ثقافة و فنونعربي الفيلم الفلسطيني الهدية «The Present»: حيوات مقهورة على حواجز الاحتلال by admin 19 أبريل، 2021 written by admin 19 أبريل، 2021 101 إن الموت في فلسطين يبدو بطيئا، أو مؤلماً، حيث الاغتيال لوعي أجيال وأجيال تواجه كل يوم هذا التكوين الشاذ، وغير الطبيعي لمعنى الاحتلال على مدار عقود طويلة، فتشوهت الذاكرة، وبدا الاحتلال أمراً يكمن في لاوعي هذا الجيل، حيث بترت هذه الجدران الأسمنتية والحواجز الحديدية مداه البصري. القدس العربي / رامي أبو شهاب– كاتب أردني فلسطيني غالباً ما تبدو الأفكار الأقل بساطة، ربما الأكثر قدرة على أن تترسخ في الوعي، فالإنسان يغيب في زحمة المقولات الكبرى ليتناسى أن المعنى من الحياة أن تبدو لنا في تكوينها الأكثر بساطة، بل أن تكون أكثر قرباً من الطبيعة عينها، ولا سيما في انسجامها، وعفويتها، ونظامها الداخلي، ولعل ما يحدثه الإنسان على تكوينه وسياقه، وما يحيط به ليس سوى تشوهات ستنقضي وتتلاشى في مواجهة حتمية الحياة، إذ لا يمكن لنا أن نجد لهذه التشوهات من تفسير سوى إنها نمط من أنماط التهديدات المستمرة لكائنات تتطفل على هذا الوجود فيبتر تدفق المعنى الطبيعي للحياة. هكذا تبدو مقولة فيلم المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي بعنوان هديةThe Present الذي أنتج عام 2020، ويعرض حالياً على أهم المنصات الرقمية. هذا الفيلم الذي تمكن من أن يصل إلى موقع متميز، حيث رشح لجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام القصيرة، بالإضافة إلى ترشحه لجائزة «البافتا» عن أفضل فيلم قصير، حيث تبلغ مدة الفيلم خمساً وعشرين دقيقة. يتصدر الفيلم ملصق ترويجي بسيط، لكنه بدا نابضاً وحيوياً، وربما لافتاً للانتباه، كونه يختزل رسالة واضحة، وعميقة، حيث نرى أبا وابنته الصغيرة في طريق ما، وهما يديران ظهرهما للعالم، فنستدعي على الحال أيقونة (حنظلة) للفنان والرسام الفلسطيني العالمي ناجي العلي، في حين جعلت منصات العرض الرقمي ملصقها قائماً على صورة الأب (يوسف) في تعبيرات وجه تعكس طلاقة الحياة وحيويتها، في ظل وجوده مع ابنته، في عالم يقاوم كل ما يبتر سلسلة هذا الوجود، فالإنسان على مرّ التاريخ يعاني من ذلك التعارض بين وجوده في مواجهة قوى الديكتاتورية والفساد، والعنصرية، وكل ما يعطل معنى الحياة. لا يمكن إلا أن نرى في كل عمل فلسطيني جزءاً من صورة كلية تسعى لأن تعيد موضعة الخطاب الفلسطيني، في مواجهة مشاريع المحو والإقصاء، ولا يمكن إلا أن نقرّ بأنه لم يتبق لنا صوت حقيقي سوى هذه الأصوات التي تأتي من لدن فنانين وأدباء ورسامين وشعراء وروائيين، خاصة في ظل تصفية الصوت الفلسطيني المقاوم، وتدجينه على أيدي النخب السياسية، التي تجمدت في لعبة السلطة والوهم. تختزن رؤية المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي طاقة تعبيرية متحررة من التنظير، وأنماط الحوار، والسرد الطويل، حيث تترك الحبكة ببساطتها، وأداء الممثلين الموفق، ودلالات المكان، وواقعية التصوير، مجالاً للاستغراق بالفكرة التي تنهض على بناء مشهدية شديدة الحساسية والعمق، تعضدها عفوية الأسلوب الإجرائي، فتتسرب مشهدية الفيلم في الوعي البعيد، وتترك صدى محملاً بالخيبة عند تبلور الفكرة والشعور والأثر، فهي لا تكتفي بأن تجعلنا نعلق في حبكة تتأتى جماليتها أو تعقيدها من كونها