ثقافة و فنونعربي المَرْحُوم: ماذا لو أصبحت الثّقافة قبْراً؟! by admin 15 سبتمبر، 2019 written by admin 15 سبتمبر، 2019 14 سامي عبد العال ” عندما لا ندري ما هي الحياة، كيف يمكننا معرفة ما هو الموت”…( كونفوشيوس) ” الشّجاعة تقودُ إلى الّنجوم… والخوف يقودُ إلى الموتِ”… ( لوكيوس سينيكا) ” المرْحُوم ” كلمة تُطلق على منْ ماتَ، أي انتهى أَجله وأَفِلَّتْ حياتُه. وهي ” نحتٌ ثقافي تاريخي” يبثّ أملاً في رحمة السّماء لمن سقط بالموت. أحياناً استعمال الكلمات يروض الأقدار لصالح آمالنا المنتظرة. ويَبْرِز معناها كنوعٍ من الوعد، العهد، الميثاق بين إله خالص الرّحمة وبين مخلوقاته. لأنَّ كلمة المرحُوم تأتي بصيغة المفعول به تحت ضمان فاعل قادر( أي الله). فاعلٌ يُفهم تلقائيَّاً بمنطوق الكلمة طالما قررنا الاعتقاد خلفها، وهذا هو جوهر الإيمان الّذي يحرّك ما يصبو إليه المؤمن طبقاً لما يعتقد. ودلالة المرحُوم بها أثر من الانجاز يبقى سارياً مع عملية التكرار. مؤدَّاهٌ: أنَّ هناك سنداً في الدّلالة يترجم المستوى المنطقي لما يتعلّق بها ( أي تمت الرّحمة ). فلو كانت للمرحوم ذكرى معينةٌ أو مواقف مّا، فإنَّه يترك آثاراً من قبيلها عبر الكلام الشّائع ( كانت صفته كذا وكذا: الله يرحمه). غير أنَّ المعنى ( ثقافياً ) مختلفٌ بالكلية ويناقض ذلك تماماً. حيث يُظْهِر بلوغ الميّت مرحلة السّكون النّشط في اللّغة (هكذا هي مفارقته). فالميّت – بصيغة الغياب لأنَّه لم يعد حياً- كامنٌ في اللغة، ولكن تستدعيه الذاكرة أثناء الحياة من وقت لآخر. هو عندئذ إنسانٌ في صورة الغائب وفي صورة الحاضر معاً. وقد تُنسب إليه عبارات لم تذكر إلاَّ تواً، ذلك كونِّه ميتاً منذ فترة قصرت أو طالت، وأيضاً أصبحت مكانتُه قيدَ التواتر بين الناس. أي أنَّه غدا ميتاً معتَّقاً له قيمته التي ربما لم تُعرف أثناء حياته. ومعنى المرحُوم يبلغ في مناوشة للاوعينا الجمعي درجةً بعيدة، حتى أنَّه يُسائل الحياة، حياتنا وحياة الآخرين. لأنَّه سيمثل معياراً norm لما ينبغي فعله، حاملاً معه ماذا سيكون موضوع التفكير وكيف سنفكر وإلى أي مدى سنرتبط بالزمن الماضي دون سواه كما سنحلل تباعاً. لأنه صار موضوعاً ثقافياً مهماً لمن يعيش الثقافة ويمارس المفقود منها. على سبيل التّوضيح، حين يموت “مثقف” يصبح خلال الفضاءات الثقافيّة – كالفضاء العربي الإسلامي- أيقونةً بعدما كان مُهملاً. قُلْ ذلك حول الساسة والفقهاء والشيوخ وأصحاب المناصب ورجال العلم ورموز الأوطان وأبطال القصص. وربما تلاصقهم ايحاءات وإشارات لم تكن لترد عنهم وهم أحياء فوق الأرض. ولربما تذهب صورتهم إلى خيال يعطى الأفراد أبعاداً أخرى للواقع والأشياء. ورغم انسحاب الفكرة على ما يحدث وراء دلالة الموت بحكم الذاكرة والحنين إلى الماضي، إلاَّ أنها ضمن حدود الثقافة السائدة تعدُّ آليةَ حياةٍ وذهنيةَ تفكيرٍ في المجتمعات الشرقية عرباً وغير عربٍ( الثقافة الصينية والهندية واليابانية). إنَّ هناك قداسةً خاصة للآباء والأجداد في الثقافة الصينية، لدرجة أنَّ خرائط