أطلال التاريخ بريشة كاسبار فردريش (خدمة المعرض) ثقافة و فنون الأطلال والخرائب ذاكرة العالم بأمجاده وحروبه by admin 16 فبراير، 2024 written by admin 16 فبراير، 2024 107 معرض فرنسي يستكشف اسرار بقائها أو زوالها ومختلف تمثّلاتها عبر الزمن اندبندنت عربية / انطوان جوكي “كل البشر يشعرون بجاذبية سرّية تجاه الأطلال“، كتب شاتوبريان. وسواء كان مصدرَ هذا الشعور “هشاشة طبيعتنا، وتطابق سري بين تلك الصروح المهدومة ووجودنا الخاطف”، بحسب هذا الكاتب، أو أسباب أخرى، فالأكيد أن الإغريق نظروا بافتتان كبير إلى بقايا قصور الأشوريين، والرومان ولعوا بأعمال الإغريق الفنية وتوافدوا على معابدهم لتذوّق جمالياتها. ورجال الدين في القرون الوسطى تأملوا بإعجاب مبلبِل في الآثار الرومانية، وعصر النهضة شهد فضولاً لا حدود له تجاه العالم الإغريقي ــ الروماني وحضارات أميركا القديمة… قبل أن يمتد هذا الفضول إلى حضارات آسيا وإفريقيا وأوقيانوسيا، خلال عصر الأنوار. من هنا أهمية المعرض الذي ينظمه حالياً متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية تحت عنوان “أشكال الطلل”، ويهدف إلى مساءلة الجاذبية التي تمارسها الأطلال علينا، واستكشاف علاقتنا بها من منظور شامل ومقارِن يسافر بنا من عصور ما قبل التاريخ إلى زمننا الراهن، مؤسساً بذلك لحوار ساحر بين جميع أنواع الآثار، وآخذاً في الاعتبار عمل الفنانين المعاصرين الذي يندرج في سياق توثيق –وتأويل- آثار مجتمعاتنا الصناعية، وتخيُّل مستقبلنا. رحلة مثيرة عبر أكثر من 300 قطعة فنية وأثرية من مختلف الأزمنة، وتتمحور حول أربع موضوعات: الذاكرة والنسيان، التوازن بين الطبيعة والثقافة، الرابط بين المادي وغير المادي، والتوتر بين حاضر ومستقبل. أطلال التاريخ بريشة بيار هنري فالنسيان (خدمة المعرض) في المحور الأول، نعرف أن الطلل في المفهوم الغربي هو صرح أو مكان حضري هدمه عبور الزمن أو يد الإنسان، وأن وجوده يفترض تعرّضه، على الأقل لفترة قصيرة، إلى اللامبالاة أو غياب الذاكرة، قبل أن يثير حضوره الفضول، الإعجاب، الخوف أو النفور، لكنه لا يأخذ معناه الكامل إلا في اللحظة التي يتحقق فيها التوازن بين الذاكرة والنسيان. نعرف أيضاً أن الإنسان اعتمد، لمواجهة النسيان، طرقاً مختلفة، أبرزها تشييد صروح ضخمة تقاوم عبور الزمن، مثل النصب الصخرية من عصور ما قبل التاريخ، أو أهرامات مصر القديمة. وفي هذا السياق، لم يكتف ملوك مصر وبلاد ما بين النهرين بتشييد صروحهم، بل كتبوا على جدرانها، أو على ألواح وُضعت داخل أساساتها، نصوصاً تساهم في ترسيخ شرعيتهم وضمان استمراريتهم مع الماضي والمستقبل. أما في التقليد العربي، فاعتُبرت مادية الآثار أقل أهمية من الذاكرة نفسها، وأدى الشعر دور الناقل لذلك الحنين إلى الأشياء المنجَزة. استحضار الأطلال وأحياناً، لا يكون الماضي هو المقصود في استحضار الأطلال، بل إثارة الحلم، أو التأمل في قدر شخصي أو جماعي، كما في كتاب “حلم بوليفيلي” (1499) الذي يصف فرانشيسكو كولونا فيه أحلام بطله، المرتبطة بآثار صروح قديمة، بغية دعوتنا، ضمن مقاربة أخلاقية وشعرية للعصور الغابرة، إلى التأمل في هشاشة أعمال البشر وحياتهم. بالتالي، تُمكِن زيارة الماضي وإنارته بقوة الخيال والحلم، أو حتى بواسطة الاستنباط، كما فعل سيغموند فرويد حين نسج روابط بين تحليل الأحلام والتأمل في الأطلال، في الدراسة التي كرّسها لقصة فيلهايم جينسين، “غراديفا”، وتأثر بها فنانون كثر، من سلفادور دالي إلى مارك ديغراشان. وبينما اعتبر الرسام نيكولا بوسان، الذي رسم الكثير من الأطلال، أن هذه الأخيرة تسائل قدر البشر، حياتهم