حين يلاحظ المستمع أن القطع الخمس الأولى ستبدو في نهاية الأمر وكأنها معاً تمهد في تكاملها كي تفتح الطريق للوصول إلى القطع السادسة التي ستبدو هنا كأنها خاتمة للأعمال السابقة وتلخيص لها. والحال أن المرء ما إن ينتهي من سماع هذا الكونشرتو السادس، حتى يحس بالحاجة إلى البدء من جديد لأنه على ضوء السادس تتخذ القطع الخمس الأولى طابعاً شديد الاختلاف، ويبدو واضحاً في كل منها مقدار التجديد الذي حققه باخ، تلحيناً وأوركسترالياً في كل كونشرتو من هذه الأعمال الستة. من هنا، للدخول المنطقي في صورة أفضل في ثنايا هذا العمل الموسيقي الكبير، قد يكون من الأفضل البدء بالتوقف أولاً عند الكونشرتو السادس، حيث تؤدي سيطرة باخ التامة على كتابته الموسيقية، وقدرته في ذلك الحين على إبداع عمل خال تماماً من أي أثر للكمانات، على إعطاء تلك القطعة طابعاً جميلاً في صورة استثنائية، مما يجعل من “الجيغا” الختامية وحدها إذا شئنا، ليس خاتمة لهذا الكونشرتو وحده، بل خاتمة للقطع الست معاً، وكأن هذا الفن إن شاء ألا تسمع هذه الأعمال إلا معاً، وفي صورة تجريبية خلاقة ندر أن دنا منها واحد من المؤلفين من زمنه. كونشرتوات براندنبورغ في أحد إصداراتها (أمازون) فن متألق ونعرف طبعاً أن الكونشرتو كان يعيش في ذلك الزمن ذروة تألقه بعدما كان الموسيقيون الإيطاليون الكبار من أمثال فيفالدي، وعلى خطى كوريللي، قد أعطوه طابعه وقواعده، لكن باخ حين صاغ قطع هذه المجموعة، لم ينح نح قاعد كوريللي في كتابة “الكونشرتينو” أي الكونشرتو الصغير تمييزاً له عن “الكونشرتو غروسو” أي الكونشرتو الكبير، حيث كان يفترض دائماً أن يقوم عماد العمل على آلتي كمان وآلة فيولينتشيلو واحدة تتواكب مع مجموعة من الآلات الوترية، بحيث قد يضاعف العدد، ولكن دائماً بالنسبة نفسها. هنا مع باخ في هذه الأعمال المبتكرة راحت الأوركسترا تتألف من أحجام وصور شديدة التنوع، في خرق واضح مقصود، بالتالي لكل القواعد الموضوعة سلفاً. ومع هذا في الكونشرتو الأول من مقام “فا” كبير لدينا بداية عادة مع توزيع يبدو للوهلة الأولى، معهوداً، ولكن سرعان ما تبدأ أصوات الكمان الصغير بالانطلاق متفردة، ثم تتحول للظهور مترافقة مع أنغام تنبثق من آلات أوبوا وبوقين. ومن الواضح، وفق دارسيه، أن باخ – التجريبي إلى أقصى الحدود في كل هذه الأعمال – كان ينحو هنا إلى إقامة نوع من التوليف بين “الكونشرتو” التقليدي و”المتتابعة”، وهو أمر تشهد عليه خاتمة هذه القطعة الأولى حيث يستعين الموسيقي بألحان البولونيز و”المنويه”، المستخدمة كموسيقى راقصة في غالبية الأحيان. وينتمي الكونشرتو الثاني وهو أيضاً من مقام “فا” كبير أصلاً، إلى “الكونشرتو غروسو” على النمط الإيطالي الفينيسي، تحديداً مع تركيز على آلات النفخ والكمان، لا سيما آلة الترومبيت التي تظل حاضرة طوال الوقت، باستثناء الحركة الثانية، إذ يتميز صوت البيانو الحنون المشكل خلفية صوتية لا سابق لها. وفي الكونشرتو الثالث من مقام “صول” كبير يتحرك باخ مبتعداً تماماً عما كان الحال عليه في القطعتين الأوليين، إذ إنه يركز هنا على الآلات الوترية في هندسة ثلاثية: 3 كمانات، 3 آلتو، و3 فيولونسيل، إضافة إلى آلة