ثقافة و فنون الجنوب والشمال في أيام قرطاج المسرحية 2024 by admin 6 ديسمبر، 2024 written by admin 6 ديسمبر، 2024 29 عروض عربية وعالمية تبتعد عن المركزية الأوروبية المجلة / أسمهان الشعبوني اختتمت يوم السبت 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الدورة الخامسة والعشرون من أيام قرطاج المسرحية بالعاصمة التونسية التي انتظمت تحت شعار “المسرح مقاومة… الفن حياة”، حيث احتضنت ندوة فكرية حول “المسرح والإبادة والمقاومة” دامت ثلاثة أيام، إلى جانب لقاءات أخرى وورش في فنون التمثيل والإخراج والكتابة المسرحية، كما تضمنت عروضا مسرحية أداها مساجين تونسيون تحت عنوان “مسرح الحرية”، وانطلق المهرجان بنبرة ما بعد استعمارية، بعرضِِ للمخرج العالمي ليمي بونيفاسيو الذي لا يُخفي نزعته نحو الابتعاد عن المركزية الأوروبية والغربية. وبينما أعطيت الكلمة خصوصا للجنوب في هذه الدورة، تشمل الباقة التي اخترناها من المسرحيات المتميزة في هذه الدورة، عروضا لا تنحو هذا المنحى فحسب بل تربط أيضا بين الشمال والجنوب بما أن المسرح فن يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، وهو أبو الفنون التي هي جسر بين الثقافات. “بيت أبو عبد الله”: الجسد يحكي آلام الاضطهاد “بيت أبو عبد الله” مسرحية عراقية تشكل تحفة فنية مخبأة وراء جدار من الصمت. فيها، لا ينبس أحد بكلمة، وفيها ثلاثة ممثلين رئيسيين: فتاة (التونسية ثريا البوغانمي) ورجل (الأستاذ محمد العمر) وكهل (أنس عبد الصمد، وهو كذلك المخرج)، وفيها جدران ثلاثة، يتغير موقعها حسب تطور الأحداث، ويلج الممثلون داخلها، ويطلون من أعلاها، ويجلسون في فتحاتها، ويقحمون رؤوسهم في ثقوبها، وهي مركز العرض ومحوره. يشتغل أنس عبد الصمد كممثل ومخرج منذ سنوات على المسرح الصامت، وقد صقل موهبته بتجربة في اليابان، وسبق أن قدم في هذا الإطار عرض “توبيخ”. عُرضت مسرحية “بيت أبو عبد الله” في مهرجان المسرح العربي في دورته الأخيرة ببغداد، وشاركت في أيام قرطاج المسرحية لسنة 2024 حيث فازت بالجائزة الثانية (التانيت الفضي). إن كان المسرح الصامت مفتوحا على جميع التأويلات، تاركا الحرية للمتلقي في فهم خطاب الجسد، فإنه من الصعب ألا نستشف من مسرحية “بيت أبو عبد الله” قراءة في وضع الوطن العراقي وربما العربي أيضا، على الرغم من إمكان قراءته أيضا على مستوى العائلة أو حتى على صعيدٍ وجودي. ينطلق العرض على مهل مع فتاة تتبع جدارا يتغير موقعه. تجلس إلى طاولة لتأكل فلا تستطيع. تأخذ صرة حمراء وتذهب إلى يسار الخشبة. تجلس على الأرض وتفتح الكيس، فتخرج قفاز ملاكمة وسكينا وأشياء أخرى. توحي الأجواء منذ البداية بالقتل أو بالدفاع عن النفس. ولما يتفكك الجدار إلى ثلاثة، وينكشف عن ديكور بيت عائلي، ويظهر بقية الممثلين، تتتالى المشاهد التي توحي بالقلق والعنف والاضطهاد، وباستحالة الفن والتواصل والحب والحياة. فعندما تحاول الفتاة أن تعزف على الكونترباص، يُسمع صوت منشارٍ يوقف الموسيقى، وعندما يحاول الممثلون أن يتشاركوا الأكل ويتقاسموا الجبنة الموضوعة على الطاولة، تتشنج حركاتهم وتتسارع وتتناثر الجبنة، ونسمع كعيص فأر تظهر صورته العملاقة على خلفية المسرح، وعندما يحاولون أن يعبروا عن حنانهم بحركات متزامنة على خدودهم، تسقط أيديهم. نراهم يرتجون على صوت الجلبة في الخارج، أو طلقات الرصاص، أو حتى