الإثنين, نوفمبر 25, 2024
الإثنين, نوفمبر 25, 2024
Home » الياس خوري يكتب : مرثية تأخرت أربعة عشر عاماً

الياس خوري يكتب : مرثية تأخرت أربعة عشر عاماً

by admin

كان درويش أكثر دهاء من أن يترك لنا مهمة الرثاء، فرثى نفسه بنفسه، وصار علينا أن نستعير كلماته كي نرثيه بها.

الياس خوري \ مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 134 – ربيع2023

النص الكامل: 

هل كتب محمود درويش مذكراته الأخيرة في كتاب: “في حضرة الغياب”، أم كتب وصيته؟ أم كتب مرثيته؟

تكلم درويش كثيراً عن افتتانه بالرواية، لكنه لم يكتبها، مع أنه اقترب منها في “ذاكرة للنسيان”، كما وصل إلى شاطئها في كتابه النثري – الشعري “في حضرة الغياب”. الشاعر عَكْس الروائي، وهو امتداده الغامض في لعبة الكلمات والمعاني. الكلمات ممحاة الروائي ومرآة الشاعر، فهي تمحو الروائي كي يشرق فيها الآخرون، لكنها تعكس صورة الشاعر الذي يتجلى كمثنى يختزن الجمع، وكرؤيا تأخذ النشيد إلى معنى المعنى.

لم نرثِ محمود درويش مثلما يليق به وبنا، وإنما حوّلناه إلى أيقونة وضريح، وتناسينا موته وألم المعاناة، وعذابات المستشفى التي استعاد عبرها عذابات السجن.

نسينا الموت لحظة حدوثه، فالمهرجان استولى على طقوس التشييع ولم يسمح لنا بالبكاء، والضريح في رام الله حل مكان تراب الجليل الذي كان في انتظار عودة شاعره.

تناسينا آلام “الجدارية”، واحتفلنا باستعاراتها ورموزها، ولم نتوقف عند قصيدته الأخيرة التي نُشرت بعد وفاته، “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”. فالشاعر لم يكن يروي عن قصيدته إلّا كاستعارة للحياة.

بعد أربعة عشر عاماً على وفاته، يستفيق فينا الرثاء. تأملوا كيف مرت السنوات وعبر بنا العمر، واستيقظ فينا الأسى.

لكن درويش كان أكثر دهاء من أن يترك لنا مهمة الرثاء، فرثى نفسه بنفسه، وصار علينا أن نستعير كلماته كي نرثيه بها.

عندما انتهيت من قراءة مخطوط “في حضرة الغياب”، قلت له إنه جعل مهمة رثائه صعبة إن لم تكن مستحيلة، وإنه الشاعر الثاني الذي يرثي نفسه بعد مالك بن الريب. سألته لماذا لم ينشر في تصدير كتابه سوى بيت واحد من مرثية الشاعر الأموي:

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني

وأين مكان البعد إلّا مكانيا 

فهذا البيت لا يستقيم إلّا إذا وضعناه بعد بيت آخر يصف فيه الشاعر الأموي وحدته:

تذكرتُ مَن يبكي عليّ فلم أجد

سوى السيف والرمح الرديني باكيا 

ابتسم الشاعر بدهاء طفل يبحث عن بدايته في النهاية، ولم يجب.

محمود درويش كان وحيداً كشاعر المرثية الأولى، لكن وحدته كانت مكتظة بالآخرين. شاعر القبيلة الذي كانه كان في صراع مع شاعر الرؤيا الذي صار إليه، وفي هذا الصراع صار النثر شعراً والشعر نثراً. “فالشاعر هو الحائر بين الشعر والنثر” مثلما كتب في مرثيته، لذا صار شعره كالنثر ونثره كالشعر. دمج الصناعتين كي يصل إلى أرض قصيدته، وكان عليه في النهاية أن يختار بين أرض ناقصة ومكسورة ومحاصرة وبين القصيدة، فاختار القصيدة.

لماذا يحتل الرثاء هذه المكانة في أدبنا: شعراً ونثراً؟ حتى شعراء الحب، لم يشرق شعرهم إلّا في الغياب، فكان شعرهم مرثية لهزيمتهم الشخصية، ونشيداً لانتصار الحب على العشاق.

