ثقافة و فنونعربي “أن نُري” لبول إيلوار… كلام مبدع عن الشعر والفن والزمن by admin 5 أبريل، 2020 written by admin 5 أبريل، 2020 26 منذ زمن بعيد لم يعد الزمن يمرّ… لم يعد يتحرّك! اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب انبنت شهرة الشاعر الفرنسي بول إيلوار أساساً، ومن الناحية الشعبية على الأقل، على أمرين كانا بالغي الأهمية في حياته ومساره، لكنهما لم يكونا أساسهما بالتـأكيد: أولهما قصيدته “أكتب اسمك أيتها الحرية” التي بالكاد يمكن العثور في فرنسا وحتى في غيرها أحياناً، على من لا يحفظها عن ظهر قلب، وثانيهما كون الرسام الإسباني سلفادور دالي انتزع منه امرأته وحبيبته غالا جاعلاً منها ملهمته، ما خلّف مرارة ليس فقط لدى إيلوار، بل كذلك لدى عصبة السورياليين، وعلى رأسهم أندريه بريتون. ففي ذلك الحين كان إيلوار لا يزال سوريالياً خالصاً، وما يؤلمه يؤلم رفاقه من دون أن ننسى أنّ الحياة الثقافية الفرنسية لم تحبّ دالي كثيراً حتى وإن قدّرت عمله الفني. النوم واليقظة سيّان غير أنّ ذلك لم يكن الأكثر أهمية في حياة إيلوار الذي كان شاعراً حقيقياً وناثراً كبيراً ناهيك بقدرته على تذوّق جديد الفن التشكيلي والكتابة عنه بحذق وتعاطف. ولعل خير مثال على ذلك ما نجده في كتاب له قد لا يكون الأشهر بين أعماله، لكنه الأكثر ارتباطاً بتنوعية فكره وقدرة على تكوين مدخل حقيقي لتذوّق وفهم ذلك الفكروالشعر. وهذا الكتاب هو “أن نُري” بمعنى أن نجعل الآخرين يرون، انطلاقا من إدراك الشاعر/ الناثر أن تلك هي وظيفة المبدعين. والحقيقة أن إيلوار اختار هذا العنوان إذ وجده يعبّر حقاً عن مضمون الكتاب: وعلى الأقل عن جزئه الأخير حيث يرسم بالكلام الشاعري الذي لا يخلو من معرفة نقدية، صوراً قلمية لعدد من الرسامين المجايلين له من بالبلو بيكاسو إلى جورجيو دي كيريكو، ومن إيف تانغي إلى ماكس إرنست مروراً ببول كلي وجورج براك، ولقد أتت تلك الصور على شكل قصائد “نثرية” تتغلغل داخل الأعمال الفنية لهؤلاء المبدعين بشكل خلاق. غير أن تلك “الصور” لا تشغل في الحقيقة سوى قسم صغير من الكتاب، وربما القسم الذي يشكل نوعاً من التبرير للعنوان. أمّا باقي ما تبقى منه فقصائد متنوعة يدور معظمها على أي حال، حول الفن ومقالات تكاد تكون جزءاً من سيرة ذاتية غير مكتملة، إضافة إلى جزء من محاضرة كان إيلوار قد ألقاها في لندن أواسط العام 1936 رأى فيها النقاد ما يصلح مدخلاً لولوج عوالم إيلوار الشعرية هو الذي يقول فيها ذات فقرة: “إن للقصائد على الدوام هوامش بيضاء عريضة، هوامش صمت فسيحة يمكن فيها للذاكرة الحارة أن تلتهم ذاتها كي تعيد خلق هذيان لا ماضي له. لأكرر هنا وأعيد أن مبادئ الهوامش ليس في كونها تُخبر بل في كونها توحي…”. ويبقى من أجمل المقاطع في واحد من أقسام الكتاب ذلك المقطع المكتوب بلغة صافية بسيطة ويصف فيه إيلوار حالة كان يعيشها ذات فترة كئيبة من حياته، تكاد تكون صالحة لوصف يطاول ما يعيشه كثر منا في أزمنة الحبس الطوعي درءاً لانتشار الكورونا في أياما هذه، حيث نجده يكتب مخبراً عن عالم يرى أن لا شيء يحدث فيه: “عالم لم يعد من الممكن فيه التمييز بين اليقظة والنوم. عالم لم يعد في الإمكان فيه العودة إلى الأعراف والمواثيق المتعلقة بالمكان أو بالزمان. فالزمان لم يعد يتحرّك هنا، لم يعد يمضي. منذ زمن بعيد لم يعد الزمن يمضي، زمن باتت فيه كل الأسود التي كنت أصورها لنفسي حية خفيفة الوطء إنما غير متحركة على الإطلاق” ترى هل يمكن للغة أن تصف وضع مئات الملايين منا اليوم، بأكثر دقة من هذا الوصف؟ واحد من “الكبار” الثلاثة والحال أن القارئ لم يكن في انتظار مثل هذه العبارة، على قوتها، كي يربط كما يفعل الفرنسيون اسم إيلوار باسمين كبيرين آخرين في الشعر وفي الحياة الأدبية الفرنسية: لوي أراغون وأندريه بريتون. فالحال أن تلك الأسماء الثلاثة ارتبطت ببعضها بعضاً طوال عقود من السنوات، حيث من المعروف أن بداية تعرف القراء ثمّ الجمهور العريض إلى إيلوار إنما جرى إثر لقاء هذا الأخير ببريتون وآراغون غداة الحرب العالمية الأولى، حيث انضم إليهما لاعباً دوراً أساسياً في قيام الحركة «الدادائية»، ثم في تأسيس وازدهار الحركة السوريالية التي كانت أبرز حركة أدبية – شعرية في فرنسا، كما في العالم أجمع خلال الفترة الفاصلة بين الحربين. ومن ثمّ لم يكن غريباً أن يعتبر إيلوار واحداً من أكبر الشعراء باللغة الفرنسية في ذلك الحين. وهو، على أي حال، مصير لم يكن ليخطر على بال ذلك الفتى الأنيق والمرهف الحس الذي كانه بول إيلوار عند بداية هذا القرن، هو المولود في الضاحية الباريسية (سان – دنيس) في العام 1895، الذي اضطر إلى التوقف عن الدراسة، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. غير أن بول الذي كان اسمه في الأصل بول – أوجين غريندل، لم يتردد طويلاً من دون خوض معترك الشعر والقراءة بديلاً عن الدراسة. وعلى ذلك النحو ظهرت في عام 1913، وكان بعد في الثامنة عشرة، أشعاره الأولى، وهي المرحلة نفسها التي التقى خلالها “غالا” حبيبته الشهيرة التي سينتزعها منه، لاحقاً، سلفادور دالي. في معترك السياسة في تلك الآونة فاجأته الحرب العالمية الأولى التي عرف خلالها كل الأحوال وخرج منها منضماً إلى بعض الجماعات الفوضوية، قبل أن يكون لقاؤه الحاسم مع الدادائيين، وهو حين عرفهم لم يكن مجهولاً إذ كانت قد صدرت له كتاباته ذات العنوان الموحي “واجب القلق” (1917). ومنذ ذلك الحين لم يكف إيلوار عن الكتابة وعن التطور والتبدل السياسيين، وصولاً إلى الانخراط الكلي في الحزب الشيوعي الفرنسي في 1942، حيث بات منذ ذلك الحين يعتبر أحد شعراء الحزب الرسميين، بل الستالينيين حتى إن نحن تفحصنا جيداً المنحى الذي راح يتخذه شعره وكتاباته منذ ذلك الحين، لا سيما في نصه الأشهر “الشعر والحقيقة” (1942) ثم في “الموعد الألماني” (1944). غير أن إيلوار الذي قال لاحقاً إن ظروف الحرب والمقاومة هي التي دفعت كتاباته وأشعاره إلى ذلك النوع الجاد من الالتزام السياسي، سيظل يؤمن دائماً أن للشعر لغته الخاصة المختلفة عن لغة السياسة. ترى أفلم يكن هو الذي كتب، وهو في عز نضاليته الشيوعية/ الواقعية، العبارة القائلة “الأرض زرقاء مثل برتقالة”، معطياً نفسه حرية مطلقة في التعبير الأدبي؟ نعم، فإيلوار رغم النجاح الهائل لقصيدته عن “الحرية” التي اعتبرت نشيد المقاومين والمناضلين في فرنسا وخارجها، ظل مرتبط الجذور بنوع من السوريالية، وبنوع من الكتابة التلقائية جعلاه يستحق اللوم الحزبي بين الحين والآخر. لكنه لم يكن يعبأ بمثل ذلك اللوم، بعد أن حصّن نفسه جيداً خلف مواقف مدروسة بعناية، مستنداً إلى تجربة صديقه وزميله الرسام بيكاسو المشابهة لتجربته، معتبراً نفسه وكتابته درب العبور من “أفق رجل واحد إلى أفق كل البشر مجتمعين”، قائلاً في “البديهة الشعرية”: “وحدة الشعراء اليوم تمحي، وها هم الآن بشر بين البشر، ها هم أخوة للبشر”. من أبرز كتب بول إيلوار، إضافة إلى التي ذكرناها، يمكن التوقف عند “الحيوانات والبشر” (1920) و”الموت من قلة الموت” (1924) و”عاصمة الألم” (1926 وهو واحد من أجمل كتبه) و”الحياة المباشرة” (1932) و”العيون الخصبة” (1936)، وهي كلها تعكس، ليس فقط تطوره الشعري والسياسي خلال المرحلة الوسيطة من حياته، بل تعكس كذلك وإلى حد كبير، تطور المزاج الجمالي – النضالي للحياة الثقافية الفرنسية في مرحلة ما بين الحربين، تلك المرحلة التي كان إيلوار إلى جانب أراغون وبيكاسو وبريتون وجيد وسارتر، بعض أبرز أقطابها، ليشكلوا جيلاً أو أجيالاً ذات تطلعات وأعماق من الواضح أن الحياة الثقافية الفرنسية في زمننا الراهن لم تعد تعرف ما هو مشابه لها. المزيد عن: بول إيلوا/رفرنسا/أن نُري/الثقافة الفرنسية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غرق مركب من ورق next post كورونا يعيد تقنية “الرئة الحديد” You may also like أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.