المقاماتُ طقوسُ عبادة في عُرف المايسترو سبيرو دميان

راديو كندا الدولي /  Colette Dargham

تضافرت كل المعايير ليتألق ’’كورال التراث الشرقي في كندا‘‘ في عرضه الأخير بعنوان ’’ليلة بألف ليلة‘‘، ووصفها عدد كبير من الحضور بأنها ’’كانت فعلا ليلة عاش فيها الألف ليلة، لكثافتها وغنى مضمونها وريبرتوارها ورقيها وبهائها‘‘.

إنه العرض الخامس عشر لـ ’’كورال التراث الشرقي‘‘ في مسيرة بدأت قبل نحو سبعة أعوام في مدينة مونتريال وقُدمت العروض في كل من مدينتي مونتريال والعاصمة الكندية أوتاوا.

حافظ هذا الكورس للغناء الشرقي على حرفيته العالية واحترامه للذائقة الفنية لدى جمهور اغترابي نهم إلى تحقيق تواصل مستمر مع جذوره وأصالته الفنية.

’’كورال التراث الشرقي في كندا‘‘ في عرض ’’ليلة بألف ليلة‘‘ على مسرح معهد ’’ريجينا أسومبتا‘‘ في مدينة مونتريال.
الصورة: Radio-Canada / Studio Halloum

’’هذه الثقة التي بنيناها مع علامة التميّز في حفلاتنا عززت نجاحنا وعلاقتنا مع جمهورنا، وهذا الأخير يكرّس سرّ النجاح الذي حققناه‘‘، قال المايسترو سبيرو دميان في لقائه مع القسم العربي لراديو كندا الدولي.

المشهدية على المسرح الضخم تلك الليلة كانت رائعة، مبهرة وراقية حبست الأنفاس ودخل الجمهور من البرهة الأولى في عالم أرحب أيقظ فيه الحنين إلى الماضي فاستسلم للنوتات مشنفا الآذان مسلطنا للطرب الأصيل مع أصوات تدربت جيدا لينصهر الصوت الواحد في أصوات الكل منشدين في سرب واحد.

الأزياء فضفاضة أنيقة باللون الأخضر والأسود ارتداها أعضاء وعضوات الجوقة وقد فاق عددهم الخمسين يرافقهم تخت موسيقي شرقي مع ألمع العازفين العرب في مدينة مونتريال. على هذا المسرح تلفت انتباهنا الانسيابية والتلقائية التي تشدو بها الأصوات الجميلة المتناغمة والمنسجمة المقامات الشرقية من أغنيات وموشحات صعبة وتتطلب مهارات عالية.

تمايلت خصور النساء بخفر مع بروز الابتسامة الواثقة على وجهوههن ووجوه المنشدين الرجال، واختالت النظرات في كل أرجاء الصالة لتكثيف التفاعل مع الحضور الذي طفق يصفق ويطلق الزغاريد نشوة وابتهاجا. أضف إلى ذلك أن دخول الجميع وخروجهم من خشبة المسرح خلال الحفلة دلّ على احترافية عالية حققتها هذه الجوقة الفتية على يد قائدها المتمكن سبيرو دميان.

التميّز سمة ننشدها دوما ويقتضي تحقيقه جهود مضنية على مدى أكثر من ستة شهور من البروفات وانتقاء الريبرتوار الذي يلامس ذوق جمهورنا المتعدد الفئات والأعمار…هذه المرة استقطب حفلنا ما بين 35% إلى 40% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين الـ 20 والـ 30 عاما

.نقلا عن سبيرو دميان، قائد كورال التراث الشرقي في كندا

رتب سبيرو دميان الريبرتوار بعد الحجوزات التي أظهرت إقبال الشباب من الجنسيات العربية المختلفة وخصهم بأربع أغنيات شبابية على درجة من الرقي كما يقول. ’’أخترت لهؤلاء الشباب على سبيل المثال أغنية ’’ما وعدتك بنجوم الليل‘‘ للفنان اللبناني وائل كفوري التي تتضمن عدة مقامات وهي ليست سهلة على الإطلاق وتستحوذ على إعجاب جيل الشباب‘‘.

ناهيك عن ذلك إدراج فقرة كاريوكي في الحفل، هذه الظاهرة الدارجة عند الجيل الفتي اليوم وقد اختار لهم مقاطع من أغنيات أم كلثوم ليصل سبيرو دميان الحداثة بالعراقة مرة أخرى.

