السبت, سبتمبر 14, 2024
السبت, سبتمبر 14, 2024
Home » إشكالية الحاكم الشرعي في الفقه الشيعي… و”ولاية الفقيه” العابرة للحدود

إشكالية الحاكم الشرعي في الفقه الشيعي… و”ولاية الفقيه” العابرة للحدود

by admin

 

يعتبر مراجع الشيعة أنفسهم نوابا للإمام ويتصدون للمهام التي يتمكنون منها

مجلة المجلة / عبدالله فيصل آل ربح

في 14 أغسطس/آب 2023 نشر الأستاذ كامل الخطي مقالا في صحيفة “الشرق الأوسط” بعنوان “هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثنى عشري؟”. تناول فيه مسائل تتعلق بأثر “فقه الدولة” على الحياة اليومية للمسلمين الشيعة بسبب حصر الفكر الشيعي للشرعية على الدولة المنتظرة للإمام الغائب. وعليه، فإن كل الدول القائمة اليوم- بما فيها الدولة الإيرانية- لا تحظى بالشرعية الفقهية عند جمهور فقهاء الشيعة الاثنى عشرية، مما يُرتّب أحكاما فقهية موازية للقوانين والأنظمة المعمول بها في الدول الوطنية.

يعود أصل المسألة إلى فكرة الحاكم الشرعي غير الممكّن من حقه المبني على المسألة الاعتقادية لدى المسلمين الشيعة. فتاريخيا ثمة 12 إماما ذوو سلطة دينية لم يتسن لمعظمهم استلام السلطة الزمنية. وكان الاستثناء الوحيد خلافة علي بن أبي طالب التي استمرت قرابة الخمسة أعوام عندما بُويع بيعة عامة منحته السلطة الزمنية، يُضاف لذلك بيعة الحسن بن علي التي استمرت عاما واحدا اضطر بعدها لترك زمام الأمور لمعاوية بن أبي سفيان بسبب عدم وجود العدد الكافي من الأنصار الذي يضمن استتباب الأمور في بلاد المسلمين، فآثر الحسن التنازل.

في الجانب العقدي، الإمامة أصل عند الشيعة الاثنى عشرية، لذلك تمت تسميتهم “الإمامية”، ويترتب على ذلك أن على المسلمين بيعة للأئمة الاثني عشر، سواءٌ مُكّن الإمام من “حقه” في الحكم أم تسلم السلطة السياسية شخصٌ غيره. إذن، فالأصل لدى “الإمامية” السلطة الدينية؛ أما السلطة الدنيوية فهي مسؤولية الأمّة أن تسلم الأمور إلى الإمام المستحق، بحسب ما يذهب له علماء الشيعة.

في الجانب التاريخي، لم يتسنّ تسلّم الحكم للأئمة إلا في فترة خلافة علي بن أبي طالب (35-40هـ) ثم سنة لابنه الحسن، تخلل تلك الفترة عدة حروب أهلية. ولم يتسلم الأئمة العشرة الباقون أمر الحكم، حتى غياب الإمام الثاني عشر على مرحلتين: الغيبة الصغرى عام 260هــ التي كان يتّصل فيها بأتباعه عن طريق نواب محددين، ثم تلتها الغيبة الكبرى عام 329هـ والتي بدأت بإعلان نائبه الرابع علي بن محمد السمري انتهاء الغيبة الصغرى وعدم وجود نائب مباشر للإمام. ومنذ ذلك الوقت اجتهد الفقهاء الشيعة في مسألة النيابة عن الإمام مستدلين بحديثٍ للإمام الحادي عشر الحسن العسكري: “فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه”. ومن هنا جاء مصطلح التقليد الذي يستخدمه الشيعة للإشارة إلى الاتباع الفقهي للفقيه الذي يرجعون إليه، لذلك سمي مرجعا.

