الأربعاء, يناير 1, 2025
الأربعاء, يناير 1, 2025
Home » “الحمار الذهبي” من أقدم السرديات الكبرى في التاريخ

“الحمار الذهبي” من أقدم السرديات الكبرى في التاريخ

by admin

 

مصدر إلهام سرديات التحولات والعجائب

المجلة / إسماعيل غزالي

“الحمار الذهبي” الشهير بـ”التحولات” للمؤلف المتعدّد لوكيوس أبوليوس ذي الأصول الأمازيغية واسمه أفولاي، من أبكر الأعمال السردية في التاريخ (القرن الميلادي الثاني)، اللافت بنزوعه العجائبي والغرائبي في آن، وعلامته الموشومة تفرده بأكثر من خصيصة حكائية ومعرفية وفنية وأجناسية، بوأته ليكون من أبدع السرديات الكبرى في المكتبة الروائية المتوسطية والكونية.

السحر غاية السفر

يسافر البطل لوكيوس إلى مدينة هيباتا ويلتقي في طريقه شابين يخوضان في حوار محتدم حول أعمال السحر، فيبدي لوكيوس فضولا وحماسة لتصديق حكاية الشاب أرسطومان الذي يدافع عن وجود السحر وحقيقة فاعليته، منحازا اليه ضد مرافقه الذي يرفض بشكل دامغ الأمر واصفا إياه بالسفيه. سرعان ما ينكشف مطلب وغرض سفر لوكيوس، إذ استأثر باهتمامه ما سمعه عن أعمال الساحرة بانفيلا. بعد أن ينفصل عن رفيقيه ويشيعهما، ينزل ضيفا في منزل البخيل ميلون، بدعوى أنه يحمل له رسالة توصية من ديمياس الكورنيتي كي يقيم عنده مؤقتا، غير مكترث لتحذيرات قريبة أمه بيرهينا، التي صادفها في سوق المدينة واتضح أنها من ربته صغيرا. يتودّد إلى الخادمة فوتيس التي أمست معشوقته مع اندلاع حب طارئ بينهما (ينبغ لوكيوس في وصفها بـ فينوس ويسهب في مدح وجهها وشعرها وفق مذهب ذوقي خاص، الكاتب هنا يكشف عمقا تصويريا أشبه ما يكون بالرسم والنحت ويؤسس لرؤية جمالية فلسفية خاصة ببورتريه الوجه وقيمة شعر المرأة بالذات حين يوجز فتنة المرأة وسحرها في شعرها) كي تكون دليله إلى مختبر بانفيلا السحري، وهو ما تأتى له حين أطلعته على عملية تحول للساحرة بانفيلا من امرأة إلى بومة بعدما دهنت جسدها بمرهم.

عندئد طالب لوكيوس الخادمة فوتيس بعلبة المرهم كي يتحول بدوره إلى طائر/ نسر. أخطأت فوتيس التقدير، وجاءته بعلبة ثانية، فلما دهن جسده تفاجأ بتحوله الصاعق إلى حمار بدل طائر! يقضي لوكيوس الذي آل إلى حمار ليلته الأولى في إسطبل مع حمار ثان وحصان، في انتظار أن تأتيه فوتيس صباحا بنوعية من الزهور ليلتهمها كي يعود إلى طبيعته الآدمية، وهو ما لن يحصل عندما يتعرض البيت إلى سطو لصوص حمّلوه والحمار الآخر غنيمة السرقة وذهبوا به إلى كهف.

هناك يتعرف لوكيوس إلى حسناء اختطفها اللصوص ليلة عرسها وراح ينصت الى الحكاية التي طفقت ترويها للعجوز السيئة التي ترعى اللصوص، تحت ضغط التهديد.

يتقاطع “الحمار الذهبي” مع استراتيجيات الأساطير والمتون الميثولوجية المعنية بالترحال والسفر والاختراق والمغامرة والتيه وتخطي الحدود

ينتهز الحمار مناسبة للفرار وتمتطيه الحسناء وتبوء المحاولة بالفشل، فكانت المضاعفات جسيمة لعقاب مميت ينتظرهما، لولا قدوم شاب أبهر اللصوص بمهاراته فقلدوه منصب قيادتهم وعصابتهم. اتضح أن هذا خطيب الفتاة الذي سلبت منه ليلة عرسهما، وأوقعهم في فخه بعدما خدرهم سكرا وفرّ بحسنائه على متن الحمار لوكيوس، فردت الحسناء الجميل للحمار بأن سلمته لأبيها كي يعتني به كما يليق به، غير أن حظه اللعين يزج به في سيناريوهات مأساوية جديدة: قساوة الغلام عليه بحمل الحطب/ سرقته من لدن إسطبلي كي يقع في يد عصابة من الرهبان الذين حمّلوه تمثال الإلهة إيزيس/ وقوعه في يد صاحب طاحونة بعد القبض على الرهبان بتهمة السرقة وعودته الشاقة إلى تدوير حجر الرحى، والأفدح كره زوجة الطحان للحمير/ وقوعه في يد البستاني الذي مارس عليه أفظع أشكال التجويع… وهكذا دواليك صار يتنقل من جندي إلى أخوين يشتغلان طباخين عند أحد المترفين فطفق يلتهم أطعمتهم مما خلق صراعا بينهما، وباكتشافهما لضلوع الحمار في ذلك الأمر الشائن، فوضا أمره لسيدهما الذي أبدى إعجابه به وسلمه الى شخص لقنه ألاعيب بهلوانية وتاجر به ضمن عروض ساخرة وشهوانية، وحين يتحقق له الهروب من فداحة العرض المسرحي الماجن ويركض بعيدا، سيدهمه النوم ليجد نفسه على شاطئ بحر يتضرّع إلى ملكة السماء إيزيس بعد أن يغتسل على طريقة فيثاغورس سبع مرات في البحر كي يرجع إلى طبيعته الآدمية ويتحرر من شكله الحيواني الممسوخ، وفي منام ثان ستلوح له الإلهة إيزيس مبشرة إياه بأن تضرعه حظي بقبولها وتملي عليه ما سيفعله.

