ثقافة و فنونعربي “البحيرة” لكاواباتا الذي فاجأ العالم بانتحاره في ذروة مجده by admin 28 أكتوبر، 2020 written by admin 28 أكتوبر، 2020 48 مطاردة الجمال مجاناً حتى الحدود القصوى والموت اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب عندما أهدى الكاتب الراحل غابرييل غارسيا ماركيز روايته الأخيرة “ذاكرة غانياتي الحزانى” إلى ذكرى الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، لم يَرَ كثير من النقاد في الإهداء تكريماً لهذا الأخير، بل رأوه نوعاً من الانتماء، وأعلن ماركيز بكل وضوح رغبته في الانتماء إلى أدب زميله الياباني الذي سبقه بنحو عقدين في الحصول على جائزة نوبل، وأربعة عقود في الرحيل عن هذا العالم، لكن ماركيز أحب في طلب الانتماء أن يكونا مُعاصِرَين. طبعاً، لا بد أن نرى التقارب الكبير بين رواية ماركيز التي أشرنا إليها، وواحدة من أجمل روايات كاواباتا “الحسناوات النائمات”، لكن علينا أن نرى في ما هو أبعد من ذلك نوعاً من تنويع ماركيزي على أدب كبير لم يكن فيه سابقاً ما يشبه أدبه بأي حال من الأحوال، فإذا به يصبح أشبه بوصية يتركها الكاتب الكولومبي تدفع قُرَّاءه إلى اكتشاف زميله الياباني. والحقيقة، إن ما سيكتشفه القراء إنما هو أدب كبير ونادر يتميز غالباً بقصر نصوصه، ويابانيته المطلقة، وشدة التركيز، حتى وإن وجد كثيرون من ناحية ثانية تقارباً مُدهشاً بين أدب كاواباتا وأدب مواطنه يوكيو ميشيما، الذي حاز نوبل مثله، ومات منتحراً مثله. غلاف إحدى ترجمات “البحيرة” (موقع الكتاب) المتلصص ذو القدمين القبيحتين لعل رواية كاواباتا القصيرة “البحيرة” تكشف عن ذلك التقارب بين الكاتبين اليابانيين المعاصِرَين بأكثر مما تفعل أي رواية أخرى. فمن بناء الشخصيات، والتغلغل في أعماقها، وتصوير البيئة الطبيعية التي تتحرك فيها، والوقوف باستغراب أمام دوافعها، وتقديمها دائماً بوصفها شخصيات مُنعزلة قد تعيش متناغمة مع الواقع الذي يحيط بها، لكنها تُفضّل أن تعيشه على انفراد تتأمله لاعبة دور الشاهد المتلصص بدلاً من دور الشخصية الفاعلة، إلى التكثيف اللغوي وحشو الحوارات بمعانٍ عديدةٍ لكل عبارة بتحرك التماثل بين أدبي ميشيما وكاواباتا. والحقيقة، إننا هنا نبدو وكأننا نتحدث عن جيمباي، الشخصية المحورية في “البحيرة”. فنحن دائماً ما نلتقي جيمباي منذ البداية، وفي الطرقات متراوحاً في تأملاته بين قدميه القبيحتين، والفتيات رائعات الحُسن اللاتي يعبرن في نطاق نظره، فإذا ما وقع على واحدة استثنائية منهن يتبعها، ولكن مكتفياً بتأملها، مفتوناً بجمالها غير قادر على فعل أكثر من ذلك. جيمباي في نهاية الأمر متلصص لا يرضى عن تلك الممارسة بديلاً، لكنه لا ينظر فحسب إلى الفتيات من موقعه الخفي هذا، بل ينظر إلى العالم كله من ذلك الموقع، أما فلسفته فتقول إن الكائن الذي يتمتع بذلك القدر الاستثنائي من الجمال لن يتقاطع دربه مع دربك سوى تلك المرة في الحياة؛ لذا لا بد من ملاحقته حتى يغيب تماماً عن ناظريك. أما القارئ الذي يتأرجح رد فعله بين التماهي مع جيمباي أو رفض منطقه، فإن ما يغلفه من أول الرواية إلى آخرها إنما هو قلق يصعب عليه معرفة كُنهه أو سببه. وهكذا، هي الحال دائماً في أدب كاواباتا؛ إذ غالباً ما يجد القارئ نفسه منخرطاً في لعبة لا يستسيغها؛ حيث يضعه الكاتب أمام جمال يلتهمه، لكنه لا يتمكن أبداً من الوصول إليه. جمال ترمز إليه تلك البحيرة التي يتمنى جيمباي منذ طفولته لو يرمي نفسه فيها سابحاً حتى النهاية كلما لاح له جمال يغمره ويعجز عن فهمه، ولا سيما حين يُقارنه بقدميه! انتحار مباغت “من المؤكد أن كل فنان يتطلع إلى ما هو حقيقي، إلى ما هو خير وجميل بوصفه الغرض النهائي لمسعاه، إنما يكون، بالضرورة، مهووساً برغبته في إجبار نفسه على ولوج ذلك المعبر الصعب إلى عالم الشياطين، وهذه الفكرة، سواء كانت ظاهرة أو مكتومة، إنما تتأرجح بين الخوف والصلاة”. ليست هذه الفقرة جزءاً من رواية، بل هي جزء من الخطاب الرسمي الذي ألقاه ياسوناري كاواباتا في ستوكهولم التي توجه إليها أواخر عام 1968؛ ليتلقَّى جائزة نوبل الأدبية التي فاز بها لذلك العام، الذين استغربوا يومها هذا الكلام يأتي على لسان كاتب عجوز كان يبدو عليه في أواخر سنواته أنه بدأ يميل إلى الكلاسيكية في كتاباته، وسرعان ما زال استغرابهم بعد ذلك بسنوات قليلة، وبالتحديد يوم 17 أبريل (نيسان) 1972، حينما أعلنت الأنباء عن انتحار كاواباتا في شقة صغيرة كان قد استأجرها في بلدة زوشي اليابانية غير بعيدة عن شاطئ البحر. والحال أن الفترة التي فصلت بين فوز كاواباتا بجائزة نوبل وانتحاره على ذلك الشكل المباغت، كانت فترة قد وصلت فيها شُهرة هذا الكاتب الكبير إلى أعلى ذُراها؛ إذ إنه على الرغم من أن عدداً كبيراً من رواياته كان قد تُرجم إلى لغات أجنبية عديدة قبل ذلك، فإن كاواباتا كان قد ظل يُعدُّ كاتباً نخبوياً، بل إن جمهور القراء العريض في اليابان نفسها لم يتعرف عليه جدياً إلا بعد الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل. وينطبق هذا الكلام بشكل خاص على رواياته الأولى التي كانت ذات سمات طليعية، تستعصي على فهم عموم القراء. هاجسا الوحدة والموت وُلد كاواباتا في أوزاكا عام 1899، ومنذ طفولته تضافر لديه عاملان لن يتركاه بعد ذلك أبداً: الوحدة، والموت. فقد كان لا يزال طفلاً يافعاً حين فقد أباه وأمه وجدته وشقيقته الوحيدة تباعاً. وهكذا، وجد نفسه يعيش تلك الوحدة التي لن تُفارقه أبداً، كما يعيش تحت وطأة هاجس الموت الذي سيظل مُسيطراً عليه وعلى كتاباته حتى الرمق الأخير؛ وهذا ما جعل الباحثين يعدون كتابة كاواباتا كتابة موت في المقام الأول، وبشكل أكثر تحديداً: موت يكاد يشبه تدمير الذات؛ إذ ندر أن كانت هناك رواية أو قصة لهذا الكاتب خلت من أناس يدمرون أنفسهم؛ قصداً، أو من غير قصد. بدأ كاواباتا حياته الأدبية وهو في الـ16 من عُمره حين فقد في نهاية الأمر جدَّه العزيز، فوجد نفسه مندفعاً لكتابة نصه الأول “اليوميات الحميمة لعامي الـ16” الذي لم يُنشر إلا في عام 1925، كما أنه وصف احتضار جدِّه بطريقة مقابرية في نص عنوانه “عظام” كتبه عام 1916، لكنه لم ينشره إلا سنة 1945. معنى الحياة ولو عبوراً منذ وفاة جدِّه، خلد كاواباتا إلى عُزلته التي لم يكن ينقذه منها سوى الكتابة، إضافة إلى النزهات الخلوية التي اعتاد أن يقوم بها بمفرده، فيفكر خلالها ويستلهم منها نصوص روايات سيكتبها لاحقاً، وأولها كانت رواية “راقصة إيزو” التي نُشرت للمرة الأولى في 1926. وفي تلك الرواية الذاتية وصف كاواباتا الكيفية التي تمكن بها يتيم فتيٌّ من أن يكتشف معنى الحياة وقيمة الطيبة التي مكَّنته من التواصل مع الآخرين. والحقيقة، إن تلك الفترة كانت الفترة التي بدأ فيها كاواباتا بالخروج، شكلياً، من عُزلته، حيث تعرَّف على جماعة من الكتاب الشبان الذين كوَّن معهم جماعة أدبية طليعية أصدرت مجلتين اشتُهرتا بعد ذلك كثيراً في تاريخ الأدب الياباني الحديث. غير أن ذلك كله لم يبعد كاواباتا عن هواجسه القديمة التي راح يعبر عنها في روايات راح يكتبها تباعاً، متفاوتة الحجم، لكن كتابة كل واحدة منها كانت تستغرق سنوات عديدة، ومن أبرزها “بلد الثلوج” (التي تُعد حتى اليوم أشهر رواية بين رواياته، وهي رواية واصل كتابتها خلال 13 عاماً). وبعدما كانت روايته الشهيرة التالية “سرب من العصافير البيض”، ثم “هدير الجبل”، التي تُرجمت إلى العربية في أواخر سنوات الـ50، وكانت واحدة من أولى الروايات اليابانية المترجمة إلى لغة الضاد. ويرى بعض الباحثين أن هذه الروايات الثلاث تشكل في ما بينها ثلاثية عن الحب والموت كُتبت بلغة طليعية. بعد ذلك لم يتوقف كاواباتا عن الكتابة، فظهرت له روايات كانت قد باتت أكثر دنواً من الكلاسيكية من بينها “البحيرة”، و”أن تكون امرأة”، و”كيوتو – العاصمة القديمة”، وأخيراً “الحسناوات النائمات” ذات النزعة الإباحية الواضحة. وكل هذه الروايات جعلت من كاواباتا واحداً من أكبر كتاب القرن الـ20، لكن ذلك كله لم يُخفِّف من حدَّة عُزلته، وهجسه بالموت، فكان انتحاره إبداعه الأخير. المزيد عن: رواية البحيرة/الحسناوات النائمات/جائزة نوبل/غابرييل غارسيا ماركيز/رواية كاواباتا/ياسوناري كاواباتا 1 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الماء منتشر على القمر حتى تحت نور الشمس لكنه عسير المنال next post نيكيتا ميخالكوف لا يزال مثيرا للجدل You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 1 comment Rent Lamborghini Urus Miami 8 يوليو، 2024 - 8:20 م Thank you for addressing this topic. It’s very relevant to me. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.