في الجانب الفقهي، فإن مراجع الشيعة يعتبرون أنفسهم نوابا للإمام ويتصدون لما يتمكنون منه من مهام الإمام المتعلقة بمنصبه “الحاكم الشرعي”. ولأن الإمام حاكم شرعي سواء مُكن من الحكم أم لا، فإن المرجع ينوب عنه في هذا المقام بغض النظر عن عدم تنصيبه حاكما، بل إن غالبية المراجع الشيعة لا يسعون للحكم السياسي.

فيما يتعلق بالأمور الحسبية، فإن “ولاية الفقيه” عليها تصطدم بسلطة الدولة التي يعيش فيها المواطن الشيعي. فثمة قوانين مشرّعة في تلك الدول للتعاطي مع الأوقاف والأحوال الشخصية

وباعتبار تعدد المرجعيات الفقهية، فإن عامة الشيعة الإمامية يعتبرون مقلَديهم حكاما شرعيين. وعليه، فإن الشيعة غير مجمعين على حاكم شرعي واحد على النسق البابوي الكاثوليكي، كما أن مكانة الفقيه لا تحدد بإطار جغرافي معين. وبالتالي، فإنه من الشائع أن نرى أفراد المجتمع الشيعي الواحد يقلّدون مراجع مختلفين، ويترتب على ذلك اختلاف الحاكم الشرعي المعتبر لدى المجتمع الواحد، بل والأسرة الواحدة في كثير من الأحيان.
على الصعيد السياسي، فإن غالبية مراجع الشيعة الإمامية لا يقرون بدولة ذات “شرعية إسلامية” في ظل غياب الإمام المهدي. لذلك لا توجد بيعة شرعية تُعطى للحاكم، بما في ذلك الولي الفقيه في إيران. إن أزمة شرعية الدولة في الفقه الشيعي تتعلق بمسألة غياب الإمام الذي لا يُعلم وقت ظهوره، ولذلك فإن نواب الإمام لا يسعون للحكم ولا للإشراف عليه حتى وإن سنحت لهم الفرصة. وخير مثال على ذلك العراق بعد سقوط نظام “البعث”، فرغم ما يمتلكه المرجع الأعلى في النجف السيد علي السيستاني من مكانة ونفوذ، فإنه لم يتدخل بشكل مباشر للإشراف على تشكيل الحكومة أو عزلها. وحتى بياناته القليلة التي صدرت لحل المشكلات الكبرى لا تعدو كونها توجيهات يحترمها عامة الشيعة في العراق.
وفي شأن ممارسة الولاية العابرة للحدود، لم يتدخل كبار مراجع الشيعة في الأحداث السياسية التي حدثت في الدول المجاورة للعراق وإيران. نستذكر في هذا الصدد الأحداث المؤسفة في فترة ما عرف بـ”الربيع العربي”، حيث التزمت المرجعية الصمت. هذا الموقف من المرجعية جعل المواطنين الشيعة في تلك الدول يعون أن شؤونهم الخاصة يتم التعامل معها من خلال قنوات المشهد الوطني بعيدا عن انتظار شيء يأتي من الخارج.
إذا كانت المرجعية الدينية التقليدية- وهي المهيمنة على المشهد الشيعي- تلتزم الصمت فيما يتعلق بالقضايا السياسية، فأين تكمن الإشكالية؟
إن عدم تدخل المرجعية في الشأن السياسي يُعدُّ امتدادا لدور نيابة الإمام الذي لم يُمكّن من ممارسة الإمامة. وعليه، فقد تبقّت للمرجع الولاية على الشؤون الحسبية مثل: الأوقاف، وأموال اليتامى، والقُصّر والسفهاء الذين ليس لهم ولي، وتحصيل الحقوق الشرعية (الخُمس والزكاة والكفّارة)، إضافة للأموال مجهولة المالك والتي تشمل تلك الأموال التي تحت حيازة الدولة؛ باعتبار أن كثيرا من الفقهاء لا يرى ملكية الدولة (بما في ذلك الدولة الإيرانية الحالية).
فيما يتعلق بالأمور الحسبية، فإن ولاية الفقيه عليها تصطدم بسلطة الدولة التي يعيش فيها المواطن الشيعي. فثمة قوانين مشرّعة في تلك الدول للتعاطي مع الأوقاف والأحوال الشخصية التي تكون محل نزاعات بين المواطنين الشيعة الذين يرفعون شكاواهم لمحاكم بلدانهم. وتكمن الإشكالية في الأحكام التي تحتاج إلى حاكم شرعي ليبتّ فيها.