الأنساب والنسل في الصين تحفظ عن ظهر قلب وتورث من جيل إلى آخر، تحفظ بواسطة مدونات سردية لهذه الأغراض وتدوَّن بجوارها الحِكم والمأثورات والقصص وسير الحياة والخطب والنصائح والمواعظ. أي يدبج الناس كتيبات وأوراق كصحائف تنقش عليها الأعمال والإحداث الشخصية( كتاب الأعمال بالنسبة للأفراد). وقد اعتبر الصينيون أنَّ النسل( سلفاً وخلفاً) يحدد الولاء لأقدار الطبيعة داخل الإنسان، ويلحقها بقيم العائلة والطاعة والانتماء والخلاص والتراتب والرأسمال الاجتماعي. والفكرة ذاتها متغلغلة في ثقافتنا الشعبية التقليدية، فهناك خرائط الانساب وحفاظها واشجار العائلات التي تتفرع منها رأسمالية النسب لدى العرب، لأنها معتمدة على القداسة والشرف والفضائل وخلوص المصاهرة وبذور السلف الصالح. وقد لعبت القبيلة والعشيرة والأسرة دوراً في دفن هذا الوضع المتراتب ضمن حفريات الثقافة واعادة انتاجها. وقد دخلت الفكرة كمعيار في التنقيب عن تاريخ الأشخاص وافعالهم وماذا سيؤولون إليه تبعاً لشجرة العائلة. ورغم أن الأجيال هم ثمار اشجار النسب إلاَّ أن جذورها وبذورها لا يمتلكونها ولا فضل لهم في زرع فسائل جديدة. والخلط لا يعوزه الشرح بين نسب أشخاص خارج ارادتهم وبين الاعمال والمسؤولية الموكلة إليهم إزاء المستقبل، حيث لا تفيد حتى غابة من النسب والأصول!! إلى تلك النقطة: هل يمكن أنْ تحول الثقافة أحياءَها إلى مجرد سرديات ” قبور” لندرك أهميتهم؟ وهل تزداد قيمة المثقف( مفكراً، أديباً، كاتباً) بعد مماته رغم أنَّه كان حياً؟ ماذا يُضاف إلى الإنسان حين يموت ليستعيد مكانته؟ لماذا كلمات الرحمة على الأموات تتعلق بمعان ترتبط بالأصالة والقيمة والخيال؟! وهل يمثل ذلك قضية مهمةً على خريطة الأفكار والعقل؟! بؤرة الإشكال أنَّ هذا المرحوم” مقولة مسيَّسة” في الثقافة العربية الاسلامية إزاء مجالات الفكر والإبداع والكتابة. وتكاد تمثل منزلة ليس بين المنزلتين على طريقة المعتزلة في مرتكب الكبيرة، إنما تدخل في كل المنازل لدينا. فقد تخطى المرحوم حاجز الحياة والوعي الغُفل. الطريف أن المرحوم تصبح له نكهة خاصة وأكثر دلالة بمجرد أن يقطن القبر. مع أنه عندما كان حيا ًلم يلتفت إليه أحدٌ، وكم أكله الاهمال وكان طي الظلال لا يكاد يطفو. ومن جراء التقديس، يقال كان المثقف المرحوم(فلان) يتحدث في كذا وكذا، كان الأديب( فلان) الذي اسهم هنا أو هناك، كان المناضل (فلان) له مواقف من الجرأة والحماسة ما تراه الاجيال اللاحقة جديراً بالاعتبار. رغم أن هؤلاء المثقفين سواء أكانوا أدباء أم مفكرين أم مناضلين لم يعرهم أحدٌ أيَّة عناية، وكانوا مادة متواصلة للسخرية واستهزاء الأنظمة الاجتماعية والسياسية. كيف تتجاهل ثقافة الحياة بينما تعطي أهمية لمن يغادرها؟! ” قبور الثقافة” عبارة عن تحول بعض المساحات الثقافية إلى قبر ضخم( حفرة رمزية وسلطوية) للإنسان حياً وميتاً. الفارق أنَّ دلالة الحياة بالنسبة لهذه الثقافة تُغيِّب قيمة الأحياء لصالح الأموات. حتى إذا كان الإنسان حيَّاً، فلا يحظى بالمكانة والتأثير والفاعلية كما