كونترباص واحدة، بيد أن هذا الكونشرتو لا يتألف إلا من حركتين على عكس ما كان معهوداً، إذ إن باخ يحرص هنا على الاستغناء عن حركة “إندانتي” التي اعتادت في هذا النوع من القطع بما فيها تلك التي تؤلف بقية قطع هذه المجموعة، أن تكون ذات وجود أساس يعطي العمل كله نوعاً من حيوية مطلقة. أما الكونشرتو الرابع من مقام “صول” كبير فإن العزف المنفرد فيه يقتصر على نايين وآلة كمان واحدة، مما يجعل هذه القطع تبدو منتمية إلى “موسيقى الحجرة” – أكثر من انتهائها إلى عالم الكونشرتو. خطوة مفاجئة وفي القطعة الخامسة، قبل الأخيرة، يضع باخ مستمعه أمام مفاجأة جديدة مدهشة، إذ يجعل آلة البيانو تتدخل في صورة مباغتة من دون أي توقع كما من دون أي تمهيد يشي بدخولها، وذلك في عزف منفرد تؤديه، إلى جانب الناي والكمان، مما يضفي على عزف الكمان المنفرد هذا أهمية استثنائية، لا سيما في الحركة الأولى. والحال أن هذا التجديد كان هو في حد ذاته ما أضفى على فن الكونشرتو في ذلك الحين تجديداً لا سابق له، لكنه لن يكون الأخير، إذ إننا، ودائماً وفق دارسي موسيقى باخ، سنلاحظ تكرار هذا الأسلوب الثوري، في بعض أجمل أعمال فرانز ليست وروبيرت شومان، وذلك إضافة إلى أن من يتتبع هذه الكونشرتوات معاً، سيلاحظ نوعاً من التداخل في التجديدات في ما بينها، كما سيلاحظ نوعاً من حركة هابطة تصل إلى نوع من الخفة يمهد لما في الكونشرتو السادس الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا ما يجعل من الأفضل لهذه الأعمال الستة أن تسمع معاً، وكأنها أجنحة لقطعة كبيرة واحدة. غير أن هذا كله لم يكن التجديد الوحيد الذي أدخله جان – سيباستيان باخ 1685-1750 على فن الموسيقى. فالحال أن كل ما ألفه، سواء كان دينياً أو دنيوياً، عاطفياً أو عقلانياً وكثير من موسيقى باخ “يتهم” عادة بأنه عقلاني على أية حال، كان في مجاله وفي زمنه تجديدياً، بحيث إن تاريخ الموسيقى يجعل جزءاً كبيراً من هذا الفن مديناً لهذا الذي لم يكن ليعرف الهدوء أو الراحة، منذ كان طفلاً، وحتى قضى باكراً. المزيد عن: جان – سيباستيان باخالموسيقى الكلاسيكيةالكونشرتوموتسارتبيتهوفنكونشرتوات براندنبورغ 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني طفل next post منتخب عربي قادم بقوة.. جزر القمر تذهل الكرة الإفريقية You may also like محمد علي اليوسفي: كل ثورة تأتي بوعود وخيبات 22 ديسمبر، 2024 سوريا والمثقفون الانتهازيون: المسامحة ولكن ليس النسيان 22 ديسمبر، 2024 حين انطلق “القانون في الطب” غازيا مستشفيات العالم... 22 ديسمبر، 2024 “انقلاب موسيقي” من إيغور سترافنسكي في أواخر حياته 21 ديسمبر، 2024 الإرهابيون أرسلوا رأس الصبي إلى أهله في “الذراري... 21 ديسمبر، 2024 “هند أو أجمل امرأة في العالم” لهدى بركات:... 21 ديسمبر، 2024 جواد الأسدي يسجن شخصياته المقهورة في “سيرك” 21 ديسمبر، 2024 عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في “بدم بارد” 21 ديسمبر، 2024 كاتبات يابانيات “متغربات” يتحدين تقاليد السرد العريق 21 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن: حسن الصباح والإسماعيلية…... 20 ديسمبر، 2024