أعدت قراءة محمود درويش من خلال كتاب صغير صدر في بيروت سنة 2006، أي قبل عامَين من وفاته، فوجدتني أمام مرثية كبرى تمدح الحياة “لمَن استطاع إليها سبيلا”، وترثي التاريخ الذي يقتات على جثث الضحايا.

عنوان الكتاب يلخص طباقاته وثنائياته وحيرته. هل نحن في الحضور أم في الغياب؟ هل يكمّل الحضور الغياب أم يكتمل به؟ وما هي العلاقة بين الشعر الذي يسعى للتحرر من الاستعارات والرموز، وبين النثر الذي تكتظ به الاستعارات؟

هل صار الشعر نثراً كي يصير النثر شعراً؟

عُدْ طفلاً ثانية / علّمني الشعر / وعلّمني إيقاع البحر / وأرجعْ للكلمات براءتها الأولى / ِلِدْني من حبة قمح، لا من جرح، لِدْني / وأعدني، لأضمّك فوق العشب، إلى ما قبل المعنى / هل تسمعني: قبل المعنى / كان الشجر العالي يمشي معنا شجراً لا معنى / والقمر العالي يحبو معنا / قمراً / لا طبقاً فضياً للمعنى / عُدْ طفلاً ثانية / علّمني الشعر / وعلّمني إيقاع البحر / وخذ بيدي / كي نعبر هذا البرزخ ما بين الليل وبين الفجر معاً / ومعاً نتعلم أولى الكلمات / ونبني عشاً سرياً للدوري / أخينا الثالث/ عُدْ طفلاً لأرى وجهي في مرآتك / هل أنت أنا / وأنا أنت؟ / فعلّمني الشعر لكي أرثيك الآن الآن الآن / كما ترثيني!

هذا التخفف من الاستعارات والتشابيه، يتجاوز دلالات علم البيان ليطرح علينا ثلاثة أسئلة:

السؤال الأول: سحر الكلمات الأولى

يا لها من لعبة! يا له من سحر، يولد العالم تدريجياً من كلمات… ستشم رائحة الورد من التاء المربوطة كبرعم يتفتح، وستتذوق طعم التوت من جهتين: من التاء المتصلة ومن التاء المفتوحة كراحة اليد.

تأخذنا هذه الكلمات إلى يسوع الناصري، الجليلي الأول الذي عاش قبل شاعرنا بألفَي عام. “ففي البدء كان الكلمة… والكلمة صار جسداً”، كما كتب يوحنا في إنجيله. غير أن الجسد سيتحول ليلة الصعود إلى الصليب إلى خبز يؤكل كذبيحة اكتملت، وحولت الخمر إلى رمز للدماء.

الشاعر مشى على بحر الجليل، لكنه نزل عن الصليب:

ومثلما سار المسيح على البحيرة / سرت في رؤياي / لكني نزلت عن الصليب / لأنني أخشى العلو ولا أبشر بالقيامة. 

نزل الشاعر عن الصليب لأن الذبيحة لم تكتمل من أجل أن تصير رمزاً. هذا هو جوهر التراجيديا الفلسطينية، محمود درويش ليس شاعراً طروادياً، كما ادعى، فحرب البولوبونيز انتهت بمهزوم فقد لسانه وبمنتصر روى حكايته. أمّا في فلسطين فالحرب تبدأ كل يوم، والفلسطيني ينجو ولا ينتصر أو ينهزم، إنه الفريسة التي تتحايل على الصياد، وتحول التنين إلى تجسيد للفدائي المطارد مثلما كتب زكريا زبيدي.

براءة الكلمات الأولى تضيع في المجازات النثرية فتلتبس علينا الأشكال، لأن الراثي نفسه ملتبس، ولأننا نخوض مع الشاعر في بحر من معانٍ لا تتسع لها الكلمات.

لكن الكلمات هي فعل خلق مستمر، إنها الطين الذي يبثّ فيه الشعر الروح فيحيا، وتتخذ حياته مسارات متعددة الاحتمالات: تتمرد، تستكين، تنحني، تثور، وتنفض عنها المعاني القديمة وتصير فعلاً دائماً يستعيد البدء كي تشرق فيه الحياة.

السؤال الثاني: المثنى

مَن يخاطب مَن في هذا الكتاب؟ مَن المسجى ومَن المتكلم في نهر الكلمات الذي يغمرنا:

وأنت مسجى أمامي كفكرة تختبر صبر صاحبها على احتمالها؟ 

ثم يقول:

فماذا أقول لك يا صاحبي في حضرة هذا الغياب الناصع وقد أمليتَ عليّ خطبة وداع متقطعة الزمن خالية من الشجن، محكمة الفوضى، ولا دمعة فيها خوفاً على الكلام من البلل؟ 

مَن يخاف على الكلام من بلل الدمعة، الشاعر الذي يرثي أم الشاعر المسجى ميتاً؟ هل يحكي الأموات بعد موتهم؟ أم إن مَن يحكي هو مَن يشهد على الموت؟

سبق أن رثى الشاعر نفسه في “الجدارية”، ورسم مساحة القبر، وطلب أن نضع على قبره “سبع سنابل”، فماذا يفعل الآن بنفسه؟

كُتبت “الجدارية” بروحية الفريسة الناجية، فبعد العملية الجراحية التي كادت تودي بالشاعر في سنة 1998، خرج جلجامش القصيدة منتصراً على الصياد، لذا كانت الكتابة ممكنة. ذاكرة الألم ليست مطابقة للألم، بل هي دليل على النجاة. هذا هو مدخلي إلى قراءة هذه التحفة الشعرية التي تأخذنا إلى سحر احتمالات الشعر بمختلف أبعادها. أمّا كتاب “في حضرة الغياب” فكُتب بحبر الموت. كان الشاعر يعرف أنه “ليس وراءنا إلّا الوراء”، لذلك لجأ إلى بُنية المثنى كي يستطيع أن يكتب موته.

أستطيع أن أفترض أن درويش هو الشاعر المحدث الذي أعاد اكتشاف المثنى كبُنية شعرية وفكرية وإنسانية.

وللمثنى الذي يُنسب إلى سيد الشعراء امرىء القيس، تأويلات شتى. فهناك تأويل لغوي يعتبره إحدى الصيغ البدائية للجمع، وهناك تأويل شعري يقرأه بصفته تعبيراً عن انقسام الشاعر إلى نصفين: الشاعر وظله، وبينهما يدور الحوار ويتأسس البعد الدرامي في القصيدة.

الافتراض الأول، على الرغم من انطباقه على عدة لغات قديمة قررت التخلي عنه واستبدلته بالجمع، ليس ممكناً في لغة العرب. فماذا نفعل بامرىء القيس وبمعلقته “قفا نبكِ”؟ وماذا نفعل بسورة الرحمن في القرآن وبالمثنى الذي يضفي عليها جلال اللغة؟ وأخيراً ماذا نفعل بدرويش الذي اكتشف المثنى وأدخله في متن قصائده، بعدما نجح في استعادة حصان امرىء القيس، محولاً إياه إلى أبجدية جديدة:

فاصمُدْ يا حصاني / لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ / أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ / فانتصِبْ أَلِفاً،/ وصُكَّ البرقَ/ حُكَّ بحافر الشهوات أَوعيةَ الصَدَى / واصعَدْ، تَجَدَّدْ، وانتصبْ أَلفاً،/ توتَّرْ يا حصاني وانتصبْ ألفاً / ولا تسقُطْ عن السفح الأَخير / كرايةٍ مهجورةٍ في الأَبجدية.

نعود إلى الافتراض الثاني لنسأل كيف تنقسم الذات ولماذا.

الاكتشاف الدرويشي للمثنى بدأ مع ريتا وحكاية ذلك الحب المستحيل، واتخذ إيقاعاته في “سرير الغريبة”، ليصل إلى إحدى ذراه في قصيدة: “شتاء ريتا الطويل”. ومنذ تلك اللحظة أعلن الشاعر انقسامه إلى نصفين، فلعب مع ظله، ووجد في هذا الانقسام مجالاً رحباً للتعبير عن الأنا في تناقضاتها ومستوياتها المتعددة.