فسيفساء تصور لوكيوس أبوليوس

في الموكب الاحتفالي لإلهة كورنث، ستقع نظرة لوكيوس في الجمهرة الغفيرة على الكاهن الذي أومأت له توصية إيزيس في المنام، وهو يحمل الورد فهرع إليه وطفق يلتهمه ليسترجع شكله الإنساني في الحين.في المقابل ظلّ ممتنا للإلهة إيزيس التي حرّرته من طوق المسخ الحيواني واعتنق ديانة المعبد وصار كاهنا في نهاية المطاف.

الترحال وتخطي الحدود

يتقاطع نص “الحمار الذهبي” مع استراتيجيات الأساطير والمتون الميثولوجية المعنية بالترحال والسفر والاختراق والمغامرة والتيه وتخطي الحدود. فمغادرة البطل وعدم استقراره في مكان معين، تغذي هذه البنية المتغيرة والمتحولة لتفرعات الحكاية الأصلية واندلاق خيوطها في أكثر من جهة، وهو ما نجده كقيمة أدبية حاضرا بقوة في ما بعد، ضمن اشتغال روايات طبقت شهرتها الآفاق: “دونكيشوت” سرفانتس، و”رحلات غاليفر” لجوناثان سويفت.

غلاف “الحمار الذهبي” أو “التحولات”

أما تحول البطل من إنسان إلى حمار، فهو شكل من أشكال العجائبية التي دمغت النصوص الأسطورية، وأدب الشعوب الشفاهي، قبل أن تحتكم إليها نصوص سردية ملهمة في التاريخ الأدبي كـ”ألف ليلة وليلة”، والعجائبية التي ينفرد بها نص “الحمار الذهبي” كما هو ملمع إليه سلفا، لها علاقة وطيدة بأدب المسخ الذي عرف به كافكا من بعد، وما بعد كافكا في الأدب الفانتازي.

نص سردي بصوغ مركزي وجديد، وله مواصفات الرواية الحديثة برغم تجذره السحيق في التربة الرومانية

المسخ أو التحول في نص “الحمار الذهبي”، يستند إلى مسألة الفعل السحري ليشيد عالما تخييليا موصوفا بالإثارة ومفخخا أفقه بالمفاجآت. أدب التحولات والمسوخ إذن سابق على لوكيوس أبوليوس بكل تأكيد، لكن أن يُشتغل عليه كنص سردي بصوغ مركزي وجديد، له مواصفات الرواية الحديثة برغم تجذره السحيق في التربة الرومانية، أمر يعد مصدرا أساسيا لجماليات التحول بامتياز.

كيوبيد وسايكي، “الحمار الذهبي”، المكتبة البريطانية

السخرية اللاذعة

السخرية اللاذعة في نص “الحمار الذهبي” دامغة في كل فصوله، ذات آلية خفية تضمر رؤية وموقفا، وذات مرح محكوم بعمق فكري ومعرفي وفلسفي. فروح الدعابة الجارحة هنا ليست مجانية أو منثورة كيفما اتفق. بلاغة السخرية هذه نجد لها ما يشبهها في النص السردي اللاحق الشهير بـ”دونكيشوت” لسرفانتيس، وفي نصوص فرنسية كما عند موليير. والشيء ذاته سيبرز في الأدب الروسي: غوغول مثلا… إنها السخرية التي سيستأثر بها القرن العشرون أدبيا وفق توصيف إيتالو كالفينو في كتابه “آلة الأدب: مقال الضبط والأشباح”.

في الوقت نفسه، فإن قلة قليلة هي النصوص التي خصصت لموضوع السحر عملا تخييليا، فنص “التحولات” أو “الحمار الذهبي” يفصح في توطئته ومتنه عن اهتمامه الجاد بإضاءة معضلة السحر، كمسألة أساسية وكشكل من أشكال التفكير والحياة، ولا ينفي عنها طبيعتها الميتافيزيقية ويؤكد فاعليتها كقيمة إنسانية. السحر كموضوع في النص، يقابله الشكل السحري للرواية، تلك الرؤية الخيالية للواقع التي سادت بصور متباينة في تاريخ السرد الكوني بدءا بـ”ألف ليلة وليلة” قبل أن تسمق كمدرسة في أميركا اللاتينية مع بورخيس وماركيز وغيرهما.

