السبت, مايو 31, 2025
السبت, مايو 31, 2025
Home » “أعيش حياة مثلك”… سيرة ذاتية لجسد مختلف

“أعيش حياة مثلك”… سيرة ذاتية لجسد مختلف

by admin

 

النرويجي يان غرو كتب تجربته في العيش فوق كرسي متحرك وفضح عنف اللغة تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة

اندبندنت عربية / عبد الكريم الحجراوي

سيرة “أعيش حياة مثلك” (دار العربي- ترجمة محمد عبدالعزيز)، للنرويجي يان غرو (1981)، حازت اهتماماً واسعاً عند صدورها عام 2018، وكانت أول عمل غير روائي نرويجي يرشح لجائزة المجلس الشمالي للأدب منذ 50 عاماً. وتتشابه سيرة يان غرو وهو روائي وأستاذ في جامعة أوسلو، شُخص بمرض ضمور العضلات الشوكي منذ أن كان في الثالثة من عمره، مع غيرها من السير الذاتية النوعية في تصوير التحديات التي يعانيها المعوق، ونظرته إلى ذاته من خلال إعاقته الجسدية.

إعاقة يان غرو عمقت حساسيته تجاه كل ما يقال عن ذوي الاحتياجات الخاصة، وازدادت هذه الحساسية بفعل خلفيته الأكاديمية، إذ نال الدكتوراه في علم اللغة، ودرس البلاغة بصورة معمقة، وتتبع في دراساته كيف يمكن للغة وأنماط التفكير أن تعيد تشكيل الواقع، هذا الوعي اللغوي جعله يرى ما وراء الكلمات، ويفكك ما تنطوي عليه الجمل من دلالات خفية، حتى تلك التي تقال بنية حسنة أو على سبيل المجاملة. فمثلاً، عندما التقى أحد أصدقائه القدامى من أيام المدرسة، شعر بأن الأخير فوجئ بأنه لا يزال على قيد الحياة، على رغم أنه أثنى على أناقة ملابسه، لكن يان غرو اعتبر عبارة الثناء تلك مجرد مديح سطحي، والتقط المفارقة المؤلمة الكامنة خلفها، فقد كان لدى كثير من زملائه وأساتذته في الطفولة يقين لم يصرحوا به، وهو أنه لن يعيش طويلاً.

إثبات الذات

ويعكس عنوان “أعيش حياة مثلك” الروح الرافضة للتنميط، إذ يصر غرو على نفي الاختلاف بينه وبين الآخرين. وكان هذا هو الدافع الذي حركه طوال حياته نحو إثبات الذات، فكان يرغم نفسه على خوض تجارب ليس مجبراً عليها، لأنه يرى أن الناس العاديين يفعلونها، مثل السفر لاستكمال دراساته العليا في جامعات خارج النرويج.

يسلط يان غرو الضوء على المشاعر المتناقضة التي تتنازعه، ومنها الشعور بالوحدة مع انعدام الخصوصية: “لم أسر في الطريق بمفردي، كنت طفلاً نادراً ما يترك بمفرده، لكن على رغم ذلك كنت وحيداً” (ص 48). ويتعمق شعوره بالاستباحة للخصوصية في وصفه أحد المعسكرات الصيفية التي خصصت للأطفال ذوي الإعاقات فيقول: “كل شيء كان مستباحاً، ويمكن للكبار مراقبتنا ورؤية كل شيء. لم تكن هناك حدود شخصية أو أبواب يمكن غلقها علينا” (ص 113)، فالحضور الجسدي للآخر، حين يقترن بالتحديق والمراقبة، يتحول إلى شكل من أشكال الهيمنة غير المرئية.

ويكشف غرو كيف أن الإعاقة جعلته دائماً في مرمى نظرات الآخرين، نظرات تحمل في عمقها أحكاماً مسبقة وتنميطاً قاسياً، “فأن تكون ضعيفاً يعني أن تخضع لإرادة شيء آخر أو مؤسسة، لكن يجب أيضاً أن تكون مرئياً للآخر، وأن تكون، كما يقولون، خاضعاً لنظرة الآخرين” (ص 54).

يستعين غرو في هذا السياق بما كتبته الأكاديمية الأميركية روزماري غارلاند تومسون (1964-) حول “التحديق” بوصفه أداة اجتماعية تنتج الهوية من الخارج: “أن ينظر إليك، أن يحدق فيك، يتسبب في تطوير شعور خارجي بالذات ويشكلها، وهو شعور يتناسب دائماً مع توقعات البيئة المحيطة، أي مع الكيفية التي ينظر بها الآخرون إليك، وهذا يعني أن تكون داخل سرد كتب بالفعل، ورؤية شكلت سلفاً”.

الشعور بالوصمة

بعبارة أخرى، يرى غرو أن المعاناة الحقيقية ليست في الإعاقة الجسدية، بل في اختزال الذات في صورة نمطية تنتجها نظرة الآخر، وهي نظرة يصفها بأنها “حادة ومخترقة، وفي الوقت نفسه بليدة وغير مهتمة”، إنها نظرة تفصل بين ما لا ينبغي فصله، وتسقط الأحكام من دون فهم، فليس هناك إعاقة تشبه الأخرى، ومع ذلك يسهل على الناس تصديق الصور الجاهزة في أذهانهم، وتجنب النظر المتأني الذي يتعامل مع الفرد لا مع فئة مصنفة سلفاً.

