“البنت والبالون”… حكاية “بانكسي المجهول” على جدران عربية ومتاحف غربية

بلغت قيمة اللوحة 25.3 مليون دولار أميركي وخرجت للنور من لندن لتطوف الشرق الأوسط

اندبندنت عربية \ أمينة خيري صحافية

بقايا كتلة أسمنتية ضخمة ملقاة في شارع جانبي صغير بقلب القاهرة عليها آثار فستان الصغيرة وخيط البالون الأحمر الشهير. وأسفل طبقات الطلاء الرديء ومحاولات الطمس العتيد لآثار الرسم الغرافيتي المثير حيث ثائر أو متظاهر أو مواطن غاضب ملثم يرشق أحدهم بباقة ورد. ورغم أن صبي الدراجة الهوائية الذي يحمل “قفص” خبز ضخماً على رأسه ما زال يخترق العقد المرورية ويراوغ في الميادين والأزقة بحمله الشاهق، فإن أثره المتبقي على جدار منزو أصبح في حكم المطموس.

طمست الأحداث والحوادث والأزمات والمصائب السياسية والأمنية، ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية المتواترة الغالبية المطلقة من رسوم جدران ميادين وشوارع أحداث ما يسمى “الربيع العربي”. مر عقد كامل منذ غزت رسوم لم يعتدها المصريون وغيرهم من الشعوب العربية التي ضربتها رياح “الربيع” جدران الشوارع والميادين في وقت أقصى ما كان يعرف طريقه إلى جدران المباني إعلان عن شقة خالية أو درس خصوصي أو أحمد يحب منى. أما التعبير الغاضب والإسقاط الزاعق والفكاهة السوداء فلم تعرف طريقها إلى العديد من الجدران العربية إلا في الأشهر القليلة السابقة والسنوات القليلة التالية لأحداث 2011.

غرافيتي الأحداث السياسية

الصحافية السويدية ميا غراندال أرخت في كتابها “غرافيتي الثورة: فن الشارع لمصر الجديدة” الظاهرة التي اقتحمت الميادين بدءاً من صيف عام 2011 حين شعر المصريون أن جدرانهم تتعرض لهجمة غرافيتية شنعاء، لكن قوات الأمن كانت لها بالمرصاد، وهو ما جعل غراندال توصف الغرافيتي في عصر الرئيس الأسبق الراحل محمد حسني مبارك بـ”الفن المستحيل”.

بزع “الفن المستحيل” عربياً مواكباً لأحداث 2011، لا سيما في مصر، التي شهدت ضمن ما شهدت موجة رسوم غرافيتية سياسية واجتماعية واقتصادية غزت جدران المحروسة سرعان ما تحولت فيما بينها إلى حرب ضروس بين الفرق المتناحرة والأيديولوجيات المتناقضة من إسلاميين وليبراليين واشتراكيين ثوريين ومصريين عاديين وغيرهم.

ثائر ملثم يلقي بباقة ورد (اندبندنت عربية)

مصدر مجهول

لكن بقي جانب معتبر من هذه الرسوم منتمياً إلى مصدر لا تعرفه الغالبية ونابعاً من فكر فني مغموس في الأيديولوجيا لم يسمع عنه كثيرون بمن فيهم بعض رسامي الغرافيتي أنفسهم تمثل في الفنان الإنجليزي “بانكسي” الذي كان تأثيره جلياً في شوارع محمد محمود والبستان وميداني التحرير وعبد المنعم رياض. كما عرف طريقه إلى الحواجز الأسمنتية التي أحاطت بمقر وزارة الداخلية القديم في وسط القاهرة، وعلى جدران مبان حكومية وأخرى خاصة في الدقي، ومصر الجديدة، وإمبابة، وشبرا. وامتد التأثير، الذي لم تكن تخطئه عين في جداريات الغرافيتي خارج حرم جامعتي عين شمس والقاهرة وكذلك حلوان والإسكندرية والمنصورة وبورسعيد غير عابئ بحدود أو جسور أو حتى كون “بانكسي” نفسه صاحب التأثير غير معروف الهوية الحقيقية.

بانكسي صاحب الهوية المجهولة والتأثير العابر للحدود والثقافات والقارات، الذي ألقى بظلال وارفة. وفي أقوال أخرى وخيمة على عوالم “الربيع العربي”، يحظى بحضور جارف في قلب أمستردام، وتحديداً في متحف “موكو” للفن الحديث والمعاصر. وباستضافة لوحاته حالياً يمكن إضافة “فن الدعابة بالغ السواد” لنوعيات الفنون المعروضة في “موكو”.