عطا كيناري/ اف ب / إيراني في مسجد امام زاده صالح في طهران

وعلى سبيل المثال: قضايا طلب الفسخ والخلع التي تقدمها المرأة للحصول على الطلاق من زوجها الذي يمتنع عن التطليق. في مثل هذه الحالة، فإن القوانين المكتوبة في كثير من الدول الإسلامية مبنية على أحكام فقهية لفقهاء غير شيعة. بالنسبة للشيعة، فإن عملية التفريق بين الزوجين بناء على رغبة الزوجة وامتناع الزوج تحتاج إلى “حكم حاكم شرعي” والذي هو المرجع الديني. وعندما ترفع مثل هذه القضايا لمكتب المرجع، فإنه يحيلها إلى بعض المشايخ ليدرسوها ويقدموا التوصيات التي على أثرها يتخذ القرار المناسب.

المعتقد الشيعي الذي تم ترسيخه عبر التاريخ تحوّل لمسألة فقه الفرد على حساب فقه الدولة، وهذا أمر مفهوم، وسببه أن الفترات التي حكم فيها الشيعة- بشكل شرعنه فقههم- قليلة جدا

إن مثل هذه الممارسات، يتعدى الفقه إلى مزاحمة سلطة قوانين البلد الذي تقع فيه القضية، وفي هذه الحالة تكون النتيجة أن يقع طلاق قانوني دون أن يقع شرعا مما يسبب مشاكل على المرأة التي ستعيش مطلقة عند الجهات الرسمية في بلادها، بينما لا تستطيع الزواج من رجل آخر لأن المرجع يتورّع في غالبية الأحيان عن إيقاع الطلاق لعدم كفاية القرائن وتعثر مثول الطرفين أمامه. وحتى لو قبل الطرفان المثول أمام المرجع، فإن معالجة قضايا مثل هذه خارج الحدود يسبب تداخلا بين السلطات. ربما يكون الحل في تعيين قضاة شيعة قد وصلوا لمرحلة الاجتهاد، أو على الأقل لديهم إجازة شرعية بالقيام بمهمة الطلاق الشرعي.
الأمر نفسه ينطبق على قضايا مثل مجهول المالك، والتي لا يوجد لها ظلال عملية أكثر من أن يقوم الفقيه بإجازة الأفراد باستلام الأموال من البنوك لتصبح حلالا. هذا الإجراء الشكلي ينطوي على نظرة قديمة للأنظمة والقوانين التي تطورت كثيرا في العصر الحديث والتي لا تواكبها مثل تلك الإجراءات التي تستند لقواعد أصولية أكثر من استنادها على نصوص ثابتة.

عطا كيناري/ اف ب / إيرانية تتصفح هاتفها خارج مسجد إمام زاده صالح في طهران في ساحة تجريس في 12 مارس 2024