غلاف “تحولات الجحش الذهبي”

خطة المتواليات

نادرة هي الأعمال السردية التي جعلت من الحمار شخصية روائية، وإن كان أدب الحيوانات له تقاليد في الحكايات الشفوية للشعوب، وكذلك في المتون السردية المكتوبة: “خواطر حمار” لألكونتس دي سيجير، و”أنا وحماري” لخوان رامون خيمينيث، وهناك الحيز اللافت الذي يخصه نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” الموسوم بـعيد حمار.

نص “التحولات” أو “الحمار الذهبي” كرواية، نموذج أصلي للسرد الذي أنسن الحمار والعكس، والأمر يحتمل تأويلا رمزيا لمجمل المحكي الاستعاري.

سحرية المناخ الحكائي في “الحمار الذهبي” تتخلق أيضا عن سحر اللغة ذات الاشتغال البلاغي المتعدد

يعتمد النص على خطة مبتكرة في الحكي باستناد الحكاية الأصلية إلى وحدات حكائية متعاقبة عبارة عن متواليات بشكل خطي تارة وبشكل عمودي تارة أخرى. فالرواية منشطرة إلى أحد عشر كتابا، وكل كتاب مؤسس على التشذير أو التقطيع النصي في صيغة مجزوءات حكائية، ولكل مجزوءة عنوان. ثم هناك نص في الرواية شغل حيزا كبيرا من مساحة الحكي يتعلق بأسطورة كيوبيد وسايكي، وحضوره المركزي والمسهب في الرواية يكاد يجعل منه نصا داخل النص الإطار أو رواية داخل الرواية. خطة بديعة نجد لها ما يحاكي أثرها في المتون الروائية الكلاسيكية اللاحقة والمعاصرة.

الأحلام والرؤى والتعدد المعرفي

إيقاع الأحلام والرؤى والرموز في الرواية يجعلها مكتوبة بشكل هذياني، تتفجر في هذا الإيقاع الطاقات الهائلة الداغلة في قيعان الشخصية، وتطفو الصور والحقائق الصادمة من أعماقه المنسية المريبة إلى السطح. إنه استغوار لطبقات سيكولوجية نجدا لها أثرا غائرا في روايات ما يسمى مجاوزة بـ”تيار الوعي” كما عند جيمس جويس.

Nicolai Abraham Abildgaard – Heritage Images via Getty Images / مدبرة منزل تسرد أسطورة كيوبيد وسايكي لفتاة صغيرة

أما التعدد المعرفي والأجناسي لنص “الحمار الذهبي” فيتأسس على خلفية متنوعة: التاريخ والأسطورة وفن النحت والرسم والجغرافيا والطبخ والنبات والفلسفة وعلم اللغة والشعر والأديان… تعدّد خلاق يجعل منه عملا خرائطيا ويعزز من هويته النوعية كرواية، فقراءتها المفاجئة تذكي حساسية انتمائها بقوة إلى الأدب الحديث، وكأنّ لا علاقة لها بتلك العصور الغابرة، وهنا قدرتها البديعة كأثر استطاع أن يمكر بحدود لحظته التاريخية كي يخلد في ذاكرة الأزمنة اللاحقة وتلك هي القيمة المبتكرة لكل عمل كلاسيكي مريب.

كما أن أدب المحاكمة والمرافعات له حضور لافت في نص “الحمار الذهبي”، فلوكيوس أبوليوس يوظف ثقافته كمحام هنا (لا بد من الإشارة الى كتابه “المرافعة” المعروف بـ”دفاع صبراتة”)، ويصنع من الرصيد القانوني والقضائي جماليات لصالح الكتابة السردية، تخصبت بشكل مثير وممتع في بنية النص، خاصة في المحاكمة الساخرة للكتاب الثالث. ينضاف الى أدب المحاكمة، أدب المحاورات الفلسفية، كما هو معروف عند سقراط وأفلاطون وأرسطو.

كذلك أسلوبية الرواية المبهرة، فسحرية المناخ الحكائي في “الحمار الذهبي” تتخلق أيضا عن سحر اللغة ذات الاشتغال البلاغي المتعدد، المراوغ والرصين، التهكمي والجاد، الدوّار والخطي، الإيحائي والمعلن، الرمزي والمنطقي… وكل هذه المهارات والمقدرات مؤسسة على الأدوات البيانية الصرفة من أشكال الاستعارات والتوريات، مع تعالق لغات التصوف والتاريخ وطروس الحكي الأسطوري والمتون الخبرية والتحليل العقلاني والسجالي.

المزيد عن:  أسطورة تاريخ روايات السحر مغامرة الحلم

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00