صوت الرقن على الكومبيوتر حيث تتحول الكتابة إلى مصدر للخوف والرهبة، ونرى الحيطان تنطبق عليهم، والمساحات تتقلص (من 100م2 مكتوبة على الخلفية إلى 91,9 م2 إلى 58 م2 إلى لاشيء)، ونرى الأطباء (ومن بينهم الممثل ماجد دردنش) يتعاملون مع أجسادهم كفئران تجارب تؤخذ منها عينات أو تُحقن دون موافقتها، ونرى الجدران تتحرك على عجلات بدفع من ممثلين مختفين تحت الرداء الأسود لملائكة الموت. يصعب ألا نستشف من مسرحية “بيت أبو عبد الله” قراءة في وضع الوطن العراقي وربما العربي أيضا، على الرغم من إمكان قراءته أيضا على مستوى العائلة تنهار الأجساد أكثر من مرة وتنهض في مقاومة مستميتة، وتحاول أخذ الكلمة، لكن صوتها غير مسموع، فتستعين بميكروفون، ويصل الأمر بالكهل إلى وضع الميكروفون داخل فمه، ربما في محاولة يائسة لكي يوصل صوته. ولا يمكن أن نمتنع عن استحضار حلقات مشهودة من تاريخ العراق الحديث عندما يربط أنس عبد الصمد رقبته مرارا بحبل مشنقة، أو عندما يأخذ فردة حذاء بين يديه ويتأملها ثم يديرها نحو الجمهور، وخصوصا عندما يأخذ من كومة الكتب المرمية أسفل الطاولة كتابا بعنوان “التفاهم”، ويشرع في تمزيق صفحاته ثم في أكلها قبل أن يفعل الشيء نفسه بباقي الكتب. أيام قرطاج المسرحية / مشهد من مسرحية “بيت أبو عبد الله”. الحركة متقنة في هذا العرض، تنم عن تحكم كبير في الجسد، ومشاعر الانقباض والقلق والجزع والاضطهاد تمر بعدوى ناجحة إلى جمهور أيام قرطاج المسرحية الذي عبر، مثل لجنة التحكيم، عن افتتانه بمسرحية “بيت أبو عبد الله” بالتصفيق الحار والوقوف. بقي أن المخرج، أنس عبد الصمد، يُصنف هذا العرض كما صنف من قبل عرض “توبيخ” ضمن منهج “الميتا مسرح”، على الرغم من أن هذا المصطلح يشير عادة، وحسب تعريف باتريس بافيس في معجمه المسرحي “إلى مسرح تتمركز إشكاليته حول المسرح، أي مسرح يتحدث عن نفسه ويعرض ذاته”، وذلك من خلال عرض مسرحية داخل المسرحية، ولا يزال محبو المسرح ومحبو أعمال أنس عبد الصمد متشوقين إلى فهم مكنونات هذا المصطلح الذي اختاره. “عودة نجم”: فرصة غير مكتملة رغم غياب أي ترجمة في هذا العرض باللغة الصينية، جلس جمهور أيام قرطاج المسرحية يشاهد “عودة نجم” لأكثر من ساعة ولم يغادر القاعة إلا القليل في مساء ذلك الأحد من نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فهو عرض مسرحي في غاية الروعة البصرية والتقنية والأدائية للمخرج المسرحي العالمي ليمي بونيفاسيو. يعمل ليمي بونيفاسيو، ابن جزر الساموا، منذ زمن طويل مع مجموعات السكان الأصليين في أماكن مختلفة من العالم، وخاصة من المحيط الهادي، وهو على رأس فرقة مسرحية نيوزيلاندية باسم MAU. في عرضه الجديد “عودة نجم” الذي ينطلق من تونس نحو جولة عالمية بعد عرضٍ أول في الصين، تعاون بونيفاسيو مع شعب اليي، سادس أكبر مجموعة اثنية في الصين، كي يحمل المتفرج على الغوص في رواية هذا الشعب عن الوجود، مستكشفا رؤيته للكون والارتباطات العميقة بالطبيعة والأسلاف والروحانية المتأصلة في هذه الثقافة. كما هو الحال في جميع أعمال بونيفاسيو، يمثل هذا المشروع بداية رحلة مستمرة، تهدف إلى حمل كل من الممثلين والمتلقين على إعادة اكتشاف الأجزاء المفقودة من ثقافاتهم التراثية وتملكها، وهو يربط بينها وبين فن يتميز بطابعه الطلائعي. يقول بونيفاسيو في حوارٍ له مع الوكالة التونسية للأنباء: “لست