يرى متدينون الأمر عاديا وأن كل شخص يعمل بتكليفه الشرعي، وعليه يجب أن لا تتحسس الدول من ذلك. بينما ينظر المسؤولون الرسميون لهذه الأمور بكونها أبعد من ممارسة ذات بعد فقهي. المسألة هنا تتعدى مسائل الولاء الديني والوطني إلى مسألة تداخل السُلطات؛ وهذه المسألة فيها نقطتان بالغتا الأهمية:
1-    تتعلق بالدولة: فالأنظمة التي تضعها الدول تهدف لمعالجة قضايا المواطنين على حد سواء. وبالتالي، فإن القوانين يجب أن تكون في حدود مسألة المواطنة والعيش المشترك بعيدا عن الخصوصيات الفرعية التي لا تضر السلم الأهلي. فاختلاف قوانين المواريث والطلاق وغيرها من الأمور الفقهية ليس مشكلة تمس جوهر المواطنة.
2-    تتعلق بالمواطن الشيعي: بالنسبة للأمور التي تحتاج لإجازة الحاكم الشرعي، الأولى وجود قضاة من المواطنين الشيعة الذين يمتلكون التأهيل الفقهي ليتصدوا للقضايا التي يجب أن يكون فيها حاكم شرعي.
إن مفهوم الحاكم الشرعي في هذا الصدد يمكن النظر إليه بوصفه القاضي الذي يبين للناس الحكم الشرعي ويصدر أحكامه وفقا له. بالتالي، فإن وجود قضاة شيعة مؤهلين يقومون بالنظر في شؤون الأحوال الشخصية للمواطنين الشيعة سيمثل حلا معقولا لإشكالية تداخل السلطات عند الأفراد.
إن المعتقد الشيعي الذي تم ترسيخه عبر التاريخ تحوّل لمسألة فقه الفرد على حساب فقه الدولة، وهذا أمر مفهوم، وسببه أن الفترات التي حكم فيها الشيعة- بشكل شرعنه فقههم- قليلة جدا. لذلك، فقد توجه فقهاء الشيعة للتركيز على إبراء ذمة الفرد أمام الشرع دون الالتفات إلى الدولة التي لا تمثل لديهم أمرا ذا اعتبار شرعي (فقهي). بالطبع هذا لا ينطبق على جميع فقهاء الشيعة، ولكن الكثير منهم يتبنى التركيز على إبراء ذمة الفرد بعيدا عن نظم شؤون الجماعة (أي فقه الدولة).

ولاية الفقيه

شكّل الشيخ أحمد مهدي النراقي (1771-1829م) علامة فارقة في الفقه الشيعي المتعلق بدور الفقيه في الشأن العام. ففي كتابه “عوائد الأيام في مهمات أدلة الأحكام” توصل النراقي لنتيجة مفادها: كلّ ما كان للنبي والإمام فيه الولاية فللفقيه أيضا ذلك. وحدّد وظائف الفقيه في أنها تتجاوز مجرد الإفتاء لتشمل أمورا منها: القضاء وإقامة الحدود والتعزيرات والولاية على أموال اليتامى والمجانين والسفهاء والولاية على الأنكحة.
لقد وضع النراقي النقاط على الحروف بكون الفقيه حاكما شرعيا مكتمل الأركان. وبالرغم من أنه لم يحدد الهيكل الذي يتم على أساسه تمكين الفقيه من ممارسة ولايته، فإنه قد صرح بما سكت عنه سابقوه من الفقهاء الذين قبلوا بممارسة جزء من الولاية (الأمور الحسبية) وسكتوا عن الجزء السياسي.
ورغم تأخر تبني نظرية النراقي في الولاية، فإن الساحة الإيرانية شُغلت بصراعات فقهية تتعلق بالحكم. فقد حكم إيران ملوك شيعة حتى عام 1979م. وخلال ذلك التاريخ الطويل لم يكن الملك/الشاه يحكم ببيعة شرعية وإنما بحكم الأمر الواقع في ظل الفراغ الشرعي في الفقه الشيعي. وكان فقهاء إيران بعيدين عن مزاحمة الشاهات في سلطتهم الزمنية. وحتى تلك التدخلات التي قام بها بعض أولئك الفقهاء، لم تكن من باب المنافسة على السلطة أو إصلاحها بشكل يضفي عليها شرعية دينية. فالثورة الدستورية الإيرانية (حركة المشروطة التي حدثت بين عامي 1905-1911) كانت تهدف إلى تقييد صلاحيات الملك القاجاري ومنع “الاستبداد” المتمثل في الحكومة المعينة من الشاه عن طريق فرض رقابة شعبية- وليس دينية- عليها.

