ثقافة و فنونعربي “الأمواج” لفرجينيا وولف: مياه دون مياه by admin 24 يناير، 2020 written by admin 24 يناير، 2020 19 عندما بدأت الكاتبة المتمردة خوض التجريب اللغوي اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب لعبت المياه دورا أساسيا في أدب فرجينيا وولف وعلى الأقل منذ رواية “غرفة يعقوب” (1922)، التي كتبتها متأثرة بموت أخيها طوبي غرقا في المياه، هو الذي كانت تحبه بشكل استثنائي، ووصولا إلى واحدة من رواياتها الأخيرة، “بين الفصول” التي نعرف أنها انتحرت بعد فترة من إنجازها، غارقة هي الأخرى في نفس المياه القاتلة التي غرق فيها طوبي. وبين هذين العملين، نعرف أن فرجينيا وولف جعلت للمياه مكانا أثيرا في متن كتاباتها إن لم يكن دائما في العناوين، ونعرف أنها تحدثت عن هذا الأمر كثيرا في يومياتها الشهيرة، إنما دون أن ترسم تفسيرا لتلك العلاقة مع المياه. ولعل ما يمكن التوقف عنده هنا، وبشيء من الإستغراب طبعا، هو أن واحدة من روايات وولف الأساسية، وهي رواية “الأمواج” التي نُشرت للمرة الأولى في العام 1931 تحمل العنوان الأكثر التصاقا بالمياه من بين روايات الكاتبة كافة، ومع هذا يمكن القول أنها أقل رواياتها “مائيّة”. وفي الوقت نفسه كانت “الأمواج” أكثر رواياتها تجريبية بل لعلها الرواية التي يُستند إليها غالبا للحديث عن انتماء وولف ككاتبة إلى ما سُمّي حينها بتيار الوعي وقد ضُمّت في ذلك إلى كتّاب تجريبيين من طينة مارسيل بروست وجيمس جويس فاعتبرت من مؤسسي حداثة القرن العشرين. سؤال مربك ومع هذا بقي سؤال مربك يلح على مؤرخي الأدب ولا سيما على دارسي حياة فرجينيا وولف وأعمالها: هل نحن هنا حقا بصدد رواية بالمعنى العلمي والكلاسيكي للكلمة؟. في أيامنا هذه قد يبدو السؤال غير مشروع طالما أن الأشكال الروائية تبدو شديدة التفجر والتنوع من دون ضابط أحيانا وعلى الأقل منذ مرحلة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية أي تحديدا خلال المرحلة التي عاشتها وولف بكل زخمها وكتبت خلالها أروع أعمالها من تينك الروايتين اللتين تحدثنا عنهما أعلاه وصولا إلى رواياتها الكبرى مثل “السيدة دالاواي” و”أورلاندو” و”نزهة إلى الفنار” وما إلى ذلك. ومهما يكن من أمر هنا، نعرف أن المجال لا يتّسع للإجابة عن هذا السؤال. فما يهمنا وما نتوقف عنده في هذا المجال هو بالطبع “الأمواج” ذلك العمل الذي قد يبدو في المقاييس كافة عصيا على القراءة وهو ما عبّرت عنه، وإن مواربة، مرغريت يورسنار الكاتبة الفرنسية الكبيرة التي كان من بدايات حياتها الأدبية ترجمتها بعض أعمال وولف إلى الفرنسية ومنها “الأمواج” التي قالت استنادا إليها أن “فن هذه الكاتبة ذو جوهر صوفي، حتى وإن هي رفضت دائما أن تعطيه إسما تصنيفيا محددا”. على أي حال، في يومياتها للعام 1925 كتبت فرجينيا وولف تقول: “لديّ إنطباع بأني في طريقي لأن أبتكر لأدبي إسما لنوع جديد يحل مكان كلمة رواية”. وطبعا نفترض أن وولف لم تعثر على ذلك الإسم الذي وعدت بابتكاره وإن كانت قد جدّدت فعلا وعلى الأقل منذ “الأمواج”، مبتكرة كتابة لا حبكة فيها ولا أحداث، لكننا نراها مليئة بشخصيات من لحم ودم تعيش حياتها متماشية مع “أمواج” الزمن التي لا شك أنها هي الأمواج التي يعبر عنها العنوان. ستّ شخصيات تسعى في الحياة قلنا أن ليس في “الأمواج” حبكة ولا أحداث ولا قلبات مسرحية ميلودرامية كذلك النوع الذي كان يطبع الروايات في ذلك الحين، وعلى الأقل قبل حلول تجريبية مارسيل بروست وجيمس جويس وبخاصة قبل انتشار فلسفة الفرنسي هنري برغسون المتعلقة بنسف خطية الزمن وموضوعيته. ومع ذلك ثمة في “الأمواج” زمن يعبر فتتوقف الكاتبة عند مراحل معينة من مسيرته التي تطول على مدى عقود من السنين تتتبّع خلالها مجريات حيوات عدد من شخصيات هي التي تتحرك ويتحرك بها الزمن في “الرواية” من دون أن يواجه أيّا من تلك الشخصيات بما هو استثنائي جدير أن يجعله شخصية روائية. وحتى من دون أن يبدو على أي من تلك الشخصيات ما يوحي بأنها انعكاس لمسار