ثقافة و فنون الروائية الأميركية سيغريد نونيز تكتشف معنى العزاء في عصرنا by admin 1 يونيو، 2023 written by admin 1 يونيو، 2023 115 الموت الرحيم أم الحفاظ على حياة في طريقها إلى الإنتهاء؟ اندبندنت عربية \ سناء عبد العزيز يواجه سلوكنا العام مزيداً من الانتقاد في السنوات الأخيرة، لا سيما على مستوى الروابط والعلاقات الإنسانية بكل ما اعتراها من سيولة وهشاشة، حتى باتت المسافات المحسوبة بدقة بين الأفراد من أهم دروس العصر المستفادة، مثلما أصبحت أسئلة من قبيل، ماذا بك؟ احك لي عن أوجاعك. لماذا أصبحت حزيناً إلى هذا الحد؟ وما يندرج تحتها من معنى، من الندرة بمكان، فضلاً عن كونها لا تغني عن سائلها شيئاً. فهي تبدو في ظاهرها مشغولة بسر عذابك وكأن هناك حقاً من يشعر بك، بينما تخبرك التجربة بكل مرارتها، حتى مع من يشاركونك السكن والمائدة والفراش، أن لا أحد هنا، وأنك تستيقظ كل يوم في كون فارغ! انشغلت أعمال الكاتبة الأميركية سيغريد نونيز بمثل هذه الفخاخ التي لم تتوان البشرية تسقط فيها فلا تزيدها إلا ضعفاً وهشاشة. ومع احتدام الرغبة في البوح في زمن الوحدة والعزلة والمبالاة جاءت روايتها الثامنة التي صدرت حديثاً ترجمتها عن دار ستوك الفرنسية في مارس (آذار) الماضي، لتحمل عنوان “ماذا بك؟”، كخطوة محفزة على سرعة الاستجابة، بينما العنوان الأصلي “ما الذي تمر به”. آدم بلا غطاء استمدت سيغريد عنوانها المتعاطف من كتاب “في انتظار الله” للكاتبة الفرنسية سيمون فايل، الذي رأى ألبير كامو أن من المستحيل تصور أية مكانة لأوروبا في المستقبل ما لم تؤخذ بالحسبان الشروط التي حددتها فايل. على نهج مماثل، تحدد سيغريد على لسان إحدى الشخصيات، المسار الأخلاقي الوحيد والهادف لحضارة تواجه نهايتها، متمثلاً في طلب الغفران والتكفير عما أفسدناه سواء بالنسبة إلى نوعنا أو للكائنات الأخرى “أن نحب ونغفر بأفضل وسيلة ممكنة ونتعلم كيف نقول وداعاً”. “ما الذي تمر به” الرواية بالإنجليزية (أمازون) تفتتح الرواية بهذه الجملة “قررت الخروج للاستماع إلى حديث رجل”، وهو كاتب ومحاضر مشهور سيلقي كلمته في مؤتمر عن الرأسمالية وتغير المناخ. بيد أن ما يتضح بعد صفحات عدة، أن الراوية المجهولة الاسم، التي تنطبق ملامحها تماماً على سيغريد، الأستاذة الجامعية في برنامج الكتابة الإبداعية في كلية هنتر، خرجت لتستمع إلى أحاديث الناس كافة، في الوقت الذي تلتقط أذناها عبارات مشؤومة عن نهاية العالم الوشيكة جراء الاستهتار العام، كفشلنا في السيطرة على انتشار أسلحة الدمار الشامل وأزمة اللاجئين والإرهاب البيولوجي، والأهم من ذلك الإنذار الأخير لجائحة مروعة تغير طريقة استقبالنا للآخر، على رغم صدور النسخة الإنجليزية من الكتاب قبل شهور من جائحة كورونا عن دار “ريفرهيد” للنشر، وهو ما يبلور واحدة من أهم السمات في أعمال نونيز كافة، القدرة على التنبؤ والاستبصار، فما الذي رأته عيناها النافذتان، وغفلت عنه أعيننا اللاهية؟ تتداخل عبارات الأستاذ الجامعي المشهور مع ما يدور في رأسها وتشتبك بشخصيات تلتقيها عمداً مثل مضيفها على إر بي إن بي، أو عرضاً كما المرأة في صالة الألعاب الرياضية، أوأباً وابنته في حداد في أحد المقاهي، لتصنع تراكماً للمشهد الإنساني حول كل شيء ولا شيء تقريباً، إلى أن يتم بتر هذا الكولاج المرهق عن مرور الوقت والحزن والندم، بطلب صديقتها المريضة بالسرطان المساعدة في إنهاء حياتها، طارحة سؤالاً يتعذر الإجابة عنه، هل يجدر بنا أن نرفض الرغبة الأخيرة لإنسان في طريقه إلى الموت أم نتبعه ونحن ندرك تماماً أننا لن نعود سالمين؟ تبدو إضافة صفة “الرحيم” إلى كلمة “القتل” أكثر مدعاة إلى تحديد الموقف واتخاذ القرار الأكثر قسوة بقتل من نحبهم، مما يستدعي مشهد النهاية الصاعق في فيلم عنوانه “الحب” 2012 للمخرج العالمي مايكل هانيكي، حيث يضع الزوج الوسادة على رأس زوجته المحتضرة منهياً عذابها المتواصل بمنتهى الحسم. الموت الرحيم (موقع اوتانازي) ينتهي الجزء الأول من الكتاب بهذا الطلب المربك، لتبدأ رحلة المرافقة حتى أبواب الموت، وعندها يتحول السرد من مجرد حكاية تخص شخوصاً بعينها إلى هم عام ومصير مشترك، ودراسة مؤثرة ومتعاطفة عن الصداقة والتواصل الإنساني، ومقدار ما ندين به بعضنا لبعض، وما يسمح به الرصيد المتبقي من ضمائرنا لمساعدة الآخر في الموت بالحماسة نفسها التي ننبري بها لمساعدته في الحياة! في أحد الحوارات تصرح سيغريد “إنها مشكلة كبيرة أن يبدو الناس لا يعرفون كيف يتحدثون عنها. يبدو أننا في طريق مسدود. عن نفسي ليست لدي أية إجوبة عن هذا الأمر. إننا نبذل قصارى جهدنا لإبقاء شخص ما على قيد الحياة في الوقت الذي لا يريد منا ذلك، عائلته هي من ترغب في إبقائه على حساب معاناة طويلة ورهيبة يكابدها الجميع، ولكن الطريقة التي تكونت بها ثقافتنا هي أن تبذل ما في وسعك ولدت سيغريد نونيز في مدينة نيويورك، وهي ابنة لأم ألمانية وأب صيني من بنما، عرفت بمقالاتها المثيرة للجدل، وبالسيرة المميزة لسوزان سونتاغ التي ربطتها بها علاقة حميمة، وتأثرت بأفكارها واهتماماتها الثقافية والفكرية، لذا وصفتها سيغريد بأنها “مرشدة بالفطرة”، ترى في تعليم الآخرين التزاماً أخلاقياً ومصدراً للمتعة التي لا نهاية لها. فازت روايتها السابعة “الصديق” بجائزة الكتاب الوطني للرواية 2018، لتحقق لها الذيوع الذي طالما استحقته بعد أن شارفت على الـ70، وهي الرواية الوحيدة التي ترجمت إلى العربية عن دار المدى عقب فوزها بالجائزة، وتمثل الوجه الآخر للحكاية كأننا حيال نقش وكتابة، لأنها بدورها عن فقدان صديق لراو مجهول الاسم. إلا أن زمن السرد يتزحزح في روايتها الجديدة إلى ما يمكن أن نطلق عليه “ما قبل الفنالة”. الرقص في حذاء مدبب تنطلق الصديقتان في رحلة إلى الريف لاستئجار ملاذ لطيف يصلح للأيام الأخيرة في حياة على شفا الزوال، وما إن تصلا إلى هناك تكتشف المريضة أنها نسيت الحبة القاتلة، فتسلكان طريق العودة، وتصطدمان بحكايات الآخرين المهمومة بالمال والأطفال والعشاق والأزواج والسكن، التي بقدر ما تثير الحزن تفجر الضحك. فسغريد من فئة الكتاب الذين يؤمنون بأن الكوميديا جزء من كل تجربة بشرية، و”عندما تترك خارج العمل، يكون هناك شيء أساسي مفقود”. يسمح الإطار المرن للرواية بتضمين الفن والفلسفة والمحن الثقافية والأخلاقية والخرافات والإشاعات والحوادث، والدهاليز المظلمة لعالم الكتابة والكتاب، عبر حكايات تتولد بعضاً من بعض، وتتداخل على غرار “الديكاميرون” و”ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” و”دون كيخوته” و”جاك القدري”. من ضمن جوقة الأصوات، يمكننا الإصغاء إلى صوت قطة تنتقل من أم إلى حضانة أم أخرى، مع أن سيغريد لا تحبذ فكرة استنطاق الحيوان، لكنه الشعور بالاغتراب الذي بات يلفنا جميعاً، كما نرى في التعبيرات المقروءة على الوجوه البكماء. فلا غضاضة إذاً لو تسللت إلى ذهن القطة وهي على شفا النوم، لتصنع مشهداً حلمياً يسمح بالخروج عن المنظومة الجبرية ولا يتنافي مع مفاهيمها الخاصة عن الكتابة. تصف سيغريد ما عانته في هذا المشهد تحديداً قائلة “لقد جاهدت مع هذا المقطع كثيراً. أعتقد في النهاية أنني أحببت فكرة تمثيل حيوان”. وعلى رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تسعى فيها الكاتبة إلى توسيع مظلة المعاناة لتشمل الإنسان والحيوان والطبيعة، في روايتها “الصديق” مثلاً، تحتفظ الساردة بكلب أستاذها المنتحر بعد أن رفضه أهله وأقاربه، وتتعزى به عن فقدانه بل وتشتد معركتها الخاصة في مجابهة الحزن بسبب معاناة الكلب الصامتة الذي أصيب بصدمة، بسبب اختفاء سيده، فيصعب الفصل بين ما تكنه لهذا الكلب من مشاعر وما تدين به لصديقها المنتحر. تلقت الرواية مراجعات إيجابية، خصوصاً وأن الكتابة عن الموت بكل ما يمثله للأبجديات من تحد عظيم، اعتبرت نوعاً من التحدي بالنسبة إلى أي كاتب. وهو ما يفسر تردد سيغريد في تدوين الأيام الأخيرة لصديقتها الراحلة باعتبارها خيانة محتملة، لا لخصوصية التجربة بل بالأحرى لعجز اللغة وجرأتها على تزوير كل شيء. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post لماذا لم يحل اليورو مكان الدولار على عرش العملات الدولية؟ next post القضاء العسكري يتهم عناصر من “حزب الله” بقتل جندي الـ”يونيفيل” You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024