بالنسبة للعراق، فإن عددا من الأحزاب الشيعية وفصائلها المسلحة ترتبط بإيران بمستويات مختلفة، ولكن تظل إيران هي الملاذ الاستراتيجي لأغلب تلك الأحزاب

وقد ناصر الحركة الدستورية “المشروطة” علماء بارزون أمثال الآخوند الخراساني والميرزا محمد حسين النائيني. وحتى هذه الحركة لم تسلم من معارضة بعض رجال الدين الشيعة الذين رأوا فيها نوعا من الشرعنة للحكومة التي قد تصدر قوانين (يعتبرونها) مخالفة للشريعة الإسلامية، ومن أبرز من عارضها السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف كتاب “العروة الوثقى” أحد أبرز كتب الفقه الشيعي الحديثة. ولهذا يجب أن يتنبه القارئ إلى أن الخلاف بين فقهاء الشيعة يكمن في أصل شرعية دخول رجال الدين في العملية السياسية وإعطاء الشرعية للحكم، وليس تأييدا أو معارضة للحاكم. فحتى الذين عارضوا “المشروطة” (يطلق عليهم أنصار المستبدة) لم يكونوا ينظرون للشاه على أنه حاكم شرعي، وإنما يرون عدم إعطاء شرعية برلمانية لحكمه عن طريق رجال الدين، ليبقى- من وجهة نظرهم- حاكما مستبدا فاقدا الشرعية بالمطلق.
وقد شُغلت الساحة الإيرانية بعد صراع “المشروطة” و”المستبدة”- الذي كان يديره فقهاء إيرانيون يقطنون العراق- بصراعات التيارات غير الدينية والتي جاءت بانقلاب قائد الجيش رضا بهلوي على الحكم القاجاري. وقتها نصّب نفسه ملكا على البلاد دون مقاومة، لتبدأ الصراعات السياسية بين الأحزاب اليمينية واليسارية دون وجود قوي للحركات الدينية.
وقتها كانت أبرز الحركات الإسلامية في إيران “جمعية فدائيان إسلام” (فدائيو الإسلام) التي تأسست عام 1946 كحركة إسلامية معارضة تتبنى التغيير الراديكالي بهدف إنشاء دولة إسلامية في إيران. ويمكن اعتبار تلك الحركة النسخة الشيعية لجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر. وقد تمت دعوة قائد الحركة نواب صفوي من قبل سيد قطب للمشاركة في المؤتمر الإسلامي لتحرير القدس عام 1953 حيث ألقى صفوي خطابا ثوريا نادى فيه بتوحيد جهود المسلمين لتحرير فلسطين. وقد لاقت الحركة الشيعية من التنكيل الحكومي في إيران مثل ما  لاقت مثيلتها السنية في مصر.
كانت الثورة الإيرانية عام 1979 نقطة التحول للإسلام السياسي الشيعي، حيث تمكّن الإسلاميون من الاستئثار بكامل مكتسبات الثورة وإقصاء شركائهم من قوى اليسار والشيوعيين. وقتها كانت كاريزما الخميني هي بيضة القبّان التي مكّنت الإسلاميين من اكتساح غيرهم.

ولاية الفقيهالعابرة للحدود

منذ وصول الخميني إلى السلطة وتأسيسه لنظام “الجمهورية الإسلامية” ليصبح المرشد الأعلى في أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979، والسؤال حول دور الفقهاء في المجال السياسي يُطرح بشدة بين أوساط النخب الشيعية. لقد أثر الخميني على كثير من النشطاء الإسلاميين في جميع أنحاء العالم، وخاصة الجماعات الشيعية المسلحة في لبنان والعراق التي تعتبره المرجع الأعلى الذي يأخذون منه الفتوى الشرعية في الأمور الحركية.
لكن نقطة التحول الأقوى كانت مع مجيء الخامنئي للسلطة في 1989 خلفا للخميني، حيث أصبح يتعامل مع الشأن السياسي من موقع الولي الفقيه الذي يضعه موضع “الوصي على شؤون المسلمين في جميع أنحاء العالم”. وعلى الرغم من القيود المذهبية والجغرافية الواضحة التي تحجّم موقع الولي الفقيه بوصفه شيعيا إيرانيا، فإن الإيمان بسلطته العابرة للحدود كزعيم ديني وسياسي يشكّل مصدر قلق كبير للبلدان التي يتبعه فيها بعض المواطنين الشيعة ويقلدونه بوصفه المرجع الفقهي الأعلى.

