فاغنر لم يكن يعتقد أن أحداً يمكن أن يحيره أكثر من زميله الإيطالي فيردي (موسوعة الموسيقى الكلاسيكية) ثقافة و فنون الفرنسيون حيروا ريتشارد فاغنر مرتين by admin 29 أكتوبر، 2024 written by admin 29 أكتوبر، 2024 27 في الأولى تصدى له الكتاب وقاطعه الموسيقيون وفي الثانية وقف هؤلاء له بالمرصاد وناصره أولئك اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كان معروفاً عن ملحن الأوبرا الألماني الكبير في القرن الـ19 ريتشارد فاغنر أن ما من شيء أو أحد في هذا العالم يمكنه أن يثير حيرته، وإن كانت أمور كثيرة تثير غضبه. ومع ذلك ها نحن يمكننا أن نقرأ بقلمه في سيرته الضخمة التي أصدرها بعنوان “حياتي”، أن الفرنسيين وحدهم من دون خلق الله جميعاً فعلوا ما هو معاكس لذلك تماماً، هم بمواقفهم منه لم يتمكنوا من استثارة غضبه، حتى وإن تعمدوا ذلك، لكنهم حركوا حيرته، جاعلينه يطرح عدداً من الأسئلة على نفسه حول سلوكهم، من دون أن يهتدي إلى جواب. وهو قبل ذلك كان يعتقد أن ثمة كائناً واحداً في العالم يحيره من دون أن يقلقه، ولم يكن ذلك الكائن سوى زميله الموسيقي الإيطالي الكبير جوزيبي فيردي الذي كان منافسه الوحيد على لقب أعظم ملحن أوبرالي في العالم في الزمن الذي عاشا فيه، النصف الثاني من القرن الـ19. الشاعر الفرنسي بودلير (غيتي) بعد سنوات طويلة الحقيقة أن الفرنسيين فعلوا ذلك بفاغنر ليس مرة واحدة، بل مرتين تفرق بينهما سنوات طويلة، تصل إلى نحو عقد ونصف عقد من السنين وأكثر. وربما يمكننا أن نقول هنا إن مصدر حيرة الموسيقي الكبير في الحالتين كان هو نفسه: غرابة أطوار الفرنسيين، وفاغنر لم يصل إلى ذلك الاستنتاج انطلاقاً من موقف عنصري رصده لدى الفرنسيين جميعاً، بل لدى فئة معينة من الفرنسيين، المثقفين بالتحديد ولا سيما المبدعين منهم، والدليل على ذلك تحدث عنه فاغنر وهو دائماً يبتسم متفكهاً بما يرويه في مجالسه الخاصة. هو كان لا يفتأ يقول إنه في المرة الأولى التي قصد فيها فرنسا، باريس تحديداً، كي يقدم بعض عمله في حضور الطبقة العليا من النخبة الفرنسية فاستقبلته هذه النخبة بكل ترحاب، لكنه لاحظ أن استقبال جمهرة الكتاب والمفكرين له كانت أكثر ترحيباً به مما فعلت جمهرة الموسيقيين ومن يدور من حولهم، “لم أفهم قط حينها سر المواقف السلبية التي وقفها عدد كبير من الموسيقيين ضدي”، سيقول فاغنر لاحقاً “وحين سألت حول الموضوع لم أجد من يجيبني موضحاً الأمور، وكذلك لم أعثر على أي إيضاحات بخصوص الإعجاب الكبير الذي وجدته، ولا سيما أوبرا تانهاوزر في تقديمها الباريسي، وبخاصة لدى الشاعر الكبير بودلير الذي جعل من نفسه، ومن قلمه، حصناً منيعاً للدفاع عني وعن موسيقاي في مجتمع كان من الواضح أنه لا يستسيغ البطء الماثل في تلك الأوبرا، هو المعتاد على عالم الموسيقى المتوسطية مفضلاً ويا لغرابة الأمر! بساطة كارمن، وموسيقى جورج بيزيه على الصراحة الجرمانية الماثلة في تانهاوزر”. حتى هنا والأمر يبدو منطقياً، بل مقبولاً لدى فاغنر الذي يعرف جيداً أن فناً من نوع فنه، وإيقاعات من نوع إيقاعاته، لا يمكنها إلا أن تقسم الجمهور مهما كان تجانسه، وحتى طبقياً، ولكن الحيرة راحت تستبد به في الزيارة الثانية حيث ومن جديد حدث انقسام قد يكون في شكله مماثلاً للانقسام السابق تجاهه، لكنه أتى معكوساً، بل حتى مفارقاً هذه المرة، كما أشرنا سريعاً في فقرة سابقة. هذه المرة، ولو أن الكبير بودلير بقي على موقفه القديم المحبذ نفسه، فإن ما حدث هو أن الآية انعكست هذه المرة: وقف الموسيقيون الآن في صف فاغنر بينما شجب الكتاب وحتى المفكرون منهم ما جاء يعرضه على جمهوره الفرنسي. ولم يكن من شأن هذا الانقسام الجديد إلا أن أدهش الموسيقي الألماني إلى حد كبير، و”أثار حيرتي” كما قال بنفسه من دون أن تفارقه ابتسامته التي كانت معروفة بندرتها على أية حال. والحقيقة أن فاغنر لم يتوقف عند هذه الظاهرة، بل كل ما في الأمر أنه راح يتحدث عنها في معرض الحديث عن “غرابة أطوار الفرنسيين”، كما سيوضح لاحقاً. معركة غير شخصية مهما يكن من أمر لا بد من القول هنا إن ما خيل إلى فاغنر أنه “غرابة