طبعا الحصة الأكبر في الحفل كانت للفئة العمرية المخضرمة من عشاق عمالقة الغناء العربي ليكون ختامها مسكا مع الأداء الإفرادي لرائعة أم كلثوم ’’الأطلال‘‘ بصوت الشابة الكندية المغربية سلوى القصابي. هذه الأخيرة كانت تتبع إشارات المايسترو بكل جوارحها لتَظهر للجمهور براعة وتمكن المايسترو الدمشقي الذي هذب الصوت ومرّنه ليصل أداء الصبية إلى هذه الدرجة من الاحتراف.

يتجدد أعضاء الفرقة في شكل مستمر وفي كل عرض هناك اكتشاف لصوت إفرادي جميل. في هذا الإطار يقول المايسترو الجدي والرصين جدا في ممارسته قيادة الجوقة سبيرو دميان إنه يهتم بعناية فائقة بكل الأصوات وفي حال وجد صوتا متميزا فهو يحاول أن يكرسه في حفله ويعطيه مساحته مع كل ما يلزم لصقله ورفعه إلى مستوى الاحتراف. ولكن يعقب محدثي ’’إن عروضنا ترتكز على أصوات المجموعة ومن يأتي إلينا يكون مدركا أنه يشكل جزءا في كلّ، وتجددين ليدهم انضباطا والتزاما بمواعيد البروفات الأسبوعية على مدار العام من دون توقف‘‘. علما أن مساهمات أعضاء الجوقة الغير ربحية تطوعية من دون مقابل مادي.

وجود دميان أمام الميكروفون ليس هدفا بحد ذاته علما أنه كان عضو ا في جوقة غناء في بلده الأم سوريا وهو يؤدي في شكل ممتاز.

أتى غناء سبيرو دميان المنفرد خلال الحفل بغاية كسر سياق الحفل وتلوينه لكي لا يسقط في المونوتونية ويفقد تركيز الحضور. مع العلم أن الحضور صفق كثيرا وأطلق الزغاريد عندما تأبط أبو حنا الدمشقي، اللقب المحبب إلى المايسترو، عوده في مشهد استثنائي أيضا.

هكذا بدى ’’كورال التراث الشرقي في كندا‘‘ بأبهى حلة في عرضه الأخير في مونتريال بعنوان ’’ليلة بألف ليلة‘‘ وينتظر أهل أوتاوا من محبي التراث الشرقي هذا العرض في الحادي عشر من شهر أيار / مايو المقبل.
الصورة: Radio-Canada / Studio Halloum

وبغاية كسر أي ملل أو سكون خلال العرض، لجأ المايسترو الفذ إلى وسائل أخرى ذكية سباقة في عروضه منها لوحة المغنيات الثلاث فقط مع الموسيقيين على المسرح في أغنية ’’إن راح منك يا عين‘‘ للنجمة المصرية شادية، والكاريوكي مع الحضور.

أكرر لأعضاء الجوقة أننا نحيي عرسا كل سبعة شهور، عرس أحد أبنائنا…لذا علينا أن نتزين بالحبور والجمال والفرح وأن نكون بكامل الأناقة والحضور مبتهجين فرحين. إن عروضنا هي مزيج من خلطة سحرية يشارك فيها بالتساوي حكما أهل العرس ومدعووه…لاحظي أن الموسيقيين بدورهم يشاركون في الغناء وهذا يدل على انسجامهم واندماجهم بدورهم في الحالة الاستثنائية على المسرح

.نقلا عن سبيرو دميان، قائد كورال التراث الشرقي في كندا

يدخل المايسترو سبيرو دميان في حالة سكر على المسرح طيلة العرض، هو الذي يعتبر المقامات بمثابة طقوس عبادة حاملا لواء الحفاظ عليها من الاندثار.
الصورة: Radio-Canada / Studio Halloum

تجد أبا حنا الدمشقي في حالة سكر منذ بداية العرض وحتى نهايته ضابطا مسيطرا ممارسا سحره على جميع من أمامه على خشبة المسرح ومن خلفه على المقاعد في الصالة في آن معا. يبتسم المايسترو طيلة الوقت لجوقته ويلقنها النوتة ليس بيديه وانامله فحسب، بل إنما ايضا بكل كيانه وجوارحه وحركات جسده وملامح وجهه وتعابيره المبتهجة مشيعا الطمأنينة والسلام في كل أرجاء المسرح وفي قلوب زواره.