أبسط مما ينبغي، غير أننا مع نهاية الفيلم نستشعر هذا القدر الكبير من الألم، والخيبة والخسران، حيث يرسم الفيلم ظلالاً داكنة تحيط بأسئلة تتعلق بقدر الفلسطيني الأكثر كآبة على رأي إدوارد سعيد. ينفتح الفيلم على الممثل الفلسطيني صالح بكري وهو يجسد شخصية «يوسف» الأب الذي يستيقظ صباحاً قرب جدار الفصل العنصري، في مشهد تختزله تقنية الإخراج العفوية، التي تعمد إليها الأفلام بميزانية ضئيلة، عبر توظيف كل ما يتوفر ببساطة لتمكين الاستناد الواقعي القائم على حيز التصوير، الذي يعج بحيوات الفلسطينيين الذين لا ينتمون إلى الكادر السينمائي، فجاء توظيفهم حساساً جداً، وموفقاً في سياق الفيلم. تبدو الافتتاحية، وكأننا نبتدئ الحكاية من زمن يتكرر، أو مستمر، وأزلي، حيث الجدار ينهض بكل قبحه وجبروته، فعلى ما يبدو أن (الأب) قد قضى ليلته على الحاجز، قبل أن يعود إلى المنزل، حيث توجد زوجة وابنة صغيرة جميلة اسمها (ياسمين)، تمارس العائلة يومياتها أو تسعى لأن تبدو طبيعية جداً، كأي عائلة تمارس فعل الحياة، نرى في مشهد الزوجة (نور) التي تؤدي دورها الممثلة نور كمال باشا في استقبال زوجها المنهك، وفي الصباح تعدّ الفطور مع تبرمها الصامت من براد أو ثلاجة قديمة لا يغلق بابها بشكل جيد، ومع قرار الأب الذهاب لشراء بعض الحاجات من بلدة «بيتونيا» يصطحب معه ابنته الصغيرة، كي يقوما بمفاجأة الأم بهدية بمناسبة ذكرى عيد زواجهما، وتتمثل بشراء براد جديد، في الطريق تنهض الحواجز لتعيق التدفق الطبعي للحياة، والمشاعر، بما في ذلك اليومي والطبيعي، حيث يخضع الأب وابنته لتحقيق أو تفتيش دقيق يمتد إلى فترة طويلة على حاجز رقم (300)، يحجز الأب في قفص حديدي على الحاجز بعد أن يفقد أعصابه نتيجة الاستفزازات المستمرة من قبل جنود الاحتلال، حيث نراهم في وجوههم التي تعكس مرجعياتها، أنها أتت من أصقاع لا يوحدها سوى الغطرسة، في حين تنظر الابنة بعيون قلقة وخائفة إلى والدها من خارج القفص المؤقت للاحتجاز، وهنا تسعى فرح النابلسي إلى التركيز على مناخ الحدث، بما في ذلك رمزية كتل الحديد ممثلة بالقفص، والوجوه الغربية، كما انكسار الطفولة، وسطوة الغريب، مع تركيز على فائض القهر الذي لا ينتهي، يخرج الأب فيجد ابنته قد بللت ثيابها نتيجة الانتظار الطويل، بعد ذلك يذهبان إلى السوق ويشتريان بعض الحاجيات، يصلح الأب من شأن ابنته بشراء ثياب جديدة، والأهم أنهما يشتريان براداً جديداً للأم، يحمله البائع مع الأب والابنة لتوصيله بسيارة نقل، لكن الحاجز يقف لهم بالمرصاد، فيقرر الأب وضع البراد على عربة نقل صغيرة يجرها يدوياً مع الابنة كي يتجاوز بعض الحواجز التي تمنع وصول السيارات، وحين يصل إلى الحاجز الأخير، أو الحاجز الذي شهده في الصباح نواجه حدثاً مفصلياً في تكوين سلسلة الأحداث، ولاسيما حين يصعب أو يستحيل تمرير البراد من البوابة أو جهاز التفتيش الإلكتروني. إنها إحالة استعارية تحتمل قدراً كبيراً من السوداوية، التي تقترب من تجسيد الملهاة والمأساة على حد سواء، تمتد المفاوضات طويلاً مع الجنود للسماح بعبور البراد من مكان آخر، أو بمعنى آخر تمريره من جانب البوابة، لننتهي إلى كل ما يمكن أن نلمحه في تلك التقاطعات من المشاهد، التي لا يتحدد بأداء الممثل صالح بكري المتقن في اختزاله لقدر كبير من الألم والخيبة والغضب وحسب، إنما في تعبيرات الفتاة