أحمد الربيعي/أ ف ب / عراقية تحمل طفلا تمر قرب صورتين للمرجع الشيعي علي السيستاني (يسار) ورجل الدين محمد باقر الحكيم في وسط بغداد في 15 فبراير

شهدت مرحلة ما بعد الخميني تمدّد نفوذ الخامنئي داخل المجتمعات الشيعية كمرجع معاصر يختلف في أسلوب طرحه عن الجيل السابق، بمن فيهم الخميني. فقد تميزت مرحلة الخامنئي بأسلوب جديد طوّر فيه آليات إدارة المؤسسات الدينية الشيعية التابعة لمرجعيته في مختلف أنحاء المنطقة لتصب في مصلحة أجندته السياسية وتسخيرها لخدمة نهجه “المناهض للغرب والمعادي للولايات المتحدة”.
تمددت ولاية الفقيه خارج إيران بشكل خلق جماعات تصنف ضمن قوى “اللادولة” في بعض الدول العربية. ويعتبر “حزب الله” اللبناني أبرز تلك الأحزاب التي تؤمن بولاية الفقيه العابرة للحدود بشكل معلن. وخلال أربعة عقود من العمل السياسي والعسكري، فإن “حزب الله” يقاتل مع دولة ولاية الفقيه في الخندق نفسه ولم تظهر أي اختلافات في الرؤى أو المواقف، بل إن الأمين العام للحزب قد صرّح أكثر من مرة بأن تمويل الحزب بالكامل يأتي من “الجمهورية الإسلامية”. والحزب بدوره يموّل أحزابا وجماعات لبنانية غير شيعية موالية للحزب. وقد سبق وصرّح سالم زهران- وهو سنّي المذهب- بأن مركزه يعتمد في تمويله على “الله وحزبه”.
وبالنسبة للعراق، فإن عددا من الأحزاب الشيعية وفصائلها المسلحة ترتبط بإيران بمستويات مختلفة، ولكن تظل إيران هي الملاذ الاستراتيجي لأغلب تلك الأحزاب التي ترتبط بطهران بعلاقات منافع متبادلة تجعل كليهما يحتاج للآخر. فدولة ولاية الفقيه تملك أدوات الدعم اللوجستي من خبرات سياسية وعسكرية إضافة للسلاح، بينما تستطيع الميليشيات التابعة للأحزاب العراقية التحرك بسلاسة في إطار قوى “اللادولة”. ولعل هذا ما يفسّر نشاط تلك القوى العراقية في المحيط الإقليمي، وما قيام تلك الأحزاب بالهجوم على أهداف إسرائيلية في الأراضي المحتلة في الفترة الماضية إلا مثال على مشاركتها في “محور المقاومة”.

الحل يكمن في الهوية الوطنية التي تجمع المواطنين كأفراد في أوطانهم، بعيدا عن هوية الجماعة التي لا يمكن لها أن تنشط في ظل دولة وطنية ذات مشروع وطني يقطع الطريق على أصحاب المشاريع الفئوية