حياة الكاتبة ما كان من شأنه أن يجعلنا أمام رواية سيرة ذاتية ويبرر خلو النصّ من تلك الدراما التي تفترضها الرواية. ما لدينا هنا إذاً، ست شخصيات تترعرع معا منذ الطفولة لتسير بها الحياة قدما فيما نحن نتابع حيواتهم تلك المتدفقة كالأمواج… لكنها أمواج هادئة، تولد دائما أمام أنظارنا فيما نتساءل نحن متى يحلّ التغيير أو الحدث الإستثنائي. بيد أن الرواية تنتهي وقد بلغوا من أعمارهم المتزامنة شأوا بعيدا هم الذين ما إن تنقضي مراحل طفولتهم ثم مراهقتهم حتى نرى الكاتبة تجمعهم مرة في كل حين لتجعلهم ينطلقون على سجيّتهم غالبا أمام الآخرين وأحيانا كل منهم بمفرده أو إثنين إثنين في “مونولوغات” تحل هنا محلّ الحوارات التي تكاد تكون غائبة تماما. فما الذي تتحدث عنه تلك المونولوغات؟ بالتحديد عن مجرى حياتهم الخالية من أي شيء غير عادي. مجرى مغامراتهم شديدة العادية في حياة شديدة العادية وبلغة عادية جدا رغم توصيف مرغريت يورسنار المضفي إستثنائيةً صوفية على الأمر برمّته، دون أن يحاول أي مونولوغ أن يضفي ما هو غير عادي. حكاية مصائر ففي الرواية لدينا لويس الذي نتعرف عليه طفلا يميل إلى الوحدة والإنطواء خجولا بأصوله الإجتماعية المتواضعة، وهناك نيفيل الذي يربكه ما يتبدى له باكرا من ضعف جسدي ويسرح به خياله باستمرار نحو رؤى مميتة لكن هذا لا يمنعه من التعلق بالنظام رافضا أية فوضى في الحياة، ثم هناك سوزان النهمة دائما إلى امتلاك كل ما تقع عليه يدها وربما أيضا ما يملكه الآخرون، وجيني التواقة إلى خوض الحياة في أعاصيرها دون وجل، وبرنارد العالق في فخّ خيال يمعن في إبعاده عن الواقع، وأخيرا رودا التي يرعبها كل شيء بما في ذلك وجودها الخاص، كما تشرح لنا فرجينيا نفسها منذ البداية. والحال أن هذا التوصيف للشخصيات، وأن كان يجعلنا منذ البداية معتقدين أنه سيلعب دورا في مسار حياتهم، لن يلعب أيّ دور. كل ما في الأمر أنه سيبقى ملازما لهم يكشف في كل مرة نلتقيهم فيها، وغالبا معا في لقاءات تجمعهم لبعض المناسبات غير المهمة، يكشف عن أن الحياة تسير بصرف النظر عما نتوقعه منها، حتى وإن كان ذلك يتم: أولا، من دون مفاجآت تُذكر؛ ثانيا من دون أن تلعب مواصفات الشخصيات أي دور حقيقي في حياتهم؛ وثالثا من دون أن تكون للعلاقات فيما بينهم أي دور في تطور حياتهم. على مدى صفحات “الأمواج” سنلتقي هؤلاء الأشخاص أولا في ألعاب طفولتهم، ثم ننتقل إلى الجامعة، خاصة مع برنارد الذي يتخيّل لنفسه حيوات تجعله متماهيا حينا مع تولستوي وحينا مع بايرون… في الوقت الذي يندفع فيه نيفيل مع خياله الشعري مدركا ذات لحظة أنه عاجز عن بلوغ الكمال الذي كان يعتقده في متناول يديه. أما لويس فإنه ذات لحظة سيتخلى عن تطلعاته القديمة ليبني لنفسه حياة في المجتمع، في وقت تعود فيه سوزان إلى ريفها وقد أيقنت ان مآلها أن تصبح أما وربة بيت؛ لكن جيني تنطلق في المقابل في حياة لندنية صاخبة تُفتح لها فيها الأبواب…ولكن بأيّ ثمن؟ وتبقى رودا التي تعجز عن أي اختيار فتبقى على خوفها المقيم دون أن تدري ممّ تخاف. وعلى هذا النحو يدخل هؤلاء الرفاق سنّ النضج ليلتقوا، أو نلتقيهم، بين الحين والآخر ونحن نتوقّع دائما تغييرا لن يحدث أبدا… لكن الكاتبة لا تتركنا من دون “مكافأة” على صبرنا فتمنحنا بين الحين والآخر إطلالات شاعرية على الطبيعة قد يصعب العثور فيها على علاقة ما مع تلك الشخصيات، ولكن ربما مع إيقاع حياتهم نفسها كما تفعل الموسيقى التصويرية في الأفلام الرومانسية. باختصار ما تسعى اليه فرجينيا وولف (1882 – 1941)، هنا إنما كان الإشتغال على اللغة ورسم “أمواج” الزمن وهي تتحرك. ويقينا أن قراءة متأنية للرواية تجعلنا نرى أنها نجحت حقا في ذلك. المزيد عن: فيرجينيا وولف/تراث الإنسان/الأمواج 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مئوية الانتفاضة اللبنانية… الطبقة السياسية اهتزت next post هل يتجرع خامنئي كأس السم مثل سلفه الخميني؟ You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.