ومن أكثر المشاعر التي سيطرت على غرو شعوره الدائم بـ”الوصمة”، ذلك المفهوم الذي اصطكه عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان، ويشير إلى أن الفرد الموصوم من قبل المجتمع ينزع عنه الاحترام بسبب اختلافه عن المعيار السائد. يعبر غرو عن هذا الشعور ببراعة فيقول: “هناك ألف طريقة لتكون طفلاً مختلفاً، ولا نلاحظ هذا الاختلاف حتى يلفت أحد نظرنا إليه، لكن بعد ذلك يدخل الخجل والخزي في الصورة، فكرة العار من ألا تكون مثل الآخرين، العار من أن يكون اختلافك ظاهراً على جسدك، العار من أن تكون مصدر إزعاج للآخرين” (ص 92). عار لا ينبع من الذات بل من نظرة الآخر، ومن تصور جماعي يحمل المختلف عبء الإحراج، وكأنه هو المخطئ في كونه مختلفاً.

ويستمر هذا الشعور بملاحقته في أدق تفاصيل حياته اليومية، كما في كل مرة لا يستطيع فيها دخول مبنى أو متجر إلا باستخدام الكرسي المتحرك، فيقول: “ذلك الشعور بالعار يطرق باب منزلي بصوت عال كل يوم”، ويصف لحظة طلبه المساعدة بأنها لحظة خجل فسيولوجي لا يستطيع التحكم فيه: “يرتسم على وجهي شعور العار من خلال تورد وجنتي، وهو رد فعل فسيولوجي بحت، أعلم أنه لا يوجد ما أخجل منه، ولم يفعل أحد شيئاً بخبث، ولم يقصد أحد منعي من دخول المتجر عن عمد” (ص 92–93).

غلاف الطبعة العربية  (دار العربي)​​​​​​​

 

فهنا تناقض بين وعيه بأنه لا يوجد ما يدعو إلى الحرج والاستجابة الفسيولوجية التلقائية بالخجل مما يعكس عمق تغلغل إحساسه بالوصمة وهو ما ينعكس عليه داخلياً وخارجياً، فمع كل تجربة يتذكر أنه لا يرى كشخص كامل، بل كـ”حالة استثنائية” تثير الشفقة أو الانزعاج أو الإحراج.

مثل أعلى

دائماً ما يجد أصحاب الإعاقات العزاء والسلوى في شخصيات تاريخية أو مشهورة خاضت تجارب مشابهة لتجاربهم، فكما وجد طه حسين في أبي العلاء المعري قريناً فكرياً وروحياً، فدرسه وتمثل جانباً من قيمه ومواقفه، وجد يان غرو ملاذاً مماثلاً في سيرة مارك أوبراين، الشاعر والصحافي الأميركي الذي أصيب بشلل كامل من الرقبة إلى أسفل وهو في السادسة من عمره، واضطر إلى استخدام “رئة حديدية” للتنفس طوال حياته.

تمكن أوبراين على رغم إعاقته الصعبة من نيل شهادتي البكالوريوس والماجستير من جامعة كاليفورنيا بيركلي، وسخر قلمه في الصحافة للدفاع عن حقوق وقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة. ويتجلى تأثير أوبراين في غرو في كثرة استشهاده بمقولاته وشعره داخل سيرته بوصفه الشخصية التي وجد فيها مرآةً لحياته وعزاءً لحالته الصحية.

امتنان للأسرة

يمزج يان غرو في سيرته الذاتية بين تجربته الشخصية، وجملة من التأملات والاستشهادات الفلسفية والفنية التي تساعده على إعادة تشكيل رؤيته للعالم، فتحضر اقتباسات من ميشيل فوكو وبورخيس وفيتغنشتاين وتيري إيغلتون وإرفينغ غوفمان وغيرهم، بوصفهم أصدقاء فكر، يوثق بها تأملاته، ويجيبون عن الأسئلة التي يطرحها على نفسه وعلى العالم من حوله.

وتحضر السينما كذلك كأداة موازية للفهم والتأمل، بخاصة تلك الأفلام التي تلامس الحالات النفسية والهويات الهشة والمهمشة، والتي يجد فيها غرو تعبيراً دقيقاً عن حالته الداخلية. من بين هذه الأفلام يبرز فيلم “النزوات” (Freaks) للمخرج تود براونينغ (1932)، وفيلم “الجلسات” (The Sessions) الذي يجسد قصة مارك أوبراين، والفيلم الوثائقي عنه، إضافة إلى “الجنة فوق برلين” (Wings of Desire) الذي يحمل أبعاداً روحية وشاعرية عميقة.

وإلى جانب هذا الامتداد الثقافي المتنوع، يقدم غرو حياته الخاصة بصورة مفعمة بالحب والامتنان لزوجته إيدا ولابنه ألكسندر. هذه العلاقة تحيلنا إلى طه حسين وزوجته سوزان، ويتأكد هذا الرباط مع إنجاب الطفل الأول الذي يكون حدثاً غير عادي بخاصة لذوي الاحتياجات، إذ يشي بالانتصار على الإعاقة، فألكسندر بالنسبة إلى غرو، كما كانت “أمينة” لطه حسين، ليس مجرد امتداد بيولوجي أو عاطفي، بل لحظة انتصار إنساني كبرى، لحظة تتحدى الإعاقة، وتكسر الزمن، وتبدد وهم الشعور بالنقص، ورمز للاستمرارية والقدرة على الحب والعطاء على رغم القيود التي يفرضها الجسد أو يرسخها المجتمع.

المزيد عن: يان غروالنرويجذوو الاحتياجات الخاصةكرسي متحركإعاقة جسديةسيرة ذاتيةميشيل فوكوطه حسين

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili