إدفارد مونخ (1863 - 1944) في بورتريه ذاتي (غيتي) ثقافة و فنون إدفارد مونخ الآتي من الشمال الأقصى ليجعل للألم والكآبة وجها لا ينسى by admin 4 يناير، 2024 written by admin 4 يناير، 2024 22 كأن الخطوط والألوان نوع من التعمق السيكولوجي في ثنايا الروح المحتضرة اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب إذا كان فنانو القرن الـ20، ولا سيما الأوروبيون منهم، قد تعلموا باكراً كيف يشتغلون على داخل الروح في أعمالهم الفنية، وبصورة عامة انطلاقاً من تلك الولادة غير المتوقعة لعلم – هو التحليل النفسي كما جدده فرويد في فيينا تحديداً – ولد عند النقطة الفاصلة بين القرنين الـ19، وتاليه الـ20، فلا شك أنهم لم يكونوا بأية حال من الأحوال، أول التشكيليين الذين يسعون إلى التعبير عن داخل الروح. فقبلهم كان هناك مبدعو فنون عصر النهضة في إيطاليا، ومن بعدها الفنون الدنيوية كما ظهرت في هولندا و”توابعها” في وقت كان الفن فيه قد بدأ يبارح جدران الكاتدرائيات وقصور الحكام إلى منازل الطبقات الجديدة من تجار بورجوازيين استحوذوا على الفنون لينقلوها بعد حين إلى جدران المتاحف والأماكن العامة. ومن هنا فإن المزج لدى فناني بدايات القرن الـ20 بين أحوال الروح الداخلية وتلك اللوحات التي صارت أكثر تعبيراً بكثير عن داخل الفنان أتت، وبخاصة في تيارات كانت التعبيرية ذروتها، لتربط الفنان بفنه متخذة أسماء غالباً ما تعكس غرابتها حيرة الفنانين أمام عصر بات يعلن أنه قريباً سيكون بغير ما حاجة إلى تلك الفنون أمام استشراء الآلة وبدء انتهاء فردية الإنسان. والحقيقة أن هذه النظرة الجديدة إلى موقع الفرد في العالم، كما إلى موقع الفن في حياة الإنسان، حتى لو كان لها ممثلون لا يعدون أو يحصون كانت في اختصار شديد ذات اسم رنان هو إدفارد مونخ الفنان الذي غزا أوروبا بفنه وجنونه، ولكن بخاصة بكآبته الشمالية. وجوه وآلام منذ بداياته ظهر مونخ بوصفه حالة استثنائية شديدة الذاتية في تاريخ الفن. وظهر أكثر من ذلك بوصفه فناناً شديد الخصوصية إلى درجة أن متفرجي لوحاته بصورة عامة كانوا يشعرون بسرعة ما إن يكتشفوا تلك اللوحات مباشرة في المعارض الجماعية ثم الفردية، أنهم قادرون على التماهي مع لوحاته وشخوصها أكثر مما قد يفعلون مع لوحات أي فنان آخر، بل تحديداً يتماهون مع ما “تقوله” تلك اللوحات أكثر كثيراً مع ما تصوره. “الصرخة” اللوحة التي ولدت في لحظة عاصفة (الموسوعة البريطانية) ومن هنا يشعر المرء أمام لوحات مونخ أنهم على صواب أولئك النقاد والباحثين الذين قالوا عن فن مونخ إنه الفن الذي عرف، وأكثر من نتاج أي فنان آخر، كيف يجعل للألم وجهاً وسمات… وهم لئن كانوا يفكرون وهم يقولون هذا بلوحة الفنان الأكثر شهرة والمعنونة “الصرخة”، والتي يمكن اعتبارها أشهر لوحة عرفتها أوروبا عند بدايات القرن الـ20 (وغالباً عبر مشاهدة الجمهور العريض لمنسوخاتها أكثر مما عبر مشاهدتها مباشرة، ناهيك بكونه شاهدها، ولكن في عديد من الاستخدامات التي تنطلق من معانيها على أغلفة كتب أو في محاكاة تصل أحياناً إلى حدود السخرية منها)، فإن المشاهدين الأكثر فضولاً وعناداً سرعان ما اكتشفوا أن معظم اللوحات التي أنتجها مونخ تحمل السمات نفسها، بحيث تبدو وكأنها أجزاء من لوحة فسيفسائية كبيرة أتت لتعبر عن تلك المعاناة التي تعكس سؤالاً إنسانياً وجودياً كبيراً يكاد يختصر مجموع الأسئلة التي طرحها الفرنسي بول غوغان على سبيل المثال في لوحته الأضخم والأكثر تعبيراً عن القلق والمعاناة “من أين ترانا نأتي؟ من نحن؟ إلى أين ترانا ذاهبون؟” (1897). ربط غير اعتباطي والحقيقة أن الربط بين مونخ وغوغان في هذا السياق ليس اعتباطياً. ففي نهاية الأمر كان فنسنت فان غوغ، الذي كان “الأنا/ الآخر” لغوغان على أية حال أول فنان من الجيل السابق لمونخ يتعرف عليه هذا الأخير خلال أول زيارة قام بها إلى فرنسا (عام 1889)، ومن خلاله تعرف على أعمال غوغان، وربما تأثر به وليس فقط على صعيد اللغة التشكيلية، بل أكثر من ذلك على صعيد المعاني المتضمنة في فن كان دأبه التعبير عن الموت والقلق والأسئلة الوجودية الفلسفية التي لن يفوتنا أن نراها مطروحة في معظم فن إدفارد مونخ كما عبر عن ذلك السينمائي البريطاني/ الأميركي بيتر واتكنز في تحفته السينمائية “رقصة الحياة”، الفيلم الذي لا شك أنه عرف أكثر من أي عمل إبداعي آخر يدور من حول حياة فنان، كيف يتسلل إلى داخل فن مونخ، وتحديداً من خلال لوحة من أشهر لوحاته هي “رقصة الحياة”. وعرض مرات ومرات، ولا سيما لمناسبة المعرض الاستعادي الذي أقامه متحف الأورساي الباريسي وشغل خريف عام 2022 ليقفل أبوابه عند نهايات العام التالي 2023 بنجاح لن يكون من المبالغة القول إنه أتى نجاحاً فاق نجاح أي معرض عرفته العاصمة الفرنسية في الحقبة نفسها. ولقد اعتبر ذلك المعرض أضخم معرض أقيم في العاصمة الفرنسية منذ عقود، بل اعتبر أول معرض لفن مونخ عرف كيف يتجاوز شكلية فن هذا الأخير وتزامناً مع إعادة اكتشاف هواة الفن له، أولاً من خلال فيلم “رقصة الحياة” الذي عرض مراراً وتكراراً في الصالات المتخصصة طوال فترة إقامة المعرض، ولكن كذلك على شاشات محطات تلفزيونية عديدة لم يفتها أن تشير لمناسبة ذلك العرض إلى أن مؤسسة سوذبيز قد باعت في عام 2012 نسخة من رسم مونخ نفسه من “الصرخة” – وليس النسخة الأكثر شهرة بالتأكيد! – في مزاد نيويوركي مقابل 200 مليون دولار ما جعلها في ذلك العام أغلى لوحة في تاريخ الفن. ولادة “الصرخة” ولمناسبة ذلك المعرض الباريسي، كان لا بد من استعادة حكاية عن لوحة “الصرخة” لم تكن على أية حال معروفة بما فيه الكفاية. وتعود بنا الحكاية إلى ذات مساء من عام 1892، حيث كان مونخ الثلاثيني يتمشى في منطقة غير بعيدة من أوسلو عاصمة وطنه النرويجي مع رفيقين له. ولقد لفت الثلاثة طراوة الطقس والألوان المحيطة بالمكان ساحرة دافئة عند مغيب الشمس، ولكن بصورة مفاجئة سرعان ما تبدل ذلك كله ليتحول جمال المشهد الطبيعي إلى كابوس حقيقي. فالسماء تلونت بغتة بلون أحمر قان وبدا وكأن ثمة ألسنة من لهيب تتراقص في سماء الفيورد الذي كان يبدو كوحش فاغر فاه غير بعيد من المتنزهين. ويتابع مونخ الحكاية هنا قائلاً أن رفيقيه قد تابعاً سيرهما “فيما بقيت أنا جامداً في المكان أرتعد من الخوف”. “رقصة الموت” من لوحات مونخ الكبرى (موقع الفنان) ومن تلك التجربة التي بدت له أول الأمر بصرية ولدت لدى الفنان تلك اللوحة التي لن تصبح مع مرور الزمن أشهر إبداعاته وحسب، بل ستضحى واحدة من أشهر لوحات الفن “الانطباعي” على الإطلاق، ونعني طبعاً لوحته “الصرخة” التي أنجزها بسرعة في العام نفسه 1892، لتطغى على كل ما كان أنجزه قبلها من لوحات كما على كل ما أنجزه بعدها. والحقيقة أن معظم الهواة الذين سيتعلقون بتلك اللوحة ويعلقون في بيوتهم منسوخاتها التي ربما تعد المنسوخات الأكثر حضوراً في الأسواق والأكثر انتشاراً بعد لوحة “الموناليزا” لدا فنشي و”غويرنيكا” لبيكاسو، ظلوا يعتقدون أن “الصرخة” هي اللوحة الوحيدة التي أنجزها مونخ في حياته، ولا سيما منهم الذين اكتفوا بالتعرف على اللوحة دون أن يأبهوا برسامها أو حتى يعرفوا شيئاً عن حياته وموطنه الأصلي! لاحقاً، طبعاً بات هذا كله من الماضي إلى درجة أن مونخ، حين عرض العدد الأكبر من أعماله في متحف الأورساي الباريسي، كان قد بات منذ زمن، بفضل “الصرخة” وفيلم واتكنز “رقصة الحياة” واحداً من أشهر فناني “الحداثة” في أوروبا كما باتت نرويجيته من العلامات الأساسية لحضور فنون هذا البلد في أوروبا والعالم إلى جانب مواطنيه، الكاتب المسرحي هنريك إبسن من ناحية، والموسيقي إدفارد غريغ من ناحية ثانية، بمعنى أن القرن الـ21 عرف كيف يعيد الاعتبار لفن عرف كيف يعطي العالم درساً ثميناً في كون الفن ولو متأخراً قرناً بكامله وأكثر عن موعده، هو ما يعطي وطناً معيناً قيمته وأهميته في زمن باتت فيه الأوطان منفتحة على بعضها، وربما تتشابه، إلا في مجال الإبداع الذي حتى هنا يتخطى خصوصيته ليعطي البلد، وفقط من خلال مبدعيه، مكانة تخرجه من عزلته بعيداً من العالم، في صلب ما هو معبر وقوي وجميل، حتى في تصويره الألم والمعاناة والموت. المزيد عن: الفن التشكيليإدفارد مونخبول غوغانالتحليل النفسي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف قدم الإسرائيليون العرب دراميا على مدى عقود؟ next post سيرة ساخرة لكافكا في الذكرى المئوية لرحيله You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024