ثقافة و فنونعربي “السائرون نياماً” لهرمان بروخ “ثلاثية” روائية ترسم صورة الانهيار الأوروبي by admin 29 مارس، 2022 written by admin 29 مارس، 2022 19 المسيرة الحتمية المنحدرة من الرومانطيقية إلى الفوضوية فالواقعية المبتذلة اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب عندما يقول الكاتب الألماني الكبير توماس مان عن رواية لكاتب ألماني آخر، إن “رواية (موت فرجيل) واحدة من الأعمال الأكثر أساساً وحداثة في زمننا هذا”، معتبراً إياها “رواية كتبت بشكل جريء وجديد ومفاجئ”، مضيفاً أنها “رواية تسحر وتضع كل من يقرأها تحت خيمة سحرها بشكل لا راد عنه”. عندما يقول صاحب “الجبل السحري” و”دكتور فاوستوس” مثل هذا الكلام فمن المؤكد أن رغبة ستستبد بنا في قراءة هذا العمل، لمحاولة إدراك السبب الذي يجعل كاتباً من طينة توماس مان يعلن من دون لبس أو غموض أن كتاباً كهذا قد سحره، غير أن هذه الرغبة سرعان ما تتحول إلى رواية أخرى لبروخ هي بالتأكيد “السائرون نياماً” التي سنجد دوافع أخرى عدة تحدو بنا إلى تفضيل البدء بها. في خدمة اللغة الألمانية مؤلف “موت فرجيل” و”السائرون نياماً” هو هرمان بروخ، الكاتب النمساوي الذي تدين له اللغة الألمانية بأفضل استخدام في مجال الرواية. والحال أن هرمان بروخ كان من قوة اللغة في كتابته إلى درجة جعلت أعماله تستعصي على الترجمة، إذ إنها تفقد خلال ترجمتها جزءاً من جمالها، بحسب ما قال النقاد عنه، ومع هذا فإن أدب بروخ لم يكن أدب لغة وحسب، بل كان أدب موضوع أيضاً وواحداً من الآداب الروائية، بخاصة الأكثر دلالة في القرن الـ 20، حتى وإن كان قد ترجم أقل من أي كاتب ألماني أو نمساوي آخر من أبناء جيله، وفاته قطار الشهرة أو على الأقل وصله متأخراً. من فيينا إلى نيويورك مثل معظم الكتاب والفنانين النمساويين، ولد بروخ في فيينا (1886) ومات في نيويورك (1951)، هو الذي سلك طريق المنفى على غرار غيره من كبار المبدعين حين سيطر النازيون على الحكم في ألمانيا ثم احتلوا النمسا. ولد هرمان ابناً لعائلة صناعية كبيرة مما أهله للالتحاق بالدراسة الجامعية فانكب على درس الفلسفة والرياضيات وعلم النفس، وأضحى جزءاً من الـ “أنتلجانسيا” الطليعية في فيينا، ثم سرعان ما انصرف كلياً إلى الأدب وبدأ ينشر القصص القصيرة والروايات بادئاً بروايته الثلاثية التي ستنال شهرة واسعة في ما بعد، “السائرون نياماً” التي نشرها في 1931 و1932، وشبهها كثيرون برواية روبرت موزيل “الإنسان البلا ملامح”. كان هدف بروخ من روايته أن يصور “انهيار القيم” من خلال رسمه لحياة أجيال تبدأ في العام 1888، وتتواصل حتى العقود الأولى من القرن الـ 20 وسط عالم الانحطاط والخيبة والانهيار. رواية للزمن المعاصر وحتى وإن كان من الصعب دائماً أن تعتبر “السائرون نياماً” أكبر أعمال بروخ، فهذه المكانة تظل حتى اليوم محفوظة لروايته “موت فرجيل” التي بدأ كتابتها باكراً في النمسا ثم استأنفها في