هل كان المثنى مجرد لعبة شعرية، أم إنه تعبير عن اعتقاد ترسّخ في تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية، ولم يختفِ إلّا في العصر الحديث، على الرغم من محاولة الشاعر المهجري فوزي المعلوف بثّ الحياة فيه؟

يقول هذا الاعتقاد إن وراء كل شاعر يعيش جني أو شيطان يُملي عليه شعره، وشياطين الشعراء لها أسماء وحكايات، من لافظ بن لاحظ شيطان امرىء القيس الذي استفاض حسين البرغوثي في رواية كثير من حكاياته، إلى مسحل شيطان الأعشى، إلى آخره… كما كتب الدكتور عبد الرزاق حميدة كتاب “شياطين الشعراء” الذي استفاض فيه في تحليل هذه الظاهرة وجمع حكاياتها من بطون كتب التراث العربي.

وقد ترك لنا الأعشى بيتين من الشعر، روى فيهما عن علاقته بشيطانه مسحل:

وما كنت ذا قولٍ ولكن حسبتني

إذا مسحل يبري لي القولَ أنطقُ

خليلان فيما بيننا من مودة

شريكان أُنْسِيٌّ وجِنِّيٌّ مُوَفَّقُ 

هذا الافتراض أخذ ابن شُهيد الأندلسي إلى كتابة نصه المدهش: “التوابع والزوابع”، والذي ذهب فيه في رحلة إلى العالم الآخر لا ليتحاور مع الشعراء، كما سيفعل أبو العلاء، بل للتحاور مع شياطينهم.

هل يصح أن نفترض أن المثنى هو وليد هذا الافتراض، وأن الشاعر، في عُرف الأقدمين، كان شاعرَين، إنسيّ وجِنيّ، وهو ما يفسِّر في عرفهم الوحي الشعري، أو ما نطلق عليه نحن اسم الرؤيا الشعرية؟

الشياطين والجن اختفوا في زمننا، وبقي المثنى شاهداً على الرؤيا التي تجعل من الشعر شعراً، وتستولي على حيوات الشعراء كي تجعل منهم أدوات للكتابة.

الشاعر هو أداة الشعر وليس سيده، وحين ينتهي من كتابة القصيدة يصير أميراً للكلام، بحسب الخليل بن أحمد الفراهيدي.

المثنى الدرويشي يتجاوز دور الشاعر كشاهد، ويضعه في منزلة الرائي. هذا الكتاب – المرثية كُتب بحبر المثنى، أي بحبر هذا الحوار المدهش بين الأنا والظل:

وُلدنا معاً على قارعة الزنزلخت، لا توأمَين ولا جارَين، بل واحداً في اثنين، أو اثنين في واحد. 

الظل لا يتبع صاحبه، بل يتسمر في الأرض ويصير “كنبتة سمسم خضراء في النهار وزرقاء في الليل”.

هل الطبيعة هي ظلال البشر، أم إن الناس هم ظلال الأشجار؟ هذه النبرة الفلاحية التي صبغت التجربة الدرويشية حررت الأرض من الرمزية الفجة، لأنها أدخلتها وأدخلت عناصرها في نسيج الحياة.

وكي يستطيع الشاعر رثاء نفسه انقسم إلى نصفين، أو وحّد نصفَيه في نص ينقسم هو الآخر إلى نصفين، نصف للنثر ونصف للشعر، وفي هذين النصفين الجديدين تختلط الأمور، بحيث يمتزج الشاعر بظله، ويعجز النص عن تمييز نثره عن شعره.

يوحي لنا الفصل الثالث من الكتاب، بأن الشاعر قرر العودة إلى الكلمات العارية، ومضى إلى الغياب، تاركاً للظل مهمة الرثاء النثري، لكننا نكتشف ونحن نبحر مع الكلمات أن هذا الانطباع كان خطأ، وأن المسافة بين الشاعر وظله ليست واضحة المعالم، فهما يمتزجان ويفترقان كما يحلو لهما، ويلعبان بنرد الكلمات.

