بأقلامهم الياس خوري يكتب عن : أزرق الحلم في بيروت by admin 13 يونيو، 2023 written by admin 13 يونيو، 2023 105 كيف أكون غريباً وقد تتلمذت على يد قسطنطين زريق ونهلت من علم أنيس فريحة وقرأت «طوق الحمامة» حين أخذني إحسان عباس إلى الأندلس، وتعلمت الفكر النقدي من صادق جلال العظم؟ الياس خوري – صفحة الكاتب facebook لم أصدق عينيّ حين رأيتهم في الملعب الأخضر في الجامعة الأميركية في بيروت، مساء يوم الجمعة 9 حزيران- يونيو 2023. كانوا يقفون كأنهم أمام مصوّر فوتوغرافي يستعد لأخذ صورة تذكارية لهم. من أين أتوا؟ وماذا يريدون؟ وقفتُ على المنصة وأمامي ورقة كتبت فيها كلمتي القصيرة في حفل التخرج، كما طُلب مني. أذكر أنني ذكرت أسماء بعضهم في النص الذي كتبته، كتحية لغائبين صنعوا جزءاً كبيراً من وعيي وذاكرتي، لكنني رأيتهم أمامي فجأة. نظرت إلى الورقة كي أقرأ، كانت الأحرف ممحوّة، وظلال الحبر تغطي الكلمات، نظرت إلى البعيد وكان البحر يتموّج بكلماتهم، ويعيد صوغها. وقرأت. كانوا في معظمهم أساتذة في الجامعة الأمريكية في بيروت، ما عدا ثلاثة: جرجي زيدان طالب الطب الذي ترك الجامعة بعد المعركة التي اندلعت حول نظرية داروين، ومحمود درويش الذي تعلم في مدرسة الألم، وإدوارد سعيد الذي احتل طيفه وفكره كل جامعات العالم. لماذا أتوا بي إلى هذه المنصة؟ ولماذا يكرمني فيليب خوري وفضلو خوري ورفاقهما من أعضاء مجلس الأمناء، بأعلى شهادة فخرية تمنحها الجامعة؟ قال أحد الأصدقاء إن هذا التكريم تأخّر، فابتسمت، وحاولت أن أقول شيئاً، لكنني لم أقل. فأنا لم أتخرّج من هذه الجامعة. درست في الجامعة اللبنانية ومنها تخرّجت. الجامعة اللبنانية تتعرض اليوم لخطر محو ذاكرتها. كنا مجموعة من الرفيقات والرفاق الذين خرجوا من مقاعد الدراسة في كلية التربية، وملأوا الأفق الثقافي اللبناني بأحلام التغيير، لنجد أنفسنا اليوم وقد جُرّدنا من تاريخ جامعة النضال من أجل ديموقراطية التعليم في لبنان. لكنني لم أشعر بالغربة وأنا أقف على منصة الجامعة الأميركية وأقرأ من كتاب بيروت، المغمس بالحلم المغدور والخيبات والإصرار على تحدي الموت. كيف أكون غريباً وقد تتلمذت على يد قسطنطين زريق ونهلت من علم أنيس فريحة وقرأت «طوق الحمامة» حين أخذني إحسان عباس إلى الأندلس، وتعلمت الفكر النقدي من صادق جلال العظم؟ كيف أكون غريباً وأنا أستمع إلى الموج مردداً شعر خليل حاوي، وأكتشف العراق وسورية مع حنا بطاطو، وأبحث عن منزلي في «بيت بمنازل كثيرة» لكمال الصليبي؟ الجامعة حرم للفكر والحرية، لكنها أرض مفتوحة على المجتمع، فيها نتعلم من تجربة العلاقة بين الفكر والحياة، ومن خلالها نطل على البحر، ونمارس حقنا وواجبنا في أن نكون صوتاً للعلمانية والانفتاح ومقاومة الاستبداد والاحتلال، وسط الغابة الطائفية التي يفترسها الفساد في لبنان. كيف أكون غريباً في جامعة تخرّج منها جورج حبش وشفيق الحوت، وكانت بيتاً للفلسطينيين، ومكاناً تفتّح فيه وعيهم بنكبتهم ونكبة العرب؟ كيف أكون غريباً وأصدقائي السوريات والسوريون من مثقفين ولاجئين وعمال يحيطون بي ويحافظون على معنى بيروت بصفتها مدينة الغرباء؟ كيف أكون غريباً وأنا أشهد على أن نبض انتفاضة 19 تشرين، يتفتّح براعم علمانية شبابية رغم القمع ووحشية المنهبة اللبنانية؟ ووجدتني بين أهلي، ووجدت بيروت وهي تلتمع بيد قسطنطين زريق التي شقت الثوب الجامعي بكتابه «الأحمر الصغير»، معلنة أن المعرفة هي معبر إلى الحرية والتحرر، وأن العلم هو أحد أبواب التغيير. رأيتهم يتماوجون على شاشة أزرق البحر، وسمعت أصواتهم وهي تروي عن الموت بصفته مجرد حيلة تصنعها الحياة وهي تجدد فصولها. فالثقافة تضمنا جميعاً أحياء وموتى في موكب البحث عن الحرية. وفجأة رأيت معلمي جورج خضر يطل علينا من برمانا، حاملاً بيده كتاب: «فلسطين المستعادة»، يقوم بإدغام كلمتي عنوان كتابه في كلمة واحدة، ويبشرنا بنهضة ستزيح ركام هذا الانحطاط الذي يحاول تدمير مدينتنا. أطيافهم التي احتلت المكان جعلتني أقرأ ما كنت عاجزاً عن كتابته، وأقنعتني بأن لبنان والفكرة العربية ينبضان بالحياة التي تختزنها الكلمات، وأن ما نراه اليوم هو خدعة بصرية فرضها حضيض المافيا الحاكمة الذي يريد تقزيم بلادنا من أجل أن تلائم حجم سلطة النهب والعنصرية الطائفية. هل تصنع الكلمات وطناً؟ بالطبع لا، الوطن هو من يوحي لنا بكلماتنا، لكن حين نتكلم عن الوطن فنحن لا نحكي عن فكرة متعالية وغائمة، أو عن حكاية لا نجدها سوى في كتب الأساطير، بل نحكي عن تجربة شعب واجه الهول، وقاوم ولا يزال يقاوم، كي يكون له وطن بحجم نهضة عربية جديدة، تكتبها آلامنا وأحزاننا وإصرارنا على الدفاع عن كرامتنا وسط هذا الخراب الاستبدادي العربي، الذي يحيط به شبح الاستسلام أمام الوحش الصهيوني. وفجأة، ومع تدفق الخريجات والخريجين على المنصة، وهم يحملون شهاداتهم، بدأت وجوه المعلمين الكبار تذوب في وجوه هؤلاء الشابات والشبان. في هذه الوجوه التي يضيئها الحلم ويحاصرها القلق، رأيت كيف يصير نور الماضي جزءاً من بحث الحاضر عن الضوء الذي يبدد عتمة هذه اللحظة المنقلبة. لهم ولهنَّ يليق التكريم، وبهم وبهنَّ ترسم بيروت أفقاً جديداً يبلسم جراحها ويعيدها إلى مكانها في أزرق الحلم الذي لا يموت. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف كانت مصر القديمة ستبدو اليوم؟ الذكاء الاصطناعي يكشف صورا تبدو واقعية بشكل لا يصدق next post كم سنة لدينا قبل أن يقضي علينا الـAI.. جواب غريب! You may also like ماثيو ليفيت يكتب عن: كيف أُدرِجت هيئة تحرير... 20 ديسمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن : هل يستمر الصراع... 20 ديسمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: هل وصلت دمشق... 19 ديسمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن : لبنان والمسألة الثقافيّة... 18 ديسمبر، 2024 سوزان مالوني تكتب عن: الوضع الجديد… والخطير في... 18 ديسمبر، 2024 ديفيد شينكر يكتب عن :بغداد بين سندان “الحشد”... 17 ديسمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: إطلالة الشرع… وكؤوس السم 16 ديسمبر، 2024 فريدريك سي هوف يكتب عن: سوريا ومستقبل إيران 16 ديسمبر، 2024 مايكل نايتس يكتب عن: لا تفتَرِض أن خطوط... 16 ديسمبر، 2024 عيدو ليفي يكتب عن: دعم قوات سوريا الديمقراطية... 16 ديسمبر، 2024