يجب. ويظل كائناً مقصيَّاً على هامش المجتمع، فإنْ مات صارت له صبغة التقديس. والثقافة العربية باسم آخر قد تحول القدرات الحية للأشخاص والرموز والأفعال إلى أرصدة لسلفٍ يجب أن تمر عليهم دهورٌ حتى ينالوا مكانةً في اللاوعي الجمعي. أي أن هناك في المجتمعات العربية الاسلامية مجالاً لتقديس الأموات وتنصيب الغابرين كأسلاف أفذاذ في الفكر والدين والاعتقاد والحياة ذاتها. حتى قيل ” ليس في الإمكان أبدع مما كان”. وهذا النوع من الحياة يقلل من شأن الإنسان ويكتب سيراً ذاتية للأفراد والعلاقات والجماعات بصيغة الموت ويعطي الحياة المعيشة مرتبة أدنى باستمرار. وهو ما ينعكس على رؤيتنا لأنفسنا ولتطور الحضارة والاسهام في مسيرة الإنسانية وبأي معنى نعيش عصرنا الراهن وكيف نحيا داخل الزمن و أية مواضع لأقدامنا من العالم والثقافات الأخرى. بالإجمال إنه موقف يلغي وجود الاجيال الجديدة ويجعل من المستقبل تبغاً فارغاً للقدماء. هل سيظل المثقفون العرب ينتظرون حتى يموتوا لنيل مكانتهم في الحياة؟ اللعبة التاريخية أن قبور الثقافة( أو موت ثقافة) تعيش بأفرادها الحياة لإلقاء الأهمية على الموت دون مبرر إلا من ميراث طويل يمجد الماضي ويحتقر الحاضر، يضفي هالات النورانية والخلود على الموتى، يركز عنايته صوب الأطلال والآثار وصور العابرين وأئمة السلف وكبراء القوم والرموز الماضية دون التفات إلى صناعة الحياة. حتى سميت الحياة – في شرقنا العربي الإسلامي- بالحياة الدُّنيا كدلالة على الازدراء والحط من قدر الأحياء الزائلين. وإذا كانت التسمية مأخوذة من الدين، فالسرديات الدينية تستعاد مع ثقافة الأموات على نحو يحمل نكاية وتشفي بلغة الموت في الأحياء حتى وهم على قيد الحياة. الوضع مقلوب رأساً على عقب، فالموت يغدُو كأنَّه شرط لممارسة الحياة. تقول الثقافة في هذا الشرط: عليكم أن تموتوا كي تستطيعون أن تعيشوا في ذاكرة المجتمعات، بل حتى تكونوا مؤثرين يجب لكم الموت كمداً. وهذا أحد الأمور الغريبة التي لا توجد إلاَّ في ثقافات شرقية تهتم بعبادة الأجداد وتعتبرهم الأحياء الحقيقيين وأنَّهم من يحكم تصورات أبنائهم وعلاقاتهم من القبور. والأخطر أنْ الدعوة مفتوحة للموت في شكل اهمال أو ديكتاتورية أو فساد أو تفاهة أو سيادة أنماط التخلف. لأنَّ الحياة والأحياء لا اعتبار لهم ولن يؤثروا بالمنطق ذاته في الحياة الاجتماعية. ولكم رأينا في ثقافتنا العربية مفكرين ماتوا وهم أحياء بينما نالوا من الشهرة بعد موتهم ما نالوا، وكم رأينا سياسيين نفقوا نتيجة مواقفهم التي لم تذكر إلاَّ حين اغتيلوا أو تلاعبت بهم الأقدار. وكم رأينا العلماء والباحثين الذين دهستهم الحياة وأكلهم الفقر دون مُنقذ، وكم عرفنا عن أدباء أدمنوا التشرد والصعلكة حتى سقطت مهابتهم بلا طائل، وكم عرفنا مناضلين تلاشت سيرهم وهم أحياء يصارعون الصمت، وكم ذابت حقائق ومواقف وأحداث كأنها شيء لم يكن نتيجة النسيان. وأنا وأنت وهم وهؤلاء والمجهول سواء بسواء على المصير نفسه. كان نجيب محفوظ يردد” إنَّ آفة حارتنا النسيان”، يقصد آفة المجتمعات العربية (ومصر خاصة) هو السقوط في الزمن من أول وهلةٍ. وكأن الزمن ليس إلا مادة سحرية تذيب أية فاعلية انسانية في الحياة. ولا يحملنا على التعلم والتطور إلا لماماً وراء الأشباح والصور الباهتة. وربما يرجع هذا الإشكال إلى: ثقافة الموت: يعود تبجيل صور الأموات ورمزيتهم إلى ثقافة الموت الشائعة في مجتمعات العرب. الثقافة العربية تعطي مركزية للموت على حساب الحياة ولو كانت أكثر تطوراً وتقدماً. ووسط أمور الحاضر والراهن العاصف نجد إطلاق الزفرات على ماض لم يعد ممكناً. كأن الماضي لن يأتي حاضرُه- ولا أي حاضر آخر- أكثر ازدهاراً واختلافاً عنه. وسنجد أن اشخاص الماضي أفضل دائماً، وأنَّ من عاشوا في الزمن الغابر أكثر ثقة وأكثر يقينا مقارنة بأناس حاضرنا. وهذا جرَّ شكوكاً لانهاية لها باستمرار على أي عمل إنساني. إنّ هذه الثقافة هي ثقافة استلاب لوجود الإنسان الحي، ثقافة شكل يغتال الجديد لا ثقافة تجدد وتحديث. تجعل الفرد عنصرا فارغاً وتافهاً يمجد الحقب الغابرة ويعيش في أضابير قديمة تعلوها الأتربة. فبالرغم من كون الشخص اليوم شخصاً كونياً، إلاَّ أن الثقافة ترده إلى الخلف عكس مسار التاريخ. ومهما كانت حياة المجتمعات الراهنة، ففي عرف تلك الثقافة لن تساوي شيئاً، لأن ثقل الحقيقة في الخلف وليس إلى الأمام، هي تعود إلى الوراء دون توقف. ولذلك كلمات مثل” ليت الشباب يعود يوماً” ليست مجرد ندم فردي نتيجة نسغ الحياة الذي نضب، لكنها آلية حياة ونمط عيش تغذيهما الثقافة إجمالاً مما يخلق أبنية فكرية تخيم على المناخ السائد في كافة قطاعات الحياة العربية. ” ثقافة الموت” ثقافة لا تقيم اعتباراً لحياة الإنسان، تستبيح وجوده وتنتهك خصوصياته في مغامرات لاإنسانية تبتاع السياسة وتقتات على الدماء والجثث مثل : إقامة “الدولة الإسلامية” واستعادة “الخلافة” أو استنساخ “الهياكل القومية” وتنشيط النعرات المذهبية والشعوبية لتوحد الأمم نحو مواجهة الغرب. ولنلاحظ أنها مغامرات جمعية تغزل الأوهام في خيوط الحياة بصيغة الموت. لكونها أساطير حية تلتهم ما تبقى للإنسان من إرادة المستقبل والتطور. و” ثقافة الموت” ثقافة تدمر الحياة والأحياء، تعادي خطط التطور وتجلب المصائب للمجتمعات، وتزرع الأوهام في عقول الأفراد. هي ثقافة تطلق عنان للكآبة والبؤس وتعبئ النفوس بالكراهية تجاه العالم وثقافاته، حتى تصبح الحياة مكاناً غير محتمل، وتمسي “الأوطان” سجنوناً خانقة، ويؤجج الصراع “المجتمعات” و”الدول” كأعداء، ليكون الأفراد أمام اتجاهين: إما الانغماس في التسطيح والتفاهة أو طلب الثأر عبر تفجير الجسد. عبادة الأموات: تشير ثقافة الموت إلى أنَّ أصحابها يعبدون الأموات ليس أكثر. والعبادة نزوع مقدس وسط هالات الماضي السحيق. وهي ناتجة عن شيئين. أولا: الخوف الذي يغلف الحياة الانسانية من المهد إلى اللحد ويذهب الإنسان المقهور إلى ما يعرف في شكل الأسلاف. ثانياً: نمط العيش القائم على التقاليد واجترار المأثورات ومحاولة الحياة في أخيلة ماضوية. حينئذ يكون الإنسان حاضراً بجسده في العالم، لكنه بالحقيقة لا