الأحد, يناير 12, 2025
الأحد, يناير 12, 2025
Home » الروائي المستشرق ماتياس إينار يسترجع تاريخ العنف

الروائي المستشرق ماتياس إينار يسترجع تاريخ العنف

by admin

 

روايته الموسوعية الجديدة “هروب” تقابل سديم الحروب بموسيقى الرياضيات

اندبندنت عربية \ انطوان جوكي

نعرف الاهتمام العميق الذي يعيره الكاتب والمستشرق الفرنسي ماتياس إينار للحرب وشرقنا، من خلال روايات عديدة آسِرة، مثل “جودة الرمي” (2003)، “منطقة” (2008) و”بوصلة” (2005). موضوعان يظللان أيضاً روايته الجديدة، “هروب”، التي صدرت حديثاً عن دار “أكت سود”، ويتفحص فيها من جديد، بنظرته الإنسانية البصيرة، “ما يفعله عنف التاريخ بأكثر جوانب حياتنا حميمية”، من خلال قصتين تتشابك عملية سردهما فيها من دون أدنى رابط ظاهر بينهما.

القصة الأولى، التي تعمّد إينار إسقاط أحداثها في زمن غير محدد، كما ليدلّ على إمكان حدوثها خلال الحرب العالمية الأولى أو في ماضٍ قريب لا يقل عنفاً. هي قصة جندي مجهول نراه في مطلع الرواية يسير بمفرده داخل منطقة جبلية تطل على حوض المتوسط، مرهقاً بحمل بندقيته، وبما اقترفته يداه، وبما يدور في ذهنه، بعد فراره من الحرب ومعسكر المنتصرين الذي كان ينتمي إليه، حريصاً على ألا يراه أحد. منطقة يتبيّن بسرعة أنها أرض طفولته، الأمر الذي يفسّر قصده إياها للتواري عن الأنظار والتقاط أنفاسه في الكوخ الذي يملكه والده في مرتفعاتها، قبل التوجه شمالاً لعبور الحدود. ولكن هل يكفي مَن مارس القتل والتعذيب والاغتصاب، وتلطخت يداه بالدم، أن يبتعد عن ساحات القتال للإفلات من الحرب؟ لا، فهذه التجربة باتت تحت جلده، وذكرياتها نارٌ لا تنطفئ: “يتذكّر الطائرات الأجنبية التي كانت تسحق المدن العزلاء، يتذكر فرحه بكل هؤلاء الموتى وهذا الدمار”.

في عزلته المؤلمة على أكثر من صعيد، يصادف الجندي المنهَك، فتاةً تبتعد برفقة حمارهما الأعور، من صراع يتجاوزها، بعدما انتهك جسدها وروحها، الأمر الذي يفسّر حذرها الشديد، لا بل خوفها، من أي رجل، خصوصاً إذا كان جندياً. ومع ذلك، لا تلبث هذه الفتاة أن ترافق الجندي في رحلته في اتجاه الحدود، لكونها تفرّ من الجحيم نفسه. تعايُش ينقذها من موت محتم في منطقة تعجّ بالقتلة، ويساعد الجندي في بحثه عن سلام داخلي منشود، بمنحه إياه فرصة استعادة ذلك الجزء من إنسانيته الذي ظنّ أنه فقده.

الهروب إلى الرياضيات

هروب رواية ماتياس إينار الجديدة (دار أكت سود)

 

القصة الثانية، التي تقابل الأولى لجملة أسباب لا تقتصر على كون كل شيء محدداً فيها، هي قصة عالم رياضيات ألماني لامع يدعى بول هوديبير، نتلقاها على لسان ابنته إيرينا، وهي مؤرخة في علم الرياضيات، في سن السبعين. تبدأ سرديتها من النهاية، أو حتى من أبعد من النهاية، أي من المؤتمر الذي نُظِّم في 11 سبتمبر 2001 على متن باخرة راسية قرب برلين، تكريماً لذكرى مرور 40 عاماً على تأسيس “معهد الرياضيات لأكاديمية العلوم” في ألمانيا الشرقية، الذي أسسه والدها وترأسه لفترة طويلة. مؤتمر لا نعجب من عدم دوامه أكثر من يوم واحد، نظراً إلى تاريخ افتتاحه الغني عن التعريف.