وموتهم، وقدر الرسم بالذات، ضمن ديمومة مهددة باستمرار، نظر فنانون آخرون إلى آثار الماضي كمسرح لظلام العالم، مثل فرانسوا دو نومي الذي تشكّل لوحاته ذات الديكور الخيالي أحلام يقظة حول أصول العالم ومصيره القاتم. أطلال الحرب السورية في حمص للمصور ماتيو بيرنو (خدمة المعرض) في المحور الثاني للمعرض، نعرف أن الأطلال هي موضوع توتر دائم بين الطبيعة والثقافة. فمهما كان متقناً بناؤها، فالصروح وسائر التشييدات الفنية تخضع لعبور الزمن والانحلال، ولا تلبث الرمال والنباتات أن تغطي آثارها. بالتالي، كل بناء بشري محكوم بالدمار، لأن كل ما يأتي من الطبيعة، سيعود حتماً إليها ذات يوم. ولتقييم مكانها في الحاضر، وتدارُك انحلالها أو إبطائه، تسائل المجتمعات مستقبل الأطلال التي، من جهتها، تتطلب علاقة ساكنة بين ما يعود إلى الطبيعة وما يعود إلى الثقافة. وفي سياق هذا المحور، يذكّرنا المعرض بأن الأطلال تقع غالباً في موقع طبيعي يحتضنها ويشكّل امتداداً أو مقابلاً لها، فيعبّر عن عظمة مدينة مطمورة، بمحاكاته تناغم صروحها، أو بالعكس، يشكّل استعارة أو خلفية لفوضى مجتمعات بشرية خاضعة لطبيعة ثائرة. هكذا، يمكن أن يتبلور الخوف أو الكآبة داخل المشهد الطبيعي، كما في لوحة هوبير روبير، “رعاة أركاديا”، التي تدعونا الأطلال فيها إلى التأمل في الموت وحضوره، حتى في أسعد الأراضي. أو في صور بول ناش الفوتوغرافية التي التقطها خلال الحربين العالميتين، وألقى فيها نظرة “أركيولوجية” على أماكن الصراع، ساعياً إلى الإمساك بآثار العنف الأكثر فجاجة في مناظرها الطبيعية الساكنة. أما أنسليم كيفر، فمنحنا في المشاهد التي أعاد تشكيلها داخل سلسلة “شكل الفكر القديم”، تنويعات حول اندثار الحضارات وعظمة معالمها. من الصرح إلى الركام أطلال صروح بريشة هوبير روبير (خدمة المعرض) دائماً ضمن المحور نفسه، نعرف أن في سيرورة التحوّل التي تقود من الصرح إلى الركام، يأخذ الجسد مكانه لدى بعض الفنانين. فسواء في تصوير أجزاء منه داخل الذخائر المقدسة، أو في كتب التشريح القديمة، أو في المحفورات، تقيم أعمال عديدة رابطاً واضحاً بين الصروح ودمارها، من جهة، والبشر وموتهم، من جهة أخرى. هكذا يحضر العجوز ذو الجسد المتعب وحده أمام أنقاض العالم المبعثرة، داخل إحدى لوحات فريديمان دو فري المشهدية، وتمسي الجثث الهامدة والمتراكمة المشهد نفسه، في بعض لوحات غويا. وبينما يسائل شومي توماتسو في عمله التشكيلي الندوب التي خلّفتها القنبلة النووية على الكائنات والأشياء في هيروشيما وناغازاكي، تلتقط سوفي ريستلهوبر صوراً مقرّبة لندوب جرحى تبدو كمرآة لبلدان دمرتها الحروب. ولأن الحروب تحوّل أماكن حدوثها دائماً إلى أطلال، تحضر في المعرض الأنقاض التي خلّفتها الثورة الفرنسية في مدينتي ليون وباريس، كما رسمها بيار أوغستان هينكان وشارل مارفيل، وتلك التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى، ورسمها أوتو ديكس على شكل رؤى كابوسية، وأنقاض لندن المروعة إثر قصفها مطلع الأربعينيات، التي رسمها غراهام ساثرلاند بأسلوب وثائقي، وآثار الحروب في لبنان وسوريا كما التقطتها عدسة ماتيو ميرنو، أي ضمن محاكاة لآثار ماضي هذين البلدين السحيق والمجيد. خرائب عربية جديدة للمصور خالد ضوا (خدمة المعرض) المحور الثالث للمعرض يستكشف الرابط بين مادية الأطلال وخيال المتأمل فيها، مبيناً أن أي أثر حضاري، سواء كان متواضعاً أو عظيماً، هشاً أو متيناً، لا يأخذ شكله النهائي إلا إثر تفاعله مع عالِم الآثار، أو الشاعر، أو الفنان، أو الرحالة، وأن وجوده مرهون، بالتالي، بالنظرة الملقاة عليه، وبالانفعال