السؤال الثالث: الحدود الفاصلة بين النثر والشعر

هل هناك حدود واضحة تفصل النثر عن الشعر في التجربة الدرويشية؟

الجواب عن هذا السؤال بسيط ومعقد. بسيط: لأن الشاعر فصل في كتبه المتعددة بين الكتابات الشعرية والكتابات النثرية. فقد جمع بعض مقالاته في كتب: “يوميات الحزن العادي”، “حيرة العائد”، “وداعاً أيتها الحرب وداعاً أيها السلام”، كما نشر كتاباً نثرياً كاملاً عن تجربة حصار بيروت واحتلالها. أمّا الشعر فخُصصت له مجموعة دواوينه، من “أوراق الزيتون”، وصولاً إلى “كزهر اللوز أو أبعد” و”لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”.

لكن القارىء سيلاحظ أن درويش كتب النثر بروحية الشعر. تشعر وأنت تقرأ نثره بأن الكلمات تشرقط تمهيداً لاشتعالها في القصيدة. لكن الشاعر احترم دائماً المسافة بين الصناعتين، إلى أن أصدر هذا الكتاب – الرثاء، ثم أتى “أثر الفراشة” الذي وُضع له عنوان جانبي هو يوميات.

لقد كسر هذان الكتابان الفاصل بين النثر والشعر: “أثر الفراشة” هو ديوان شعري متكامل. نصوصه النثرية والموزونة هي قصائد مستقلة مكتفية بذاتها، لكن القصيدة النثرية هي صيف الشعر، مثلما يقول:

الصيف هو القصيدة النثرية، الصيف لا يصلح للإنشاد إلّا فيما ندر، الصيف قصيدة نثرية لا تكترث بالنسور المحلقة في الأعالي. 

لذلك ربما أتت القصيدة التي حمل الديوان عنوانها موزونة وتليق بأثر الفراشة: 

هو مثلُ أغنية تحاولُ / أن تقول وتكتفي / بالاقتباس من الظلال / ولا تقولُ / أثر الفراشة لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزولُ. 

أمّا قصيدة “واجب شخصي”، فنموذج لنضج قصيدة النثر على أغصان البحور الخليلية، لكن درويش رفض الاعتراف بهذه الحقيقة لأنه الشاعر الذي حوّل إيقاعات الخليل إلى “إزميل ماء يقطع الصخر”.

تضمين الشعر في النثر ليس جديداً في التراث الكلاسيكي العربي، أو في الرواية المعاصرة. ففي “ألف ليلة وليلة” يأتي الشعر ليلخص الحكاية، فهو مسامير المعنى التي تضيء ما خفي، وتستخلص وتستنتج.

النثر الكلاسيكي العربي مزيج غريب من النثر والشعر. وكتاب “طوق الحمامة”، لابن حزم الأندلسي، نجح في بناء هذا الإيقاع المزدوج من دون أن يكسر المسافة بين الحكاية والقصيدة. بل جاء الشعر ليحمل النثر على إيقاعاته.

أمّا في كتاب “في حضرة الغياب”، فنحن أمام شعر ينثر المعاني، ونثر يشعرنها، وهذا الطباق الأدبي هو الجواب الفني على المثنى الذي تزدوج فيه الأنا.

تحار وأنت تقرأ، هل أنت أمام نثر مرصع بالتشابيه والاستعارات، أم أنت أمام شعر يتناثر ولا يسقط في النثرية؟

ما هي العلاقة بين الخيال والذاكرة؟ هل الخيال حبة كستناء والذاكرة رمانة؟

يكتب الشاعر:

يقع الخيال من أعلى، يتدحرج كحبة كستناء على الشارع المفضي إلى عكا. 

ويكتب أيضاً: 

ذاكرتي رمانة، هل أفرطها عليك حبة حبة، وأنثرها عليك لؤلؤاً أحمر يليق بوداع لا يطلب مني غير النسيان؟ 

هذه العلاقة بين الخيال والذاكرة / النسيان تقود الشاعر إلى ملامسة الرواية، ليس كروائي بل كبطل يشعر في المطار بأنه 

هارب من إحدى الروايات المعروضة في كشك الصحف، هارب من المؤلف والقارىء والبائع، وفي وسعي أن أضيف وأن أحذف وأن أعدّل وأن أبدّل وأن أقتل وأُقتل… 

هروب الشاعر من الرواية ليس جديداً، فقد سبق أن هرب منها في “ذاكرة للنسيان”، وها هو هنا يواصل هروبه. فبدلاً من حكايات حياته نراه يكتب إشارات إليها، كأنه عاش فوق التفاصيل أو تحتها. كلماته تقتبس الظلال كأثر الفراشة، وتقول ما لا تقول، أمّا الرواية فهي سيرة انتظار موت الفراشة وهي تُودِع أثرها في الأشياء. والشاعر مثل الموت لا يحب الانتظار.