المنفى، ولم تنشر كاملة إلا في العام 1945 وهي مذ نشرت للمرة الأولى نالت تقريظ النقاد حتى وإن كانوا قد تلمسوا فيها أقصى درجات الصعوبة، موضوعاً ولغة، فإن “السائرون نياماً” تبدو أكثر إغراء للقارئ من ناحية ارتباطها الأكثر وضوحاً بالزمن المعاصر والأبعاد الاجتماعية فيه، في مقابل ارتباط “موت فرجيل” بقضية الكتابة نفسها، مما يعني أن الأولى تظل دائماً أقل صعوبة ونخبوية وأكثر تجاوباً مع اهتمامات القراء، وهي على أي حال الرواية المفضلة لدى الكاتب المعاصر ميلان كونديرا الذي يفرد لها فصلاً تحليلياً مهماً في كتابه “في الرواية” الذي يشكل الجزء الأول من ثلاثية نقدية له باتت شهيرة. ثلاث قصص في رواية واحدة “السائرون نياماً” هي في حقيقتها ثلاث روايات في واحدة، بمعنى أننا هنا أمام ثلاثة نصوص طويلة تتحدث عن ثلاث حقب من التاريخ الأوروبي تتمدد بين الأعوام 1888 و1918، وعن ثلاث شخصيات تلتقط كل واحدة منها في لحظة انعطافية من حياتها وعلى مسافات زمنية بين كل واحدة منها والأخرى تمتد 15 سنة، فالشخصية الأولى وهي يواكيم فن بازنوف ضابط الجيش البروسي المنتمي إلى طبقة النبلاء، ومن هنا تحمل القصة التي تصوره لنا في العام الافتتاحي 1888 اسمه تحت عنوان “1888 بازنوف أو الرومانطيقية”، بينما تحمل القصة الثانية عنوان “1903 إش أو الفوضوية” والثالثة والأخيرة عنوان “1918 أو هوغينو أو الواقعية”. وفيما تدور أحداث الأولى في برلين بشكل عام، تتموضع الثانية بين مدينتي مانهايم وكولونيا على طول مجرى نهر الرين، فيما تتموضع الثالثة في بلدة متخيلة تقع على ضفة نهر الموزيل في الألزاس التي كانت ألمانية حينها. والحقيقة أنه لئن كنا هنا أمام ثلاث قصص في مدن مختلفة وبأبطال وأزمان مختلفة، فإن الشخصيات تتداخل بين قصة وأخرى، بل ثمة في كل قصة ما يحيل إلى أحداث تجري في قصة أخرى وهكذا، أما المهم في ذلك كله فيرتبط أساساً بالعناوين التي حمّلها بروخ لكل واحدة من القصص. هبوط أوروبي متسارع ما تحيل إليه هذه العناوين هو بالتحديد الهبوط الأوروبي خلال تلك المرحلة من الزمن التي يتابع الكاتب مجرياتها وسياساتها وحروبها، لا سيما ما نتج من ذلك كله من انحدار في القيم انطلاقاً من هيمنة العقلية الرومانطيقية وربما براءتها كذلك في الزمن الأرستقراطي الذي يمثله بازنوف الشخصية المحورية في القصة الأولى، الذي سيتزوج النبيلة إليزابيث حبيبة صباه على الرغم من أنه مولع بغانية تشيكية، زواجاً يبقيه على مسافة من زوجته حتى اللحظة التي يتدخل فيها صديق له هو فون برتران الذي يضفي على القصة جانباً لا أخلاقياً جراء افتقاره إلى القيم، مما يحدث شرخاً في الذهنية النبيلة، وهذا الفاسق سنعود ونراه في القصة الثانية رجل أعمال ناجحاً، ولكن في عالم بدايات القرن الـ 20 حين أخلت قيم النبالة مكانها للفكر الفوضوي الباحث عن تغيير العالم، ولكن هذه المرة اتباعاً لمسيرة أوغست إيش الذي يتملكه الفكر الفوضوي من خلال صداقته مع