الصغيرة، أو الابنة «ياسمين» التي ترى أن عالمها لا يبدو سوى سجن كبير، يغتال روحها الصغيرة بما في ذلك عائلتها الصغيرة، إنه توتر وقهر مستمر، أو يبدو خرقاً لتكوين طبيعي، حيث يصادر الكيان المحتل معنى حياة ملايين البشر، فالجغرافية الفلسطينية أمست أشلاء، مبعثرة، وبشعة، جزراً صغيرة معزولة، كما هي مثيرة للحنق والخيبة، فذات الفلسطيني تعاني كل يوم من تداعيات الجدران والحواجز. إنه قهر جمعي لملايين البشر، ولعلي لا أبالغ حين أصف هذه الممارسة تجاه المكان والإنسان بأنها مماثلة في تكوينها واستراتيجيتها بما كان في معسكرات الاعتقال النازية في الحرب العالمية الثانية، غير أن العملية هنا تقع على مستوى وطن بأكمله، حيث قهر لملايين البشر بشكل بطيء، إنها سياسية تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم، عبر ممارسات عميقة التمكين لنماذج من العنصرية التي ما زالت كامنة في وعي كيان الاحتلال. إن الموت في فلسطين يبدو بطيئا، أو مؤلماً، حيث الاغتيال لوعي أجيال وأجيال تواجه كل يوم هذا التكوين الشاذ، وغير الطبيعي لمعنى الاحتلال على مدار عقود طويلة، فتشوهت الذاكرة، وبدا الاحتلال أمراً يكمن في لاوعي هذا الجيل، حيث بترت هذه الجدران الأسمنتية والحواجز الحديدية مداه البصري، لقد بدا أقرب إلى فعل تشويه لصورة فلسطين طبيعياً وتاريخياً، وهذا يستهدف تحويلها إلى شيء منمّط مثير للكآبة، إذ أمست بلداً مقطع الأشلاء، لا يحمل أي صيغة بالتكامل والانسجام لا على مستوى الطبيعة فحسب، وإنما على مستوى قطع التواصل بين الإنسان والآخر في قرية واحدة، بين الإنسان وأحلامه، لقد ولدت هذه الأجيال في ظل الجدار، فلا جرم أن نرى في المشهد الأب وابنته يسيران في ظلال العتمة، وهما يحملان البراد بعيداً، بعد أن انقضى يوم طويل، إذ تبدو لنا مبادرة الفتاة الصغيرة بالطلب من والدها الانسحاب صيغة لأن تحافظ على حياة والدها، وأن تسعى لاستعادة حياتها الطبيعة؛ فتطلب من الأب التراجع، فيقود الأب وابنته البراد على العربة الصغيرة، ليمضيا عائدين في الطريق أو في شارع صغير ضيق، على جوانبه إضاءة شاحبة تلقي بظلال ربما تمتد لتحيل إلى هذا الاحتلال البغيض، لكن الخيبة تبدو أكبر مما تحتمل، هكذا تبدو لنا الرؤية الإخراجية، وقد راهنت على أن قيم البساطة ربما الأكثر قدرة على أن تحفز الوعي، والطاقة، وأن تثير وعياً كونياً أو عالمياً بأزمة الفلسطيني، كونها تخاطب عبر مشاهده وفكرته البسيطة الإنسان الكامن فيه، فالفيلم لم يلتفت لصيغ خطابية مباشرة لا يمكن لها أن تمسّ وجدان مشاهد كوني، لقد أدركت فرح النابلسي رؤيتها الإخراجية لتقدم فيلماً يحتمل الكثير من التطور على مستوى الإخراج، لكن الأهم أنه أدرك أدوات خطابه، ومقصدية رسالته بشفافية وعمق. المزيد غن : السينما الفلسطينية/رامي أبو شهاب/فيلم “الهدية” 1 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post فايننشال تايمز: تفاصيل جديدة عن خلافات حمزة والملك الأردني.. طلب قيادة المخابرات ومراسلات مع عوض الله next post وسام سعادة : شطحات اليسار الماروني You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 1 comment federal marshal badge 13 أغسطس، 2024 - 3:27 م This was very informative. I appreciate the clarity and depth. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.