من جو الفيلم السويدي "الفتاة ذات الإبرة" (ملف الفيلم) ثقافة و فنون السينما عندما تكشف أعماق الشر فلسفيا by admin 15 فبراير، 2025 written by admin 15 فبراير، 2025 29 “الفتاة ذات الإبرة” فيلم سويدي يعذب المشاهدين جماليا اندبندنت عربية / موسى برهومة يسري الخوف في مفاصل الفيلم الدانماركي “الفتاة ذات الإبرة” على امتداد زمن العرض (ساعتين بالأبيض والأسود)، ومن المؤكد أنه يصحب المشاهد إلى أزمان لاحقة تجعله يتساءل ربما عن تشابه اليوم بالبارحة البعيدة. ولم يوفق بعض النقاد الذين ربطوا الفيلم الدنماركي (المدرج في القائمة المختصرة لجائزة الأوسكار للأفلام الروائية الطويلة)، بفيلم (Speak No Evil) أو “لا تتحدث بشر” (2024)، وهو النسخة الأميركية من فيلم دنماركي (بالمناسبة) حمل الاسم نفسه وصدر عام 2022، فما بين “الفتاة ذات الإبرة” و”لا تتحدث بشر” بون شاسع في الرؤية والمعالجة والاستبطان. الأول ذو طبيعة فلسفية تقرأ في أعماق الشر الذي يوشك أن يكون طبيعة، بينما الثاني فيلم تشويقي يعتمد الإثارة ويوغل في العنف، محاولاً رسم صورة لعالم سوداوي، في إطار من الرعب النفسي. ماكنة الخياطة وفتاة الإبرة (ملف الفيلم) الفيلم، الذي أخرجه السويدي ماغنوس فون هورن، من سيناريو كتبه فون هورن ولاين لانغبيك، يتكئ على القصة الحقيقية للقاتلة الدنماركية المتسلسلة “داغمار أوفرباي”، التي “ساعدت” النساء الفقيرات على قتل أطفالهن غير المرغوب فيهم، وحكم عليها بالإعدام للمرة الأولى عام 1921، ولكن تم تغيير الحكم لاحقاً إلى السجن مدى الحياة، وقيل إنها قتلت ما يصل إلى 25 طفلاً بين عامي 1913 و1920، بيد أن الفيلم لا يقدم نفسه باعتباره فيلماً عن قاتلة متسلسلة، بل إنه بحنكة قل نظيرها في السينما العالمية الجديدة، يؤجل، أو يخزن الأحداث ويسردها، بقصد، في سياق متقطع يتم تتويجه باللحظة/ الصفعة الأخيرة، وهي لحظة لا تستهلك كثيراً من زمن الفيلم. هذه دربة تقنية أقل ما يمكن أن توصف به بأنها تجسيد عالٍ للدهاء الجمالي. انعدام اليقين يتحرك الفيلم في طرقات كوبنهاغن ما بعد الحرب العالمية الأولى، مسائلاً مناخات انعدام اليقين التي ترتطم بها، في عدة محطات أساسية، الخياطة كارولين (فيك كارمن سون/ التي أدت دوراً مبهراً تحتاج بعده إلى الاستشفاء النفسي)، والتي تطرد في البداية من شقتها إلى الشارع، وتجبر على العيش في ظروف مزرية وقاسية. وهي في محطة ثانية غير قادرة على التقدم بطلب للحصول على تعويض الأرملة، لأن زوجها، الذي لم يرد على رسائلها منذ مغادرته للقتال في الحرب، لم يعلن رسمياً عن وفاته، لكن رسالة استرحام من كارولين إلى مديرها الثري تكون شرارة (ولو خافتة وموقتة) لعلاقة حب تنتهي على نحو مأسوي لأسباب طبقية فيها مقدار هائل من العجرفة وجفاف التعاطف وازدراء الطبقات المسحوقة. تخسر كارولين الحب، ثم تخسر عملها في مشغل الحياكة، وعلاقتها بزوجها العائد من الحرب بوجه ممسوخ مشوه لا تطيق الكاميرا التحديق به، ولكنها “تربح” جنيناً ينبض في أحشائها، ويا لها من هدية مسمومة تدفع الفتاة إلى التساؤل المضمر: ما دمت غير قادرة على تمكين نفسي من العيش والمأوى، فكيف بمقدوري توفير ذلك للطفل؟ المخرج السويدي ماكس فون هورن (ملف الفيلم) هنا يأتي دور الإبرة التي كانت تستعملها كارولين لحياكة الملابس العسكرية، لكنها تستعين بإبرة أكبر للإجهاض العنيف في حمام عمومي، حيث يكتشف أمرها من قبل السيدة الوديعة الطيبة داغمار (ترين ديرهولم)، التي تدير وكالة تبني سرية للأطفال، لكنها في العلن تدير متجراً للحلويات، وتعيش مع ابنتها الصغيرة إيرينا. الحمل يستمر على رغم الإبرة المغروسة في الجسد الضئيل المحتشد بالصرخات، فيعرض الزوج، المصاب بالتشوه وبحالة ذهانية تجعله يصرخ بشدة طوال الوقت، حضانة الطفلة الرضيعة، لكن كارولين تقرر أن تتوجه إلى داغمار فتسلمها المولودة. ولما كان على كارولين أن تدفع لقاء ذلك، ولما لم تكن تملك المال، تقرر أن تعمل حاضنة ومرضعة للأطفال الذين تستقبلهم هذه الوكالة غير القانونية. ثقب الأمل تأويل الشر سينمائياً (ملف الفيلم) وكان بمقدور أي مخرج تقليدي أن يكتفي بهذه النهاية التي ترمز إلى المآلات المأسوية للحرب، مع ترك ثقب للأمل المتمثل في تمكين هذه السيدة الفاضلة الرؤومة داغمار الأطفال من العيش في ظلال أسر ذات مستوى رغيد من طبقة الأطباء والمهندسين والمحامين، لكن المخرج السويدي يصر على غرس إبرته حتى يخترق عظم الروح، عندما تتتبع كارولين خطى داغمار، وهي تصطحب، ذات نهار، أحد الأطفال، لا إلى عائلة محبة تتبناه، بل إلى حفرة في المجاري السفلية في شارع فرعي من المدينة بعد خنقه. هذه اللحظة الانعطافية الساحقة لا تستهلك كثيراً من الشحن العاطفي الدرامي في الفيلم، كما لا تستهلك أيضاً لحظة أخرى يقضي فيها أحد الأطفال حرقاً في المدفأة المنزلية، كأنما المخرج يبعث برسالة إن الحرب تفعل أكثر من ذلك، بل إنها تجعل الشر جزءاً من الهيئة البشرية، ما دام أن داغمار تبرر جرائمها بالقول “العالم مكان مروع”، وأنها فعلت ما لم تقوَ على فعله النساء اللاتي أتين يعرضن أطفالهن، ويدفعن المال، من دون أن يرف لهن جفن. وفي اللحظات التي تتلو ذلك نطل على المحاكمة العلنية للقاتلة المتسلسلة التي لا يبدو عليها الندم، لأنها تتسلح بما تظنه “عملاً أخلاقياً” من أجل الخلاص، وتجنيب هؤلاء الأطفال مصائر شبيهة بمصائر أمهاتهن، وكذلك الآباء البيولوجيين المجهولين الهاربين من المسؤولية القانونية، أو اللائذين بأعراف المجتمع الذكوري، والسلطة المشوهة. الفيلم، في عتمة ذلك، لا يقدم نفسه باعتباره فيلم رعب، مع أن الرعب يفيض من كل جزئية فيه، لكنه رعب غير مرئي، مثل الشوارع المعتمة والمتلوية، والأقبية اللزجة، والبيوت المتعفنة، والطرق المكتظة بالقاذروات، والحمامات البخارية، والسلالم الملتوية، والبشر غير المبالين، الذين تبدو الرحمة جافة في نفوسهم، وهذا ما جسدته الكاميرا