خطوط بألف معنى

غالبية الزوار شباب ومراهقون، لكن هناك فئة من الأكبر سناً، لكن الجميع يأتي إلى هذا المكان وهو على معرفة مسبقة إن لم تكن معمقة بـ”بانكسي” وما يعنيه من ألفه إلى يائه. هذا الفنان البريطاني ناشط سياسي وفنان “شارع” خطوطه القليلة في لوحاته عميقة المغزى بألف معنى ومعنى. حس السخرية يكاد يقفز في وجوه المتأملين. وروح الدعابة بالغة المرارة تنبع من كل لوحة على حدة بشكل غير مسبوق. ورغم أن مشاعر الكآبة والحزن والمرارة سيدة الموقف في كل أعماله من دون استثناء، فإنها ترفع شعار “شر البلية ما يضحك”.

ما يضحك هو قرود بانكسي في كل مكان وفي كل معرض يقام لأعماله. قرود ترتدي مجوهرات الملكة إليزابيث، وأخرى تستمع للموسيقى بسماعات أذن ضخمة وثالثة تضحك ورابعة تنظر إلى اللاشيء وخامسة ترتدي ملابس الشرطة وسادسة تحمل لوحة مكتوباً عليها، “اضحكوا الآن، ولكن يوماً ما سنكون المهيمنين”. نقاد فنيون يرون أن بانكسي متمسك بالقرود لأنها الأقرب للبشر في الشكل والتصرفات، وآخرون يرجحون أن القرد بتصرفاته يشبه البشر الذين يسيرون في قطيع يقلدون وينقلون ويسلبون أدمغتهم فرصة التفكير والتدبير.

فتاة بانكسي ليست الوحيدة فقد تنوعت رمزيتها في جدارياته  (أ ف ب)

تفكير “بانكسي” وتدبيره

التفكير الذي يحبه بانكسي والتدبير الذي يرجح كفته يدوران في فلكين لا ثالث لهما. الأول فلك الرضا والإعجاب من قبل الشباب الغاضب من السلطة، وبعض الكبار من أصحاب أيديولوجيات التغيير ممن لم يفقدوا الأمل في التعديل، والأخير من قبل السلطات الغاضبة من الفئتين السابق ذكرهما، إضافة إلى المواطنين العاديين الذين يفضلون إبقاء الأوضاع على ما هي عليه على اعتبار أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، أو “ما تعرفه أفضل مما لا تعرفه”.

يعرف “بانكسي” الغامض والمؤسسات والكيانات الغامضة المسؤولة عن تنظيم لوحاته وتنسيق أعماله وإبرام اتفاقاته أنه ألهم كل مشكك أو رافض للسلطة؛ أي سلطة. ولو حتى من منطلق الاستمتاع بلذة الثورة على مفهوم الهيمنة في المطلق، ولو حتى كانت سلطة ترتكز على فكرة أو هيمنة نابعة من عرف متوارث أو متوافق عليه.

لكن خطوط بانكسي المعروفة تمددت وتوسعت لتصبح رمزاً وأباً وأماً روحيين لأحداث ما يسمى “الربيع العربي” بشكل واضح وإن ظل التأثير مطموس الهوية مجهول النسب.

أحدهم رسم على الجدران الخرسانية التي شيدت في ميدان التحرير إبان أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 رسماً لرجل يحمل بالونات وفتاة صغيرة تحاول الوصول إلى البالونات. الفتاة نفسها ظهرت في رسم على جدار في رام الله وهي ممسكة بالبالونات ذاتها التي رفعتها من على الأرض، ومن رام الله إلى بيروت ومنها إلى تونس والفتاة والبالون بخطوطهما الشحيحة وأثرهما العميق لدى كل مدقق ظلت يعاد رسمها عشرات وربما مئات المرات. وعلى الرغم من أن الرسمة لا تتضمن فكرة أو كلمة أو خطاً توحي بثورة أو غضبة أو تحريضة أو حتى شبهة أي ما سبق، إلا أنها تنضح بالكثير.