أطوار الفرنسيين”، كان في حقيقته ذا أبعاد سياسية، بل حتى أيديولوجية، لم يدرك الموسيقي الألماني الكبير جوهرها مع أنه عرف، بكونه ثورياً، حتى بالمعنى المتطرف للكلمة. ومن هنا حتى على رغم تشوق النخبة الفرنسية إلى الالتقاء به مباشرة ومشاهدته وهو يقدم أعماله، لم يكن غريباً أن ينظروا إليه نظرتهم إلى “عدو ألماني – بروسي”، وهو أمر تترجم عملياً بكونه اعتبر مناقشات عن الرمزية في مواجهة برليوز الذي كان معتبراً سيداً من سادة الرومانسية على الطريقة الفرنسية. وهكذا كان لا بد للنظرة إليه أن تكون معادية، وحتى منذ الزيارة الأولى، ولا سيما في تلك المرة من جانب الموسيقيين الذين ساءهم أن يلقى في بلدهم كل ذلك الترحاب، ولكن ساءهم في الوقت نفسه أن يجد فاغنر في بلدهم من يرعى بقوة وأريحية تقديمه وسط ذلك الترحاب، أوبراه “تانهاوزر” التي نظروا إليها بوصفها عملاً جرمانياً خالصاً يأتي هنا كي يستفز ويتحدى أحاسيسهم الوطنية المعادية لكل ما هو ألماني في عقر دارهم! ومن هنا شددوا الحملة ضدها وضده عبر ضربات كان من شأنها أن توصف اليوم بأنها “ضربات تحت الحزام”، ولقد تبدت الضربات ناجحة بحيث إن الجمهور، بما فيه الفئات النخبوية، تجاوب معها، مما أدى إلى ما لم يكن سبق له أن حدث في أي بلد أجنبي قدم فاغنر عملاً فيه: سحبت الأوبرا بعد تقديمها الثالث وأحاقت بصاحبها هزيمة لم يتمكن من إدراك بعدها السياسي الوطني، فاكتفى بالحديث عن غرابة أطوار الفرنسيين تفسيراً لها. ولاحقاً بعد زمن طويل سيأتي من يخبر فاغنر أن هيكتور برليوز كان هو نفسه وراء الحملة، ولأسباب فرنسية خالصة: كان صاحب “السيمفونية الخيالية” يحتج عبر ذلك الموقف ضد سلطات بلاده التي أبدت تجاه “العدو الجرماني” أريحية كبيرة، إذ مولت نحو 200 جلسة تدريب للفرقة التي ستعزف موسيقى الأوبرا. وهو أمر لم يحدث قط لأي موسيقي فرنسي على الإطلاق. كان قصد برليوز ورفاقه مقارعة الحكم الإمبراطوري الفرنسي وإثارة عواطف الجمهور المحلي ضده، أما فاغنر فلم يكن في كل تلك الحكاية أكثر من مجرد ذريعة. إذا عرف السبب والواقع أن في وسعنا هنا أن نواصل هذا السياق لندرك عبره حقيقة موقف بودلير الذي، على عكس عدد كبير من الكتاب، واصل موقفه المؤيد لفاغنر، مما أثار حيرة هذا الأخير بصلابته، تماماً كما أثار حيرة نيتشه الذي كان لا يزال حتى ذلك الحين مناصراً لموسيقى فاغنر محافظاً على وده تجاهه. فالحقيقة أن بودلير كان في تلك المرحلة من حياته وفكره قد أمعن في مناوأة كل فكر محلي شوفيني، ومن هنا استعمل هو الآخر فاغنر ذريعة يمتطيها للتعبير عن مواقفه الخاصة، وبذلك حفظ التاريخ كل تلك المواقف بغموضها والتباساتها من دون أن يبدو عليه أنه ينظر إليها في حقيقتها التي يمكن أن تكون في نهاية الأمر مجرد مواقف لا علاقة لها بالإبداع الفني أو ما يشبهه. ومع ذلك قد لا يكون ثمة مفر هنا من أن نعرج على ما قد يلقي أضواء كاشفة على ما نذهب إليه. ففي الوقت نفسه الذي كانت السجالات تدور بين المثقفين الفرنسيين حول موسيقى فاغنر الأوبرالية والموقف منها، لم يتردد عدد لا بأس به من المتابعين الفرنسيين عن إبداء أعلى مستويات المديح تجاه موسيقي ألماني آخر كان، من ناحيته، يقدم أعماله الأوبرالية، أو حتى شبه الأوبرالية في فرنسا، ويلقى فيها نجاحات لافتة مع أنه في المقاييس التقييمية الموسيقية لا يمكن بأية حال وضعه في مستوى واحد مع فاغنر. ونتحدث هنا بالطبع عن جاك أوفنباخ الألماني الأصل، الذي كان قبل سنوات عديدة اختار الجانب الفرنسي، وربما ليس عن قناعة سياسية، بل لالتقاء المزاج الديناميكي الفرنسي باختياراته الفنية مما يعود بنا للاستنتاجات نفسها ولو من باب موارب. المزيد عن: ريتشارد فاغنربودليرالأوبراجوزيبي فيرديهيكتور برليوز 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “هدهد سين” ديوان الحب الوجداني ببعده الواقعي next post “خريطة العظام” ملحمة روائية بريطانية توجز مسار المرأة You may also like المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024 من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ 21 نوفمبر، 2024