مَن يملك الكلام، الشاعر أم ظله؟

وماذا يحدث حين يفترق الشاعر عن ظله؟

“في الظلام، دخلنا وتسللنا إلى غزة، رأيتك تمشي أمامي وحملت عنك خيالك”، هذه هي حكاية هذا الكتاب، نرى الأشياء وهي تندغم بظلالها قبل أن تفترق عنها. نذهب إلى ظل البروة، ونستكشف بيوت دير الأسد، ونشهد أن عالم الظلال حقيقي كأثر الفراشة، الأمر الذي يدفعك إلى القول: “تذكّر بلادك وانسَ السماء”.

لكن إلى أين نذهب بعد هذه السماء الأخيرة، يتساءل إدوارد سعيد، فيجيبه الشاعر في قصيدة طباق: 

نسر يودع قمته عالياً عالياً / فالإقامة بين الأولمب وفوق القمم / تثير السأم / وداعاً وداعاً وداعاً لشعر الألم. 

الفراشة تحولت إلى نسر يهوي من الأعلى إلى الأعلى، والظل يودع صاحبه.

أيتها السيدات والسادة

أعترف في نهاية هذه المرثية بأنني فشلت في رثاء الشاعر، فما قمت به ليس أكثر من استخدام ناقص للنص الذي رثى به نفسه.

هذا ما قلته له حين قرأت مخطوطة هذا الكتاب منذ سبعة عشر عاماً. وأريد أن أعترف أمامكم، بأنني لم أجروء على قراءة الكتاب عند صدوره في سنة 2006، فآنذاك أصبت بالخوف من موت الشاعر فأجّلت القراءة وتناسيتها. وبعد موته في أحد مستشفيات هيوستن في الولايات المتحدة، أحسست بأنني صرت عاجزاً عن قراءة الكتاب، لأنني خفت على الكلمات من أن يبللها الدمع.

ومع أنني زرت بيته في عبدون في عمّان بعد وفاته، برفقة بعض الأصدقاء، حيث عثرنا على قصيدته الأخيرة، إلّا إن علاقتي بهذا الكتاب بقيت ملتبسة، ويلفها العجز.

ترددت طويلاً قبل أن أعيد قراءة ما سبق أن قرأته منذ سبعة عشر عاماً من أجل إعداد هذه المرثية، وعندما قرأته من جديد شعرت بأن الفراشة صارت أثر الفراشة، وأن الشاعر صار شعره.

لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي أبداً

لا أريد لها هدفاً واضحاً

لا أريد لها أن تكون خريطة منفى

أو بلداً

لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي

بالختام السعيد ولا بالردى

أريد لها أن تكون كما تشتهي أن تكون

قصيدة غيري قصيدة ضدي

قصيدة ندّي

… وكأني أنا آخري 

نرثيك ونسميك الشاعر، لأنك رسمت الكلمات على بياض اللانهاية، ودخلت في تصادي الشعر بالشعر.

لا أجد ما هو أكثر بلاغة من صورة حصان يسقط مضرجاً بالقصيدة، ففلسطين التي غنّيتَ لجليلها هي شعرنا وجرحنا وملحنا، نلفّها بمثنى الشهيد والشاهد، وبصورة الشاعر الذي يلتحم بظله ويفترق عنه، كي يكون غيابه حضوراً.

وغائبان أنا وأنتَ، وحاضران أنا وأنتَ / وغائبان / فبأي آلاء ربكما تكذبان.

 

الكلمة الافتتاحية في مؤتمر “محمود درويش: سردية الماضي والحاضر” الذي نظمته مؤسسة قطان بالاشتراك مع كرسي محمود درويش في “بوزار” في بلجيكا، في 24 و25 و26 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، في رام الله.

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00