“البنت والبالون”

في متحف “موكو” في أمستردام عام 2021، يقف الزوار العارفون بأمر “بانكسي” يتداولون حكايات البنت والبالون، بدءاً من خروجها إلى النور للمرة الأولى في لندن عام 2002 وتحديداً على جدار أسفل جسر “ووترلوو” وبعدها بأيام على جدار مطبعة في “شورتديتش” في شرق لندن. كلتا الرسمتين اختفتا من على الجدارين لكن “البنت والبالون” تعيشان وتصران على الظهور في مشارق الأرض ومغاربها، مروراً بما تمثله من رموز مختلفة يقول البعض إنها “الأمل” ويراها الآخر “حراكاً”، ويعتبرها آخرون فقداناً للأمل حيث الصغيرة على الأرض والبالون في الهواء، وانتهاء بإعادة “بانكسي” رسم فتاته وبالونتها في عام 2014 وإهدائها لسوريا بمناسبة مرور ثلاث سنوات على الصراع السوري ولكن بعدما جعل الصغيرة ترتدي حجاباً وتصبح رمزاً للجوء السوري.

تعددت التأويلات بشأن لوحة “البنت والبالون” وأهداها بانكسي لسوريا لتصبح رمزا للجوء  (اندبندنت عربية)​​​​

العين فلقت اللوحة

عربياً، يقولون “العين فلقت الحجر”. وفي الغرب لا يتوقفون كثيراً عند العين أو يستوقفهم الحجر، لكن “التدمير الذاتي” الذي لحق بلوحة بانكسي الأشهر رفع من أرصدتها وزاد من قاعدة عشاقها ومحبيها والباحثين عنها بغرض زيارتها أينما حلت هي أو قريناتها التي رسمها الفنان ذاته. فقبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال وتحديداً في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، وأثناء مزاد علني في بريطانيا وما إن بيعت اللوحة الأشهر حتى فوجئ الحضور بتمزق اللوحة ذاتياً بفعل آلة حادة مخبأة بين اللوحة والإطار. الطريف أن من اشترى اللوحة لم يتراجع بعدما هبط نصف اللوحة أسفل الإطار على هيئة شرائط ورقية، بل تم تغيير عنوان العمل من “فتاة البالون” إلى “الحب الموجود في سلة المهملات”! والمثير أنه قبل أيام بيعت اللوحة المقطوع نصفها بستة أضعاف سعرها الذي بيعت به في عام 2018 (1.4 مليون دولار أميركي)، بعدما تم تجميعها على لوح مزدوج وتدلى منها الشرائط الممزقة أسفل الإطار. بيعت اللوحة بـ25.3 مليون دولار أميركي في قاعة “سوذبيز” للمزادات في لندن قبل أيام. والأكثر إثارة أنه بعد هذا المزاد التاريخي بيوم واحد، بيعت “فتاة البالون” مجدداً، ولكن هذه المرة على لوحتين منفصلتين حيث الفتاة في لوحة والبالون بأخرى في قاعة “كريتسيز” للمزادات في لندن بسعر 4.3 مليون دولار أميركي.

رفض سلطة الشرطة

لكن “فتاة البالون”، إحدى فتيات بانكسي الكثيرة وبالوناته، المعروضة في “متحف موكو” في أمستردام حالياً ما زالت كما هي، لوحة واحدة ورؤى مختلفة تختلف بحسب الزائرين وخلفياتهم ورؤاهم الفنية والثقافية وأيضاً السياسية. ففتاة البالون لا يمكن فصلها عن رسومه الأخرى التي يظهر فيها رجال شرطة مرة بوجه “إيموجي” مبتسم، وأخرى يصطحب كلباً بوليسياً عبارة عن دمية، وثالثة لشرطي يفتش طفلة صغيرة ترفع يديها إلى أعلى، ورابعة لطفلة تفتش شرطياً ويداه إلى أعلى، وخامسة لطفلين صغيرين يركضان في حديقة وكل منهما يرتدي سترة شرطي، وسادسة لشرطيين يجران “مهرج” سيرك، وسابعة لرجال أمن يركضون كالأطفال وهم يمسكون أيادي بعضهم البعض في حديقة، وثامنة لرجل شرطة يحرر مخالفة لطفل صغير يقود دراجة هوائية. وغيرها كثير لرجال ونساء أمن في مواقف غريبة لا تخلو من طرافة حادة وإسقاطات واضحة تدل على رفضه لما تمارسه الشرطة عموماً من سلطة.