ومع ذلك، بفضل اشتعال ذاكرة إيرينا، واستحضارها شهادات أصدقاء والدها حوله، ووضعِها تحت أعيننا الرسائل النارية التي كتبها لأمها مايا، نعلم الكثير عن بول، عن حماسته الشيوعية وماضيه الذي طبعته تجربة اعتقاله في معسكر بوخنفالد النازي، وعن كونه عالِم رياضيات عبقرياً عمل على إثبات لا نهائية الأعداد الأولى التوأم، وركّز أبحاثه على “الفضاءات اليوتوبية” التي باتت تُعرف بـ “مساحات هوديبير”. وقد وضع كتاباً شهيراً بعنوان “حدسيات إترسبرغ”، أثناء اعتقاله في المعسكر المذكور، تميّز عن سائر الأبحاث الرياضية بـ “جانبه الأدبي، وتأملاته في الثورة، ومقاطعه الغامضة، وشِعره المعتم، وراديكاليته العلمية”، وبتشكيله بالتالي، مؤلَّفاً فريداً من نوعه، يتقاطع فيه “اليأس التاريخي مع الأمل الرياضي”.

لكن من البورتريه الذي تخطّه إيرينا لوالدها، يأسرنا خصوصاً ذلك الجانب الذي يتعلق بعلاقته برفيقة دربه مايا، المرأة التي أحبّها حتى نفسه الأخير، وكانت سياسية لامعة في ألمانيا الغربية وناشطة في مجال حقوق المرأة. امرأة لا عجب في الاشتباه بتواطؤها مع “العدو”، في زمن “الستار الحديدي”، نظراً إلى سعيها بجميع الطرق، إلى تسهيل حياة زوجها وابنتهما اللذين كانا يعيشان بعيداً عنها، من الجهة الأخرى لجدار برلين، بسبب ولاء بول لليوتوبيا الشيوعية وإرادته عيشها حتى النهاية في مهدها. هذا على رغم خيبات الأمل التي تعاقبت تحت ناظريه، الواحدة تلو الأخرى: انتفاضة بودابست، ربيع براغ، ثم تواري “جمهورية ألمانيا الديمقراطية”.

 الخيّام والطوسي

وهذه الخيبات تحديداً، وأيضاً تلك التي تلتها على أصعدة حميمة وعامة، هي ما دفع ابنته إيرينا إلى الفرار إلى القاهرة، ثم إلى قلب القرون الوسطى، في دراستها، مستسلمة لافتتانها بجبر عمر الخيام ورباعياته، وخصوصاً بعبقرية مواطنه، الفيلسوف وعالِم الفلك والفيزياء والرياضيات، نصير الدين الطوسي، الذي روى من موقع الشاهد العيان تدمير بغداد عام 1258 على يد المغول، وقتل حتى الكلاب والطيور فيها، بغية “فرض الصمت التام للانتصار”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرابط بين سرديتيّ الرواية يبقى ضبابياً حتى خاتمتها. فعلى رغم إمكان العثور على “نقاط جغرافية مشتركة” بينهما، وأخرى “على المستوى السردي أو موضوعات العنف والهجران والرغبة والعلاقة بالزمن”، كما أشار إينار إلى ذلك في حوار معه، لكن الانطباع بقراءة قصتين منفصلتين كلياً، لا يفارقنا حتى الصفحة الأخيرة. وحول هذه النقطة، أوضح: “لو أنني جعلت هاتين القصتين تتقاطعان (…) لأفضى ذلك إلى مدلول أحادي المعنى”. سرديتان متوازيتان تماماً إذاً، لكن كما لاحظ أحد النقاد بفطنة: “الخطوط المتوازية مفارقات. بحكم التعريف، لا يمكنها أن تلتقي، ومع ذلك، لا وجود لأي منها من دون الخط الذي يوازيه”.