الاشتراكي جيرنغ رفيق سهراته، الذي سرعان ما يسجن ويتهم إيش برتران بالتسبب في سجنه ويتوجه لقتله لكنه لا يفعل، ويعيش دوامة تشبه تلك التي يعيشها بازنوف، “دوامة خلو أوروبا الجديدة من القيم”. إلى الحضيض وهو الخلو الذي يوصل القارة إلى الحضيض في القصة الثالثة التي يتولى بطولتها هذه المرة، الواقعي، ولنقرأ هنا الانتهازي هوغينو الذي نراه مرة ألمانياً ومرة فرنسياً بحسب الظروف، ثم نراه يخادع إش ويقتل بازنوف لدوافع تافهة، لا سيما خلال الفوضى التي سادت خلال الحرب العالمية الثانية، والتي كما تخلص رواية بروخ هذه، التي تحمل عنواناً عاماً هو “السائرون نياماً” انطلاقاً من الحال المرضية والواقعية لـ “الأبطال الثلاثة”، هي الفوضى التي سيتنبأ بها بروخ في الصفحات الأخيرة من الثلاثية التي دبجها العام 1932، عام وصول النازيين إلى مشارف الاستيلاء على السلطة في ألمانيا التي هي بعد كل شيء مسرح أحداث القصص الثلاث التي سجلت بداية الإبداع الروائي لهرمان بروخ. مكانة متقدمة في الحداثة ومع ذلك كله فإن “موت فرجيل” كانت هي التي لفتت منذ ظهورها الأنظار إلى أدب هرمان بروخ الكبير، وحياها كبار الكتاب والنقاد والمفكرين على خطى حنة آرندت التي كتبت عنها بتفصيل يكاد يكون فكرياً أكثر منه إبداعياً، وكان من بين أول من تناولوا الرواية من بين الأدباء والنقاد توماس مان وألدوس هكسلي اللذين وجدا فيها حداثة مفرطة وسرداً للشرط الإنساني قوامه اللغة وعلاقة اللغة بالزمن، وفي المقابل نظر إلى “السائرون نياماً” انطلاقاً من قوتها التعبيرية ومكانتها في الحداثة الروائية. ومن بين أعمال هرمان بروخ الكبيرة يبقى عملان، هما روايتاه الأخيرتان “اللامسؤولون” (1950) و”المغري” (1953)، وهاتان الروايتان تبدوان على أي حال أقل قيمة لمجرد أنهما أكثر مباشرة من الروايتين الأوليين، وإلى جانب الروايات كتب هرمان بروخ العديد من الدراسات، غير أن دراساته ومقالاته على تنوعها لم تلق من الشهرة ما كانت لاقته رواياته، بل إن معظم مقالاته لم تنشر إلا في وقت لاحق حين جمعت دراسات نقدية أدبية له تحت عنوان عام هو “الإبداع والمعرفة” (1955). وفي دراسات هذا الكتاب كما في نصوصه الروائية، يبدو لنا هرمان بروخ متسائلاً كدأبه دائماً عن مشروعية الكتابة وعن علاقتها بالمعرفة والزمن، ومن الواضح أن هذا الكاتب النمساوي الذي ولد وعاش أجمل سنوات حياته في فيينا “الكابوس السعيد” ظل مأخوذاً حتى النهاية بما كان يعتبره مشكلة المشكلات، مشكلة الكتابة، انطلاقاً من سؤاله الدائم لماذا نكتب؟ وهل للكتابة من جدوى؟ المزيد عن: السائرون نياما \ الأدب الألماني \ الانهيار الأوروبي \ هرمان بروخ 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post خالد النصرالله: الكاتب الخليجي الشاب يكتب بجودة مثل غيره next post عن أفول الخطاب الأيديولوجي العربي قومياً واشتراكياً You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024