على الجبهة اليمنية، لم تعلن جماعة الحوثي اعتناقها للمذهب الاثنى عشري، حيث ما زال المذهب المعلن هو الزيدي. لكن الواقع يقول إن الجماعة تسير على خطى “حزب الله” اللبناني بشكل فيه تقليد واضح لتطور مسيرة الحزب. بل إن اسم الجماعة “أنصار الله” يستدعي اسم الحزب اللبناني. يُضاف إلى ذلك كون خطاب زعيم الجماعة وبقية قياداتها يضع الخميني والخامنئي في موقع القيادة الروحية وليس “رفقة المقاومة” كما تفعل “حماس” وبقية الحركات السنية المتعاونة مع طهران.
على الصعيد الديني (الفقهي والعقدي)، فإن غالبية الشيعة في العالم لا يعتقدون- أو يسعون- لإقامة دولة دينية. وعليه يمكن اعتبار إيران استثناء لتلك القاعدة، حيث يصرح الدستور الإيراني بأن الجمهورية الإسلامية تمهد لانتظار الإمام الغائب.
وعلى الصعيد الميداني، نجحت طهران في دعم الحركات الشيعية في مناطق التوتر، لا سيما لبنان والعراق. ولعل أهم أسباب تمكنها من ذلك يرجع لضعف الدولة في كلا البلدين اللذين يحكمان من قبل نظام برلماني يقوم على المحاصصة الطائفية التي تتقاسمها أحزاب مسلحة تهيمن على المجتمعات المنقسمة، والتي تلوذ بهويتها الطائفية والحزبية كملاذ من هجوم بقية الأطياف عليها.
وبالرغم من ظهور بعض الحركات التي لا تتبنى مرجعية طهران، فإنها لم تتمكن من البقاء في الساحة لعدة أسباب أبرزها: غياب الإطار الفقهي الذي يوائم بين الطرح الحركي وشرعية التحرك خارج سلطة الإمام المعصوم. فحركات مثل “حزب الدعوة” الذي تبنى مرجعية محمد باقر الصدر، أو “منظمة العمل” التي تبنت مرجعية محمد الشيرازي، لم تتمكن من التمدد كمشروع إسلام حركي عابر للحدود ومؤثر على شباب الشيعة في العالم بسبب عدم وجود سردية دينية تتبنى فكرة التمهيد للإمام الغائب من خلال إنشاء حكومة إسلامية تقوم بدور الحاكم الشرعي المؤقت.
وبالرغم من تبني “حزب الدعوة” و”منظمة العمل” لأدبيات “الإخوان المسلمين”، فإن تلك الحركات لم تتمكن من تطويعها في السياق الشيعي الاثنى عشري بسبب عدم وجود أطروحة فقهية قابلة للتطبيق. وبقيت أطروحة الخميني لولاية الفقيه التوجه الشيعي الوحيد الذي تمكن من تطويع النموذج الإخواني، بل وتجاوزه من خلال الانتقال من مرحلة المعارضة إلى مرحلة الحكم مما تسبب في استغنائه عن آليات التنظيم السري والتعبئة ضد من يصفونهم بالحكام غير الشرعيين. وهذا ما لم يفلح “الإخوان المسلمون” في الوصول إليه، فتجربتهم في الحكم في مصر كانت فاشلة بسبب عدم تمكنهم من السيطرة على الدولة العميقة التي تقع تحت سيطرة المؤسسة العسكرية، ولم يتمكنوا من كسب ود جماهير الشعب المصري بسبب ضيق أفقهم وطرحهم الذي لا يتناغم مع عامة الشعب. تبقى إشكالية تتعلق بأتباع ولاية الفقيه من غير الإيرانيين الذين ينظرون لإيران بوصفها دولة يرتبطون بها عضويا، عن طريق اتباع القيادة نفسها. الأمر هنا يشبه مسألة التنظيم الدولي لـ”الإخوان”، والذي يعني الانضمام إليه عدم الاعتراف بالدولة الوطنية، أو على الأقل النظر إليها بوصفها أمرا واقعا لا يغني عن التطلع لـ”دولة الجماعة”. هذا بالضبط ما يعاني منه أتباع ولاية الفقيه الذين لا يمكن لهم الخروج من إطار “الجماعة” إلى الدولة الوطنية، لأنهم يتبعون قيادة روحية وسياسية خارج إطار أوطانهم.
ختاما، الحل يكمن في الهوية الوطنية التي تجمع المواطنين كأفراد في أوطانهم، بعيدا عن هوية الجماعة التي لا يمكن لها أن تنشط في ظل الدولة الوطنية ذات المشروع الوطني الذي يقطع الطريق على أصحاب المشاريع الفئوية.

المزيد عن:  المرجعية الشيعة النجف قم

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00