وبما أننا في عالم الرياضيات بامتياز، داخل هذه الرواية، نستحضر، من جهتنا، تلك الحقيقة الرياضية الأخرى التي تقول بتلاقي جميع الخطوط المتوازية عند خط الأفق، أو ما يسمى بـ “نقطة التلاشي”، التي هي أيضاً “نقطة الفرار”. وهذا تحديداً ما يجمع بول هيديبير والجندي: الفرار، حتى وإن فرّ الأول داخل فضاء الرياضيات، والآخر داخل الفضاء الجغرافي. فرار يمنح الرواية عنوانها ويطبع في الواقع أقدار جميع شخصياتها، إيرينا، مايا، الفتاة وحمارها، والطوسي نفسه: “ربما كان بول والطوسي على حق، وكان من المناسب اللوذ بعوالم الفلك والرياضيات ــ النجوم، الحب، الأجساد، الحلقات، المُثُل ــ كل هذا الخليط، الإنساني بعمق، الذي لا يمكن أن ينهار، لأنه يبقى داخلنا، في العالم الصوري”. يمكننا أيضاً أن نستحضر ما يقوله الروائي بنفسه داخل الرواية، على لسان عالم رياضيات آخر: “أحياناً يراودني انطباع بأن كل هذا مترابط، بشكلٍ غامض، بأننا جميعاً مرتبطون بعضنا ببعض مثل سلسلة أرقام، من دون أن نفهم جيداً كيف”.

رواية موسوعية

وكما في جميع رواياته السابقة، تبهرنا في “هروب” ثقافة إينار الموسوعية، وتحديداً ذلك الجانب المجهول من معارفه المدوخة، أي الرياضيات. ولكن بما أن معظمنا يعجز عن سماع “الموسيقى السرّية” لهذا العِلم، لا يفرط الروائي في العزف على أوتاره. خيار صائب لأن المعطيات الرياضية القليلة التي تحضر في روايته تتجاوزنا، بما في ذلك تلك القصيدة التي كتبها بول ويتعذّر على مَن ليس ضليعاً في علم الرياضيات فك ألغازها. ومع ذلك، نستمتع بمقاربته الشعرية لهذا العِلم، التي تجعله يكتب في مكان ما: “الرياضيات حجاب موضوع على العالم، يأخذ أشكال هذا العالم، ويغلّفه كلياً. إنها لغة ومادة”.

وكما في روايته “منطقة”، يتابع إينار في عمله الجديد مساءلته إنسانيتنا، بعبوره بنا حقباً مظلمة عديدة من القرن العشرين، بدءاً بالحرب العالمية الثانية ومعسكرات الموت، مروراً بالحرب الباردة على جانبي جدار برلين، ومعيش الألمان الشرقيين الرهيب في ظل الحكم الشيوعي، وحرب البوسنة، واعتداءات 11 سبتمبر 2001، وصولاً إلى حرب بوتين على أوكرانيا. ففي مطلع هذه الحرب، تروي إيرينا قصتها، ومعها تأتأة التاريخ.

ولكن بخلاف “منطقة” التي نتلقاها على شكل إلياذة حديثة ومذهلة، شكلاً ومضموناً، نشعر أحياناً في نص “هروب” بحالة إعياء، سواء في كتابتها أو في معالجة موضوعها. وهو ما يفسّر تلك الجمل ــ القليلة في الواقع ــ التي تفتقد إلى السلاسة التي اعتدناها لدى إينار، فتبدو عملية نسجها ظاهرة، تنمّ عن نقص في الإلهام أو تعب. جُمل نقع عليها في بعض الصفحات المرصودة لنقل ما يدور في ذهن الجندي الفار، وفي تلك التي يستسلم الروائي فيها لوصف الطبيعة التي يسير هذا الجندي داخلها. وصفٌ يأتي أحياناً منمّقاً، لا شعرياً، بسبب سعي جلي ومفرط إلى الغنائية فيه.

ومع ذلك، تبقى الرواية غنية ومهمة سواء في قصّتيها المشوّقتين، أو في جانبها الرياضي المثير، أو في قراءتها لتاريخنا الحديث، وللعنف الملازم له.

المزيد عن: روائي فرنسيمستشرقروايةالموسوعيةالتاريخالحروباحداث سبتمبرالرياضياتالطوسيالخيّام

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00