يعاصره، فهو هنالك حيث يحيا أسلافه. ينفخ فيهم الحياة ويجعلهم شخوصاً من لحم ودم بالرتم نفسه وبالأزياء التي كانوا يسيرون فيها ويمارسون حياتهم. ليس الأمر سلفية محافظة، فالحياة السلفية تعيد تجديد تفاصيلها، الأفكار الرؤى والهياكل والسياسات. وبالتالي تصبح الحياة بنينها في الوقت الراهن بينما رأسها، دماغها المفكرة في أزمنة سالفة. والمدهش أن تلك الحالة أفرزت نماذج من التفكير كانت رجعية إلى حد السخرية. فالدعوة إلى احياء سياسات الدولة الدينية هي دعوة لمعانقة الأسلاف قدماً بقدم ويداً بيد. وهناك من يعتقد في ممارسات السلف أكثر من ايمانه بوجوده هو نفسه في الوقت الحاضر. وإذا كان اليوم أربعاً وعشرين ساعة، فهي سويعات يعيشها السلفي لحياته ومأكله ومشربه والباقي ينغمس في استعادة الماضي ومضغ أخيلته( كالقات اليمني). وقد رأينا بعد ان انفكت ترسانة الدولة العربية عقب احداث الربيع السياسي، كيف ظهر “اللاوعي السلفي” إذا أجيز التعبير؟ فظهرت الصراعات حول ماهية المجتمع وطبيعة الدولة وتطبيق الشريعة وقوة الانتماء إلى الجماعات المؤمنة الأولى واستعادة التاريخ وفرض النقاب والحجاب وانتشار جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السياسي. ذلك على النقيض من الفكر الغربي، لأنَّ الغربيين يعيدون قراءة التراث، نقده، اختباره وكسر قيوده لا استحضاره. يتحدثون عن أفلاطون وأرسطو وديكارت لا لإحالة الحياة برمتها لتكون نسخة مشوهة مما قالوا، بل ليعيشوا الزمن الراهن بآليات وأفكار الحاضر. بينما الثقافة العربية تطرح العكس تلقي بالحاضر في جبة الماضر لإجراء المقايسة والفرز والغربلة بناء على معايير سلفية. إن السلفية تتجاوز نطاق الدين لتصبح أيديولوجيا متخفية في كل المجالات. أنت مقبول ولك المكانة الاجتماعية والفكرية والسياسية بمقدار ما تكون سلفياً. مومياء الهويّة: خطورة ما سبق أنه يستند إلى هوية كاملة الانجاز مرة واحدة وانتهت(محنطة). كأنها بذرة غير قابلة للنمو وتوجد في مكان تاريخي مقدس. وهي أكثر افرازاً لوجودنا قبل أن نوجد وقبل وجود أية أجيال. وبعبارة أخرى كأن الهوية ثقب أسود يمتص جميع الأزمنة التي تقابله، وهو ثقب يتسع دوماً ولا مجال لإيقافه ولا الهروب من مصيرنا إزاءه. وتمثل في رمزيتها مومياء يمكن الاندهاش لها دون الاقتراب منها. الهويّة بهذا البعد هي المسافة التي تفصلنا عن الواقع وتحول بيننا وبين أن نحيا عصرنا بكل زخمه. ونظراً لكون الثقافة حجاباً بالمفهوم المذكور، فإنها تأخذ معالم الهوية وتفسح مجالاً لظلام فكري دامس. وربما تعبير الهويات القاتلة برأي أمين معلوف أقرب ما تكون من هذا المعنى لكونها تصدر الموتى( المرحوم) إلى قبور الثقافة وتعيدها إلى ايقاع الأصل، غير أننا لم نصل إلى تلك المرتبة. فالهوية القاتلة قد تعني أنها فاعلة بينما الهويات الميتة هي مومياوات فرعونية تقف في المعابد ونحن ندور حولها ونعيش في أسمالها. نبقى طوال الحياة حاملين لها كالنعوش التي تقبل الفرجة ولا تتطور. إنّ الهويّة ليست ملجأ لأيتام البشر حين يموت آباؤهم بفعل الزمن. الهوية