حكواتيا، وليست الحكاية الهدف من المسرح، بل أريد أن أحمل الناس إلى لحظةٍ شاعرية”. وذلك ما يحدث بالفعل في “عودة نجم”. العرض غنائي وراقص، ينكشف للمتفرج من خلال أناشيد شعب اليي وطقوسهم في الحياة وحركاتهم وعاداتهم في الزراعة، والتغني بنصوص كتابهم المقدس، “البيمو”، وتأديتهم رقصات مهرجان الشعلة الذي يشرفون عليه في الصين، وصلواتهم عند الدفن، حيث يروي كل عنصر قصة تجمع بين الماضي والحاضر. يربط المخرج هذه المشاهد برمزية رائدِ فضاء قادم من الكون ليحط على كوكبنا، فتبدأ قصة الخلق التي تنطلق لدى شعب اليي من عنصر الماء. هكذا نرى في أحد أول مشاهد العرض، علامة ضوئية تشير إلى “الأرض الموعودة”، وظَهْرَ رجلٍ يتحرك بإحكامٍ رهيب ودون انقطاع لأكثر من خمس دقائق في تموجات متتالية، بينما تحاكي الإضاءةُ بواقعية شديدة على الخشبة مظهرَ الماء الذي تقطعه امرأة وهي تحبو. يمثل مشروع “عودة نجم” بداية رحلة مستمرة، تهدف إلى حمل كل من الممثلين والمتلقين على إعادة اكتشاف الأجزاء المفقودة من ثقافاتهم التراثية وتملكها سيعود رائد الفضاء في النهاية من حيث جاء في مشهد “العودة إلى الرحم”، فنراه يضع خوذته وينطلق نحو الشفق الذي يظهر في الأفق في لوحةٍ فنية فائقة الجمال، إذ يتداخل الفيديو بالأداء الحي، فيترجل الممثل في البداية نحو الشفق قبل أن يتسلل بمهارة إلى الكواليس، ويعوضه في حيلة بصرية فيديو مطابق له، نراه فيه يعلو في الفضاء بين النجوم المتلألئة. يعود الماء هنا أيضا من خلال التقنية الضوئية، فنرى العنصر الذي بدأ منه الخلق يغمر الخشبة من أسفل إلى أعلى، لتخرج في النهاية المغنية التي افتتحت العرض وتغني من جديد، لكن في هذه المرة من وراء تلك الستارة الضوئية المائية. أيام قرطاج المسرحية / مشهد من عرض “عودة نجم”. إيقاع العرض بطيء لا يدعو إلى الملل بل إلى التأمل، وربما يحمل على التنويم المغناطيسي، وهو ما دأب عليه بونيفاسيو في عروضه بهدف تحويلها إلى تجربة روحانية، ومحاولة خلق حالة وعيٍ معدلة لدى المُشاهد. للأسف، غابت معظم معاني العرض عن جمهور المهرجان لغياب الترجمة أو حتى تقديمٍ شفوي تمهيدي موجز للسياق، ولأنه لم يتم توزيع الكتيب التفسيري للعرض إلا بأعدادٍ محدودة. وفي الإمكان القول إنها كانت فرصة غير مكتملة لموعد الجمهور التونسي مع رائعة من روائع المسرح العالمي، في حين يبدو أن المنظمين أرادوا دعوة الجمهور إلى الانخراط في رؤية المخرج بونيفاسيو ما بعد الاستعمارية، فهو الذي يحث على التجذر في الثقافة الأصلية للإبداع رافضا أن يبقى الفن، كما هو اليوم، متأثرا إلى حد كبير بالفن الأوروبي. “لعبة النهاية” في إعداد جديدٍ يليق بعصر السرعة، قدم مسرح الطليعة بمصر عرض “لعبة النهاية” عن نص أصلي لصموئيل بيكيت، في خمسين دقيقة فقط. كان ذلك رهان المخرج سعيد قابيل الذي اختار طريقا مغايرا لذلك الذي سلكه مسرح الطليعة قبل 62 سنة مع المخرج سعد أردش. ففي حين كان العرض في سنة 1962 بالفصحى، أدته الفرقة في هذه النسخة بالعامية المصرية، وبينما يلتزم العرضان حرفيا النص الأصلي، إلا أن القديم كان يدوم ساعتين إلا ثلثا، في حين حُذفت في العرض الجديد فقرات الصمت الأصلية التي كان من المفترض أن تُمرر عبثية نص بيكيت الى الحضور. وبمثل هذا الإيقاع السريع، أسر سعيد قابيل جمهور أيام قرطاج المسرحية. في غرفة مظلمة ومعزولة، يدور حوارٌ حول