ثقافة و فنونعربي الصراع المصري – الأجنبي تستعيده رواية “كوتسيكا” بإشكالاته by admin 12 أغسطس، 2022 written by admin 12 أغسطس، 2022 21 غادة العبسي ترصد واقعاً معطوباً بالتمييز ضد المرأة والفقر والتفاوت الطبقي اندبندنت عربية \ نشوة أحمد في القرن التاسع عشر، رسا على شاطئ الأسكندرية، الفارون من المذابح والفقر والحروب، فمنحتهم عروس البحر الأبيض المتوسط دفء الوطن. احتضنهم محمد علي باشا، وفتح لهم الأبواب على مصاريعها. أطياف أوروبية عديدة تغلغلت وذابت في نسيج المدينة. تنوعت بين يونانيين وطليان، إضافة إلى الأرمن وغيرهم من جنسيات أخرى. كانت أهمها الجالية اليونانية، التي وسعت من نشاطاتها التجارية والاجتماعية في القطر المصري بشكل عام، وفي الأسكندرية بشكل خاص. وكان ثيوخاري كوتسيكا أغنى أغنياء الجالية في ذلك الوقت؛ وأول من أدخل صناعة الكحول إلى مصر. وهو نفسه أحد أبطال رواية “كوتسيكا” (دار المحروسة) للكاتبة المصرية غادة العبسي التي اتخذت من اسمه عنواناً لروايتها. تدور أحداث الرواية خلال فترة زمنية مرتبكة من تاريخ مصر، شهدت نزاعاً بين القوى الوطنية والاحتلال الأجنبي. وقد أرادت الكاتبة للنص أن يعكس ما اتسم به النسيج المصري حينذاك من تعدد الأعراق والجنسيات، وما صاحب هذا التعدد من امتيازات جعلت الأجانب فوق المصريين. فمضت بالسرد في خطين متوازيين وزعتهما بين شخوص مصرية وأجنبية. وتوالدت عبر هذه الثنائية العديد من الثنائيات الأخرى من بينها الفقر والثراء، الجمال والقبح، الخير والشر. وعلى رغم التضاد الصارخ بين تلك الثنائيات، تفادت الكاتبة الوقوع في فخ الانحياز لأي من شخوصها، بل سمحت لكل شخصية بأن تعيش بشريتها كاملة بنوازعها الطيبة والرديئة. فشخصية “شوقة” التي اختنق جنينها وأكلت “العِرسة” رحِمها، في ظل غيرة الحماة وحسدها. لم تكن ضحية على طول خط السرد، وإنما وقعت في شرك خيانة صديقتها. وهناك “صابرة” التي تكبدت موت أبنائها وعانت آلام الفقد وعذاباته، وانصرفت إلى رعاية الناجي الوحيد من ذكور أنجبتهم، فأسرفت في تدليله وحمايته، في حين أهملت زوجها وبناتها وقست عليهم. أما كوتسيكا، فعلى رغم انحيازه للمصريين الضعفاء وكراهيته للإنجليز، لم يتوان عن التودد إلى المحتل وإغوائه بالمال، من أجل تحقيق مصالحه وإنماء ثروته. المجد للذكور “جاية تعملي إيه في الدنيا يا مرة”. هكذا استهلت الكاتبة مسارها السردي بعبارة تهكمية على لسان “شوقة”؛ إحدى الشخصيات المحورية في النص. فالتقطت عبر هذه البداية عادات تمجيد الذكر في الثقافة الشعبية المصرية، في مقابل التقليل من شأن الأنثى، لتكون هذه الفكرة بمثابة اللبنة الأولى للبناء، والمحرك الرئيس للأحداث. ثم ما لبثت أن أبرزت تماثلاً بين كلتا الثقافتين المصرية واليونانية، في ما يتعلق بالانحياز للذكر، إلى حد ألا يتحمل الزوج اليوناني من تكاليف الزواج سوى سرير وحذاء. أما العروس فهي من “تقدم المهر، وهي التي يدخر والداها منذ ولادتها لتجهيزها فتقوم بشراء كل شيء، الأمر الذي يجعل كل أب يوناني يفرح بالذكر الذي لا يكلفه شيئاً يُذكر، ويحزن ويهتم إذا ولدت له امرأته أنثى” (ص116). الرواية المصرية (دار المحروسة) ولم يكن هذا التماثل هو الوحيد بين الثقافتين، وإنما أبرزت الكاتبة تماثلاً آخر بين قِدم الحضارتين، والفقر الذي آل إليه أبناؤهما. واستمرت في تمرير صور من التناظر، مرة بين