الخميس, نوفمبر 28, 2024
الخميس, نوفمبر 28, 2024
Home » الياس خوري في : حوار مع البحر

الياس خوري في : حوار مع البحر

by admin

 

من البحر، ترى الأرض المنكسرة الأرض التي يحاول الوحش أن يبتلعها. في الماضي كان الوحش يحاول أن يبتلع القمر. وقيل إنه ابتلعه. أما اليوم فالوحش يأكل الأرض والأشجار. الوحش على اليابسة.

الياس خوري\ صفحة الكاتب facebook

يشبه البحر امرأة غائبة. لا يشبه البحر إلا وجهها الغائب في البعيد والبحر يمتد، الأزرق، الأخضر، الرمادي، الفاتح، الغامق، الألوان تختلط بالألوان، والعيون تختلط بالعيون. وهي تمتد على مساحة البحر، وصوتها البعيد يأتي ضاحكاً. ينكسر الموج فيه ويعل. والوعود تنحني على الوعود.

يشبه البحر غيابها، وغيابها لا يشبه إلا نفسه. إنها الغياب الحاضر، والبحر يمتد في العيون والأصابع، والألـوان تنتشر على الجسد الوحيد الذي كان امتداداً للموج. والواقف على الشاطئ المنحني يقف ويسأل العيون، ثم يغرق بين الموجة والموجة، يطمر عينيه في الأزرق الفاتح ويحاول أن ينسى. وينسى.

قال لي إنه يسأل البحر وينسى السؤال. وحين يجاوبه البحر يكون هو قد نسي كل شيء. قال لي إنه أراد أن ينسى، قال وغاب. ووجهها يغيب بين الموجة والموجة ثم يحضر كأنه يلتمع بالدهشة والرغبات التي لا تمحوها المدن المهدمة.

نظر إلى البحر وقال إنه يبحث في البحر عن الأفق. نظر إلى الأفق وقال إنه يبحث في الأفق عن البحر. وضاعت النظرات بين انتظار وانتظار، وبقي البحر وحده كأنه الأرض وهي تنحني على أحزاننا وانتظاراتنا.

سألني، ولكنهم لا يعبدون البحر؟

قال إن الإنسان كائن بالغ الغرابة، عبد كل شيء، النار والأنهار والريح والمطر، لكنه لم يعبد في الطبيعة ما يستحق العبادة. البحر وحده لم يعبده الإنسان، لأنه يخاف من هذا الجوف المليء بالحياة، الذي خرجت منه كل حياة.

يقف أمام البحر ويفتش عن الحياة، والحياة تهرب من بين أصابعه، الأرض تدور به، وهـو يدور حولها، ويكتشف في لحظة أن العمر يكاد يمضي به إلى حيث الرمل يغطي كل شيء، وإنه على حافة الرمل يكاد ينسى البحر. يكاد يغرق بين حبات الرمال التي تأكل بعضها هرباً من الموج.

يقف أمام البحر وتنخطف عيناه أمام وجهها الغائب. هل يستطيع وجه أن يمتد إلى حدود الموج؟ ولكن الوجه الغائب يحضر، والعمر يحضر وهو الواقف في البحر أمام هذا الموج الذي لا ينكسر، يطمر وجهه بين حبات الماء ويغيب.

قال لي إنه لا يستطيع أن يخرج من البحر.

البحر ليس ورطة إلا للذين لا يحبون الحياة. البحر كالحياة؛ يمحو كل شيء، الماء يمحو كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يمحو الماء؛ لذلك لا تكتشف الأشياء إلا حين تكون في الماء، يغسل البحر يـديـك وعينيـك وذاكرتك. يمحوك وبلغيك من جديد. وفي اللحظة التي تستطيع فيها أن تفهم لغة الماء، في اللحظة التي يمحوك فيها الماء، تكتشف أنك كنت حين لم تكن، وأنك لن تكون إلا حين تنمحي صـورتـك المرسومة على صفحة الماء، وفي هذا الماء الوحشي الذي لا ينتهي ترمي بكـل شيء وتكتشف الانتظار.
وهي، على الطرف الآخر من البحر، هي إلى جانبك ولكنها بعيدة، هي صوتك ولكنه غائب، وأنت في الماء كأنك في عينيها، تقول لها أن تغمض عينيها، تطلب منها أن تغلق الضوء على صورتك كي تنمحي أنت ويبقى الماء.

والماء، يمحو، الألوان تولد من جوف الظلمة الشاسع، الأسود يعلن نفسه أنه هو الأول، ولا أول قبله. وتغرق في الأسود لتجد نفسك محاطاً بكل الألوان.
وفي البحر ترى المدينة المنكسرة. كل الناس رأوا البحر من المدينة، فرأوه شاطئاً ورأوها حيطاناً. أما حين ترى المدينة من البحر فإنك تكتشف مدينة ثانية.
ترى الحجارة المنكسرة، والحيطان التي يشققها تعب الانتظار. ترى بيروت الغامضة كنفسها، تراها ليمونة حمراء تتلاعب بها الأيدي، تقترب من الليمونة الغامضة كنفسها، تجد الليمونة عائمة فوق صفحة الماء، تجد الماء تحيط بها تجدها كأنها رجل غرق جسمه كله ولم يبق منه سوى هذه الإشارة الأخيرة.
من البحر، تكون المدينة المنكسرة هي الإشارة الأخيرة.

لكنها لا تطلب الرثاء، لأن المرائي لا تستحقها، لا تطلب أن تعود لتحيا من جديد، لأنها لا تحب الموتى الذين لا يعترفـون بموتهم، بل يكابرون فيسيئون إلى معنى الموت. تجدها كشجرة مقطوعة لا تطلب لنفسها شيئاً، ولا تطالبك بشيء، كأنها أنت، تشبهك المدينة المنكسرة حتى نهاية الموت، وحين تريد أن تعلن أنـك حـزين، تكتشف أن الحـزن صـار مضحكاً، لأنهم لم يتركوا موقفاً لم يدمروه، فتخرس أحزانك وتضحك.

من البحر تضحك المدينة عليك وعلى أحلامك.
لكن الأحلام صنعت المدينة.

ولأن الأحلام صنعت المدينة، فالمدينة تضحك على الأحلام، لأن الأحلام صنعت هذه الأرض، فالأرض تضحك ولا تترك لنـا مجـالاً. تضحك وتدفشنا نحو الماء.
من البحر تبدو بيروت كأنها امتداد للماء، كل شيء فيها يبدو مؤقتاً. كل المؤقتات تجتمع هنا، ونحن في المؤقت حـاولنا أن نهدم الحجارة، حاولنا أن ننهدم مع الحجارة، حاولنا ولن نخرج من هذا الماء الذي خلقنا على صورته.

من البحر، ترى الأرض المنكسرة الأرض التي يحاول الوحش أن يبتلعها. في الماضي كان الوحش يحاول أن يبتلع القمر. وقيل إنه ابتلعه. أما اليوم فالوحش يأكل الأرض والأشجار. الوحش على اليابسة.

وأنت تعلم. أنت لا تعلم شيئاً. علمك البحر شيئاً واحداً، علمك أنه يطوي آلاف الوحوش طواها هذا البحر الأبيض الملون، وبقي أبيض وملوناً، علمك البحر أنه يطوي ويمحو وهو حين يمحوك يعلن أنه قادر على أن يمحو الوحش ويطويه.

تغرق في الماء وتكتشف عينيها… وتقول لعينيها كلاماً، وتحبك العيون بإغماضة تغلق الضوء على الألوان.

[مرَّت أربعون عاماً، والبحر هو البحر].

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00