الذي يخلّفه في الناظر إليه. وفي هذا السياق، نعرف أنه حين يهدد النسيان بمحو كل شيء، يمكن الكلمات أن تمد يد المساعدة للحجارة بغية الحفاظ على الذاكرة. كلمات البنّائين أو الكتبة، ولاحقاً، كلمات الشعراء أو الفنانين الذين يتحولون أحياناً إلى علماء آثار وينتجون آثارهم أو نقوشهم الحديثة، كاللبنانيين خليل جريج وجوانا حجي توما، أو يصنعون مجسّمات لتلك القديمة، مثل آن وباتريك بوارييه، وباسكال كونفير. وثمة فنانون تحولوا إلى علماء آثار لزمننا الحديث، فنظروا إلى نفاياته كأطلال عالمٍ بعد محرقة، مثل دانييل سبوري، أو أسقطوا هذه النفايات داخل أعمالهم على شكل رسائل سرّية أعيد تجميع أجزائها، بعد تمزيقها، مثل هرين فريدفينسون. فنانون يشكّل عملهم خير تمهيد للمحور الأخير من المعرض الذي يقابل آثار الدمار الهائل الذي خلّفته حروب القرنين الأخيرين، بتلك الناتجة من مجتمعاتنا الرأسمالية، ولا تقل هولاً، نظراً إلى تمددها بشكلٍ مخيف واجتياحها أراض كانت قد بقيت سليمة من عنف التاريخ. آثار لم تعد ناتجة فقط من توترات بين الذاكرة والنسيان، الطبيعة والثقافة، المادي وغير المادي، بل أيضاً من الصراع بين الحاضر والمستقبل. يتوقف هذا المحور أيضاً عند أحلام طغاة القرن العشرين التي أنتحت بدورها أطلالاً غير متوقعة، على شكل مشاريع هندسية عسكرية، صناعية أو شخصية، مثل ملاجئ الجدار الأطلسي التي صوّرها بول فيريلو، أو الفيلا التي هجرها تاجر مخدرات كولومبي، وتحضر في سردية لورا ميلان المصوّرة، أو قصور صدام حسين وموبوتو المهجورة في العراق والكونغو، التي ألهمت أفلاماً وثائقية كثيرة. لكن بعد الخراب أو الهجران، تستقبل الأطلال ببطء أشكالاً جديدة من الحياة. إذ تغزو نباتات وشجيرات وكائنات حية مختلفة فضاءها الذي كان يتعذر عليها بلوغه من قبل. وبالتالي، يصالح عبور الزمن الصرح المهدوم مع موقعه الطبيعي، عبر إعادة الحياة إليه، كما في تلك اللوحة المشهدية الناتئة التي تنتمي إلى الفن الروماني القديم. ويصوّر صاحبها المجهول فيها حياة ريفية مثالية، بتناغم الطبيعة مع الأطلال الحاضرة في أرجائها؛ أو المناظر الحضرية الخيالية التي رسمها كورنيليس فان لولينبورغ وشارل لويس كليريسو، وتقطنها شخصيات صغيرة تمارس عملها اليومي محاطةً بآثار قديمة. ولأن تجدد الحياة يحمل في طياته خطر نسيان الكارثة التي استبقته، نشاهد في الجزء الأخير من المعرض الخرائب المسكونة التي صورتها السورية رندا مدّاح، وتعجز الأفعال البسيطة لقاطنيها عن محو ندوب الماضي العنيف الظاهرة عليها. نشاهد أيضاً أعمالاً للفلسطيني تيسير البطنيجي يتناول فيها موضوع القيمة العقارية في قطاع غزة الذي تُهدم المنازل فيه ويعاد تشييدها باستمرار، وأعمالاً للنحات السوري خالد ضوا تعبّر عن فكرة سكنٍ ذهني دائم للأنقاض، نظراً إلى تعذر تجاوز الحِداد على أرواح مَن قضوا تحتها. وتختم المعرض رسالة مفادها أن قدم العالم، الذي تشهد عليه آثار الحضارات البشرية المتعاقبة منذ فجر التاريخ، لن يحول دون تواريه أو تحوّله ذات يوم إلى أنقاض. وما يبقى أمامنا إذاً هو معرفة ما يعنيه السكن في قلب الأطلال، اليوم أو غداً، وفهم القول اللاتيني التالي بشكلٍ أفضل: “سيصبح العالم خراباً مربكاً”، من أجل تصوّر أشكال حياةٍ جديدة فيه. المزيد عن: الأطلالالخرائبالزمنالتاريخصروح الماضيالذاكرةالحروبمعرضصورلوحات 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post نجوم الغانم تضفي على شعر الهايكو تلاوين الذات next post فصول من معركة الأميركيين الأفارقة لتأكيد الاسم والهوية You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024