المعرض المقام في “متحف موكو” في أمستردام ربما لا يتطرق بشكل مباشر إلى ربيع أو خريف أو حتى صيف عربي. لكنه يتطرق إلى فنان فريد مجهول الهوية نجح ليس فقط في أن يرسم لوحات ذات خطوط قليلة جداً ومعان عميقة جداً، ولا في أن تباع لوحاته بملايين لم يحققها أكبر رسامي العالم، ولا في أن تبث لوحاته مشاعر غريبة متناقضة متنافرة هي خليط من الضحك والبكاء، والأمل وفقدانه، والسلطة والفوضى سواء كانت خلاقة أو غير هدامة، ولكن نجح في أن يخلق منظومة اسمها “أثر بانكسي” وقع تحت سطوتها كثيرون وأصبحت لهم أسماء في عالم “غرافيتي” الشارع وبعضهم لم يسمع عن “بانكسي” أصلاً.

البؤس الضاحك

لكن هذا لا يقلل من مكانة بانكسي في عوالم الفن عموماً وفن الشارع بوجه خاص، والسياسة والغرافيتي السياسي والاجتماعي.

تقول أستاذ مساعد تاريخ الفن في جامعة زايد، سابرينا دو تورك، في ورقة منشورة بدورية “فنون الشارع والابتكار الحضري”، “إن استكشاف بانكسي لا يقف عند حدود أثره في إشعال الحراك في العديد من الدول العربية بغض النظر عن كونه أمراً إيجابياً أو سلبياً، لكنه عدسة يمكن تتبع ودراسة بزوغ فن الشارع في هذه الدول كوسيلة للتعبير الشعبي بها والاختلافات في هذا التعبير من دولة عربية لأخرى”.

“دو تورك” تطرقت في ورقتها وعنوانها “أثر بانكسي وفن الشارع في الشرق الأوسط” إلى تأثيره في ثلاث مناطق عربية: غزة وتونس ومصر، وحللت المشهد الفني في كل منها، وضلوع فن الشارع حيث الرسم على الجدران في ظل أحداث العقد الماضي مع اختلاف وأثر بانكسي في الخطوط والموضوعات والرؤى الساخرة للأحداث والعامرة بقدر بالغ من البؤس الضاحك.

أطفال يلهون حول برج مراقبة إسرائيلي على جدار في غزة لبانكسي (رويترز)

غزة وأثر بانكسي

وتظل غزة تحمل تفرداً حتى في أثر بانكسي على فن الشارع والجدران. ويشار إلى أنه زار غزة عدة مرات وخلف وراءه لوحات عدة مرسومة على جدران وأبواب. فمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب معانقاً برج مراقبة إسرائيلي ملحق بالجدار العازل، وأخرى له يخاطب الجدار قائلاً، “سأبني لك شقيقاً” ربما في إشارة إلى الجدار العازل بين أميركا والمكسيك، إلى فتاة صغيرة تحمل بالونات ترفعها من على الأرض وكأنها توشك على اجتياز الجدار، وأخرى تمثل أطفالاً على أرجوحة تشبه تلك الموجودة في الملاهي، لكن عمودها برج مراقبة وغيرها. وتبقى زيارة بانكسي لغزة في عام 2015 التي قام بها عبر الأنفاق السرية هي الأشهر، سواء لطريقة الوصول إليها أو للجداريات التي تركها هناك.

أحد تلك الرسوم رسمها بانكسي على باب وسط أطلال بيت المواطن “ربيع دردونة” الذي تحطم في قصف خلال فبراير (شباط) في ذلك العام. يمثل الرسم الإلهة الإغريقية “نيوبي” وهي تبكي مصير أبنائها الذين قتلوا. لكن “دردونة” باع الباب بمبلغ بخس هو 175 دولاراً أميركياً لفنان فلسطيني وهو لا يدري قيمة الرسم وقيمة بانكسي. وحين عرف، أبلغ الشرطة التي تحفظت على الباب.

وإذا كان باب بانكسي تمت مصادرته، فإن الجملة التي كتبها على أحد جدران غزة ما زالت متداولة، إن لم يكن في غزة، ففي أرجاء معرضه المقام في متحف “موكو” وغيره من معارضه الكثيرة حول العالم. “إن غسلنا أيدينا من الصراع الدائر بين الأقوى والأضعف، فإننا نقف إلى جانب الأقوى، لذا لن نكون محايدين”.

الحياد هو السمة الوحيدة المستحيلة في أعمال بانكسي المجهول الأشهر من نار على علم. فالمتلقي إما يقع في غرامها لأسباب أغلبها سياسي وأيديولوجي أو يمقتها ويعاديها لأسباب أغلبها كذلك. أما الجوانب الفنية فتبقى قيد تقييم “أثر بانكسي”.

المزيد عن: بانكسي\الربيع العربي\الغرافيتي\مصر\غزة\تونس\فن الشارع\اخترنا لكم