سقوط المكاري المصري مطعوناً بسكين خادم القنصل وسقوط مصر في يد الاحتلال الإنجليزي. ومرة بين صابرة والبيرة، البيرة واليهودي، وبين البيرة والعالم. “ستافانوس” تعلم كيف يواجه هذا العالم الظالم من طريقة صب البيرة في الأكواب. بين الحقيقي والمتخيل اقتنصت الكاتبة لحظة فارقة في تاريخ مصر والعالم، وسَمَتْها الصراعات والتناقضات، ثم أعادت تشكيلها روائياً. فمزجت بين الحقيقي والمتخيل. واستدعت شخوصاً واقعية، ربما – على أهميتها- همّشها التاريخ، مثل شخصية تيوخاري كوتسيكا؛ أغنى رجال الجالية اليونانية في ذلك الوقت. كذلك استدعت العبسي شخصية الممثلة الأميركية بيريل وايت، صاحبة الأداء الأشهر في السينما الصامتة، والتي ارتبطت بعلاقة حب مع تيودور كوتسيكا، وتركت له بعد وفاتها النصيب الأكبر من ثروتها. وكما استدعت الكاتبة شخوصاً حقيقية، استدعت أيضاً أحداثاً واقعية، نقلت عبرها أجواء الصراع من فضاءات التاريخ إلى فضاءات السرد. ووظَّفت من أجل تحقيق هذه الغاية؛ حادثة المكاري المصري والمالطي، التي دبرها الإنجليز، ومذبحة الإسكندرية التي اتخذتها بريطانيا ذريعة لاحتلال مصر، الحرب العالمية الأولى، ثورة 1919 وتوقيعات المصريين من أجل تفويض حزب الوفد للتفاوض مع بريطانيا على الاستقلال. ثم انعطفت من الوقائع الحقيقية إلى مساحات التخييل في النص، فنسجت من الأحداث المتخيلة ما نقل صورة صادقة للمجتمع المصري في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. وسمح لها ما عمدت إليه خلال رحلتها من توزيع السرد بين فضاءين، أحدهما شخوصه من الأجانب، والآخر من الطبقة الشعبية المصرية؛ أن تبرز قدر التفاوت والتناقض بين كلتا الشريحتين، لا سيما عبر ما رصدته من ملامح اجتماعية واقتصادية وثقافية لكل فئة منهما. ضد المنطق والمعقول الكاتبة غادة العبسي (صفحة الكاتبة – فيسبوك) بدت محاولات العبسي عبر رحلتها السردية، توثيق الثقافة الشعبية الراسخة لدى شريحة عريضة من المصريين منذ القدم، تجاوزت في كثير منها حد المنطق والمعقول. فالأم التي يموت أبناؤها الذكور تطرق باب العطارين، وتأخذ منهم ما يساعدها على مواجهة قرينتها “أم الصبيان”، التي تتسبب في إيذاء أبنائها. وتُعلِق برقبة ولدها الناجي سبعة عهود سليمانية. وتُرضِع معه جرواً، وإن مزَّق لحمها، إيماناً بأن ذلك هو ثمن النجاة من الموت. لكنها لا تكتفي من تحصين الطفل، وتستمر في أداء طقوس الحماية. فيحمل بعد بلوغه أربعة أعوام، رضيعاً يتسول به من سبعة أشخاص، ولا يأخذ شيئاً من هذا المال، وإنما يوضع مع رماد دمية ورقية محترقة في صُرَّة، يلتزم حاملُها بالصمت، فلا يكلم إنسياً، حتى يلقي صرته عند مفترق طرق. ويعود مبشراً بإنجاز مهمته، ما يعني أملاً إضافياً للأم في نجاة طفلها. وحين تشعر الزوجة بخيانة زوجها تأخذ “أتره” للسحرة حتى يفرقون بينه وبين عشيقته. وعلى رغم رسوخ مثل تلك المعتقدات لدى هذه الشريحة المجتمعية، فإنها تجتمع مع موروث آخر – له درجة الرسوخ نفسها- من التعلق بحب آل البيت والتبرك بهم وزيارة مقاماتهم، لا سيما السيدة نفيسة، التي اتخذت الكاتبة من محيطها فضاءً مكانياً للخط الثاني من السرد. ومثلما مررت العبسي الكثير من المعتقدات الشعبية، مررت كذلك حمولات معرفية كثيفة، كانت في أغلب السرد جزءاً أصيلاً من الحكاية، نتيجة ما يقوم عليه البناء من وقائع وأحداث وشخوص حقيقية. ووسط هذه