النهاية الوشيكة والمعاناة والماضي، بين كهل متقدم في السن مقعدٍ وضرير، هام، وخادمه الأعرج، كلوف، الذي نكتشف في ما بعد أنه ابنه بالتبني. تتخلل الحوار طلبات هام المتكررة والمتعجرفة بأن يحضر له كلوف دواءه أو المبولة أو ينظر من النافذتين الصغيرتين العاليتين ليصف له ما يرى، أو ليجول به، أو ليضع كرسيه المتحرك في النصف. في جانب من الغرفة، سلتا قمامة يعيش فيهما أبو هام وأمه. يشتكيان وضعهما ويستعيدان ذكريات الماضي، قبل أن تموت الأم في هدوء. أيام قرطاج المسرحية / مشهد من مسرحية “لعبة النهاية”. الإضاءة عنصرٌ أساس في هذا العرض، حيث ساهمت في خلق أجواء المسرحية وتعزيزها. فبينما يُسلط الضوء الأزرق في مشاهد حزن هام، وخاصة خلال المونولوغ، يتغير بسرعة ليتلون ببعض الحمرة حينما ينتقل الكهل إلى نبرة غاضبة ومريرة وانتقامية تجاه كلوف، ثم يُطبق الظلام وتتخلله أشعة صفراء دافئة تنقل الى المُشَاهد الشعور بالحسرة وحالة التصحر العاطفي عند هام الذي يشتاق إلى لمسة حنان. سبق أن وُصفت مسرحية “نهاية اللعبة” لبيكيت بأنها تكرارٌ إلى ما لا نهاية للاشيء، فهي خالية من الأحداث، ولا تعدو أن تكون إعادة دورية لحديث عن الماضي هذه المسرحية التي تُصنف عادة في خانة مسرح العبث على الرغم من ممانعة مؤلفها، تتطرق إلى بؤس الإنسان بصفةٍ عامة، ويُفترض أنها مسرحية ذات أجواء مظلمة. لكن اختصار سعيد قابيل لها بحذف فقرات الصمت الطويلة والمتكررة وتثاؤب هام المتواتر في النص الأصلي، إلى جانب خفة روح كامل فريق التمثيل (محمود زكي، محمد صلاح، لمياء جعفر، محمد فوزي الريس)، والتوظيف المحكم للإضاءة، جعلها مستساغة، فنجحت فرقة مسرح الطليعة في تمرير نص عالمي معروف بصعوبة حواره إلى جمهور عربي شاب وابن عصره. سبق أن وُصفت مسرحية “نهاية اللعبة” لبيكيت بأنها تكرارٌ إلى ما لا نهاية للاشيء، فهي خالية من الأحداث، ولا تعدو أن تكون إعادة دورية لحديث عن الماضي والمعاناة وعن بؤس الإنسان الذي ينتظر نهايته منذ بدايته، كما توحي بذلك الجملة الافتتاحية على لسان كلوف “انتهت، لقد انتهت، ربما على وشك النهاية” (ترجمة بول شاوول). لذا، ففي هذا العرض الذي قلب العنوان الأصلي إلى “لعبة النهاية” في تأكيدٍ لأهمية النهاية في لعبة الحياة، مثل المشهد الأخير ذروة جمالية وحوارية وأدائية، حيث يقرر كلوف الرحيل فيستجديه محمود زكي: ” قبل ما تروح قول لي كلمتين من قلبك” ويحاول استبقاءه، قبل أن يكتشف أن أباه أيضا قد مات، فيستسلم إلى العزلة والوحدة والنهاية صائحا: “وصلنا للنهاية. بما إنها هي دي النهاية اللي لعبناها، بتبقى الطريقة الصح”، ويفتح كلوف باب الخروج فتنتهي المسرحية وقد خامرنا شك بأن كلوفلاقد يعدل عن قراره، ويعود لتنطلق دورة جديدة من لعبة النهاية المزيد عن: مسرحية تونس مهرجان الجمهور الشباب قرطاج مهرجان قرطاج الصين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post المؤسسة الأمنية في إسرائيل تستعد لاحتمال سقوط الأسد next post “للسينما بيت جديد” في مهرجان البحر الأحمر بجدة You may also like فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024 كوليت مرشليان تكتب عن: الصحافي والكاتب جاد الحاج... 26 ديسمبر، 2024 إسماعيل فقيه يكتب عن: “دعوني أخرج”!… قالها الشّاعر... 26 ديسمبر، 2024 عقل العويط يكتب عن: سوف يصفّق في الظلام... 26 ديسمبر، 2024