العبقرية للفنان ميخال ديميك، التي ساعدها الأبيض والأسود على رسم عالم من القتامة والانسحاق، من دون التورط في مشاهد القبح المباشرة أو التقليدية، وساعد في ذلك موسيقى ماري بوس المشحونة بالتوتر. حتى إن مشهد القبلة، الذي يعد واحداً من التحديات غير القابلة للتنفيذ، يبدو في إطار هزلي من أجل التخفيف من ثقل المهمة الشاقة القاضية بأن تمنح جائزة لمن يقبل الرجل العائد من الحرب بوجهه القبيح المشوه وأسنانه المتساقطة وعينه المفقوءة التي يمكن غرس إصبع كاملة في محجرها، لكن كارولين تجرؤ على ذلك، وسط جمهور حانة ذات مسرح للاستعراض، لا لأنه زوجها الذي هجرته وطردته، بل لأنها تجردت من كل الأحاسيس والمشاعر. إنها تفيض باليأس الساحق. وهنا يتجلى معنى الشر بوصفه انعدام التعاطف وسط المشقة والألم، ما يستدعي الحديث عن الشرور الأخلاقية، وأن الشر هو فساد الخير، وأن “الإنسان ذئب الإنسان” بتعبير فرويد. المخرج يبدو “مجازاً” وكأنه يتلذذ بتعذيب المشاهد، أو استنزاف توقعاته، أو استدراجه إلى خيبة تلو أخرى من خلال تعمده السرد المتعرج الذي يوهم بأن لحظة ما (مثل العلاقة العاطفية بين كارولين ومديرها في المصنع) ستكون هي محور الفيلم، لكنها تتراجع لتنبثق قصة أخرى ذات توقعات مشابهة، وهكذا دواليك في لعبة جهنمية من بناء التوقعات وهدمها، وصولاً إلى المشهد المركزي المتمثل في محاكمة داغمار، وبعدها هرب كارولين التي يلقاها زوجها المشوه الذي يعمل في سيرك فتعمل برفقته كنوع من بارقة أمل خافتة، وهنا بذرة قصة مستقلة أخرى! وربما أشفق المخرج على المشاهد من كثافة القتامة واليأس والسوداوية، فترك له نهاية متفائلة دالة على خير ما، عندما توافق كارولين على حضانة إيرينا ابنة السيدة داغمار، فتعانقها في ملجأ الأيتام، وترتسم على الشفاه ابتسامة، لعلها تكون أكثر أحداث الفيلم جلالاً. المزيد عن: الشر الإنسانيفيلم سويديالعنفأعماق الذاتالخوفجماليات السينماالجمهورسؤال فلسفي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مروان حمادة: سخر رفعت الأسد من شقيقه ودعا إلى تقسيم لبنان وسوريا next post ما سبب العداوة التي استحكمت بين سيزان وغوغان؟ You may also like محمود الزيباوي يكتب عن: دمية جنائزية من مقبرة... 19 فبراير، 2025 “انعكاس في ألماسة ميتة” يحدث انقلابا في برلين 18 فبراير، 2025 أفضل 27 ممثلا لم ينالوا أي ترشيح لجوائز... 18 فبراير، 2025 ( 100 عام) على ولادة الروبوت في مخيلة... 18 فبراير، 2025 سيرة أميركية جديدة تكشف ألغاز ماري كوري في... 18 فبراير، 2025 دراما جديدة عن موسوليني: “عندما تؤدي الكلمات إلى... 18 فبراير، 2025 حب حسي بين راقص مهاجر وثرية أميركية يثير... 18 فبراير، 2025 فضيحة روسية في الحياة الفنية الفرنسية 18 فبراير، 2025 رحيل هاني السعدي عراب مسلسلات الفانتازيا التاريخية 18 فبراير، 2025 “الرسائل المحترقة” تكشف الوجه الخفي لحياة جين أوستن 18 فبراير، 2025