صناعة تاريخية لا تثبت إلا تمهيداً للتحول. وهي تضرب بجذورها في الخيال أكثر من الواقع، لكونها ليست مسرحية تنتقل من فصل إلى فصل آخر على خشبة الحياة وسط تصفيق المنتمين إليها، لكنها أقرب إلى ملحمة علينا الانغمار في ابداع احداثها وفقاً لذرى العصر ومواكبة تطوراته. زوال الحياة: إلحاق الأحياء بالأموات يدلِّل على انعدام قيمة الحياة. رغم كون التاريخ يكذب هذا المعنى. فجميع المتعلقين بالموتى هم كانوا أحياء أولاً وإلاَّ ما كانوا ليقولوا ذلك. وهذا كان يتطلب منهم دائما كيف يتصرفون في حياتهم وكيف يجودُّون نوعيتها ويعطون أملاً للأجيال اللاحقة. ولذلك هم وقعوا في خطأ منطقي قاتل: أنهم يحكمون على أنفسهم بالفناء ويلغون وجودهم قبل أي شيء. فالمجتمعات التي تسود فيها فكرة الحياة الزائلة بمعناها الثقافي إنما تكرس للركود والتعفن واستمرار الأوضاع المزرية سياسياً واجتماعياً. إلى الثقافات الأقل تطوراً ابتكرت بين نفسها حيلة هروب إلى الماضي خوفاً من صناعة المستقبل. ونرى الجماعات الدينية تكرر زوال الحياة وأنه يجب العبور إلى الآخرة ولو على جثث الضحايا والكفار. وهذا أمر خطير حتى بالنسبة للدين وماهيته. فكل أفعال الدين وتصوراته تقوم على الحياة وتكتسب قيمتها منها. وكما يقال الحياة مزرعة الآخرة… إذن كيف يكون نبات قائم على ماء الموت، كيف يتغذى في تربة فاسدة استهلكت مواردها وسمادها؟! كيف سيظل التاريخ عائداً إلى الخلف؟ هل الزمن وجد مكتملاً ويبدا الانسان والثقافات تباعاً ارجاعه إلى الأول؟ يجب أن نعيد فهم مقولات الموت بوصفها حياة إلى الأمام لا إلى الخلف. وأن المستقبل سيتشبث بنا بمقدار ما نغذي آفاقه الحرة ونرعى امكانياته القابلة للتخيل والابداع والتحقق، وأن ما سيأتي – بعد ملئ الحياة نضالاً وتطوراً وحراكاً- سيكون دوماً أبدع مما كان، بل لا وجه للمقارنة إطلاقاً. وأن بكائيات الدين والسياسة وأطلال المجتمعات العربية ليست إلاَّ حيلاً متنكرة، صحيح هي جارية في أفكار مقبولة وشائعة غير أنها تحكم كونياً بنهاية الحياة والعيش. كل فكرة أفضل لم تأتِ بعد، كل سياسة أفضل لم توجد بعد، كل حياة متقدمة ومدهشة لم تولد بعد، وأن الثقافة ما لم تنفتح بلا شروط للمستقبل لن تخرج من قبور وهمية صنعتها المناخات الفكرية السائدة. إذن لا ينبغي اعتبار الثقافة ” أضرحة” أقرب إلى طقوس الموت منها إلى انطلاق الحياة، فالأضرحة تطلب ساكنيها أمواتاً أو نياماً وتجمد ساعة الزمن عند عقارب السلف. وإذا لم نعلِّم عقولنا ووجداننا وعواطفنا استحالة عودة الماضي كاستحالة العيش فيه، فلن تكون هناك حياة ممتلئة من أي نوع. إنه الخروج من غسق التاريخ العربي ولو كان “مزاراً مقدساً” لنفوس تائهة لا تتوقف عن الركض. سامي عبد العال – جامعة الزقازيق- مصر 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post البعد الاجتماعي للنبوّة 1/2 – 2/2 next post الأسطورة والفلسفة .. الأخوة المفقودة أو في سؤال : من طرد الأسطورة من جمهورية العقل؟! You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.