المعارف والثقافة الشعبية مررت الكاتبة – ضمناً- رؤاها، التي تشي بمقدار ما تتكبده المرأة من معاناة، في مجتمع تعلي ثقافته من شأن الذكر على حساب الأنثى، ما يجعلها تحيل لفظ امرأة إلى معاني الحزن والقهر “مَرَة يعني مُرّ”. وعلى رغم التناغم في فضاءات السرد على اختلافها، كان ثمة ارتباك في صوت السرد، في المرات القليلة التي تحولت الكاتبة فيها من السرد المركزي “الراوي العليم”، إلى السرد الذاتي عبر بعض أصوات الشخوص. وربما لو تخلت عن هذه المساحات اليسيرة لصالح النغمة السائدة من السرد المركزي، لتحقق للنسيج المزيد من الانسيابية والسلاسة. العجز الممزوج بالرضا لجأت الكاتبة إلى تقنية التكرار مع شخوصها من المصريين في استخدامهم لعبارة “لا حول ولا قوة إلا بالله”، لتدلل على ما اتسمت به هذه الطبقة عبر تاريخها الممتد، من شعور بالعجز الممزوج بالصبر والرضا. واستخدمت التكرار مرة أخرى مع عبارة “بسبب شغلك الوسخ”، وقرنتها بحيلة استباقية تثير التساؤل حول ماهية عمل الزوج، الذي يقف وراء كل الكوارث، التي تتعرض لها الأسرة. وأرجأت الإجابة، بهدف تحقيق مزيد من التشويق. كما استخدمت التناص بكثافة مع الموروث الديني الإسلامي والمسيحي، لتكسب النص مزيداً من القوة والجمالية… “أعرف أيضاً كيف أصبر على طعام واحد” (ص59)، “أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (ص96). كذلك نثرت في طيات النسيج بعضاً من المأثور، لا لتدل على النزوع الحكمي وحسب، وإنما لتمرر رؤى ضمنية، كان هذا المأثور الوسيلة الأنجع لتمريرها… “وكما يقول المثل: مَن يسطُ بسفينة صغيرة يدعى قرصاناً، ومن يسط بسفينة كبيرة يدعى فاتحاً” (ص107). نكهة الأسطورة بين النكهات التي أضفتها الكاتبة على نسيجها، فاحت نكهة الأسطورة الفرعونية والإغريقية، والتي استدعتها في مواضع تبرر وتمنطق هذا الاستدعاء. فمن خلال مشروب البيرة، المحرك الرئيس للأحداث؛ استدعت العبسي أسطورة الربَّة “سخمت” التي أرسلها “رع” للقضاء على البشر ولم تتوقف إلا بالجعة المقدسة المصبوغة بالأحمر – لتبدو كالدماء- والتي غيبتها، لتستيقظ في ثوب إلهي جديد، وتصبح “حتحور” صديقة الإنسانية. كذلك تناثرت أساطير أخرى في غير موضع من النسيج، خدمت المعرفة والفانتازيا والصراع، إذ أبرزت أزليته بينما أكدت الأحداث الواقعية في المقابل استمراره وأبديته. وقد تجلى الصراع على مستويات عدة؛ بين المصريين والأجانب، بين الثائر والمحتل، بين الإنسان والموت وبينه وبين الفقر. وبرز أيضاً مستوى آخر من الصراع الذي نما داخل الشخوص، فمزَّق “صابرة” بين تدليلها لزوجها رغبة في استمالته وصرفه عن خيانتها، واحتقارها له ونفورها منه في الوقت نفسه بعد تلك الخيانة. وبدا كذلك في “شوقة” التي تحب صديقتها وتخونها، وفي “فوقية” التي تحب “شوقة” وتصوب كلماتها المسمومة باتجاهها فتقتلها، وفي “ثيوخاري” الذي يكره الإنجليز ويتودد لهم. ومن هذا الصراع نبتت ظلال فلسفية، وأسئلة جدلية عن الموت والحب والمصير. المزيد عن: رواية مصرية\الإستعمار\الإسكندرية\الجالية اليونانية\مصر\الصراع السياس\يحرب التحرير 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post صراع وجودي بين روسيا وأوكرانيا بوجهين لغوي وثقافي next post كلود مونيه يخرج عن الانطباعية ليدخل بكل عجرفة إلى محطة القطار You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024