ثقافة و فنونعربي أحمد شافعي يستكشف المسافة بين عالمي العمى والبصيرة by admin 2 يوليو، 2021 written by admin 2 يوليو، 2021 128 رواية “لماذا لا تزرع شجرة” تعتمد ساردا واحدا عبر ضمير المتكلم اندلندنت عربية \ محمد السيد إسماعيل تقترب رواية “لماذا لا تزرع شجرة” (دار الكتب خان) للمصري أحمد شافعي، من طبيعة هذا الجنس السردي المعروف بـ”النوفيلا”، حيث لم يتجاوز عدد صفحاتها إحدى وتسعين صفحة، كما تعتمد على البطل الواحد الذي يقوم بدور السارد الداخلي المشارك في الأحداث من خلال ضمير المتكلم. والحقيقة أن أحداث الرواية تبدأ من “الذروة”؛ لحظة اختطاف السارد على يد مجهولين، ووضع عُصابة على عينيه، ومن هنا تتجلى ثنائية “العمى والبصيرة”. العمى عن كل ما هو خارجي ومباشر، والبصيرة التي تتأمل الداخل وتكتشف أعماقه. فأنت حين تحجب العالم الخارجي عن عينيك تقترب منه وتكتشف زيف رؤيتك القديمة، له بل زيف رؤيتك لذاتك أو جهلك بها، يقول السارد: “كيف عشتُ كل هذه السنين ولم أعرف أن بداخلي كل هذا الظلام؟”. من هذا السؤال المحوري، أو من هذا الاكتشاف الذي يكاد يكون مفاجئاً، يسترجع السارد أحداث حياته دون أن يقع في غواية الحنين إلى الماضي. فحين يتذكر زيارته – مع أبيه – لبيت جده، تعاوده ذكرى النخلات التي “تثمر بلحاً أصفر لم أذق في حياتي أسقم منه طعماً. يشعرك فور أن تتذوقه برغبة حارقة في بصق شيء لا وجود له في فمك أصلاً، وتشرب ماءً فتجد له مذاقاً كريهاً”. محاكمة الذات ومحيطها لم تعد القرية إذن – كما عهدناها في الأدب الرومانسي كثيراً – موطن الحنين والذكريات المحبَّبة إلى النفس؛ بل تحضر بمتاعبها وآلامها، ولا شك أن تقنية الاسترجاع جعلت الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية التي يتم استحضار مشاهدها المفصلية التي تصل إلى حد تعرية الذات… “استدعيتُ حياتي يوماً يوماً وتداعى عليَّ منها ما كنت أتصور أني نسيته إلى الأبد، فإذا به يرتد من العدم بكامل ألوانه وروائحه وأصواته ونصوعه”، فما يظن غيابه واختفاءه في عالم النسيان يعود بكامل وضوحه وحتى بعد أن يكبر ويتزوج وينجب يتأكد أنه ليس الأب الصالح لأبنائه، فهو ليس لهم كالأب الذي كان يجده في صغره حين ينظر إلى أبيه الذى رآه أباً مثالياً. والحقيقة أننا لن ننتظر طويلاً حتى نعرف سبب اختطاف السارد الذي يدعى “كامل” حين يكرر الخاطف: “عشتَ أربعين سنةً يا كامل، أكلتَ وشربتَ وتزوجتَ، صاحبت وأحببتَ وكرهتَ، مرَّ عليك أربعون صيفاً وأربعون شتاءً، جلستَ على البحر وسهرتَ على النهر ولم تزرع شجرة قط. لماذا لم تزرع شجرة؟”. الرواية المصرية (دار الكتب خان) ورغم ما قد يبدو من هزلية السبب يظل مجرد حيلة سردية لكشف الذات وما يحيط بها، والأهم كشف ذلك الواقع الذي لا يسمح لمثل هذا السارد المحكوم – دائماً – بحكم الضرورات الحياتية الملحة أن يجد الوقت أو المكان الذي يمكنه من “زرع شجرة”، وكما بدت هزلية السؤال وسط هذا الواقع فإن الخاطف يظل غامضاً حين يخاطبه السارد متسائلاً: “من أنت؟ أين أنا؟ لماذا خطفتني؟ هل أنت ضابط شرطة؟ ضابط جيش؟ أمن قومي؟ مخابرات حربية؟ أم مخابرات عامة؟”، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نقول إن الخاطف هو هذه الشخصية “الاعتبارية” الواحدة التي تضم هؤلاء، وربما يكون “الخاطف” – في تأويل آخر – هو صحوة أخيرة يكتشف الإنسان عندها مرور سنوات عمره دون جدوى بعد أن أغرقها في التفاهات وسكت عن أكثر الوقائع إذلالاً، وربما – وهو ما يذكره السارد صراحة – يكون الخاطف كل مَن أخطأ “كامل” في حقه. الزمن النفسي وعملية الاختطاف نفسها يكتنفها الغموض حين لا يتذكر السارد اليوم الذي وقعت فيه، وإن كان يرجح أنه “كان الإثنين في أسبوع ما من شهر ديسمبر”… “كنتُ في السيارة منتظراً، وفجأة لم أعد في السيارة، ماذا حدث؟ لا أعرف، اختفى العالم المعهود فجأة مِن مجال إدراكي ولما انتبهت اكتشفت أنني معصوب العينين”. العبرة – هنا – ليست في الزمن الطبيعي؛ بل في الزمن النفسي واغتراب السارد داخله وهي تيمة لاحقته على مدار سنوات عمره الأربعين التي لم تعطه الثقة في أنه “صاحب حق في هذه الأرض”، بل ظلَّ “مجرد ضيف. مجرد كائن مسموح له بالتنفس. كائن له حق الانتفاع لكن ليس له حق التملك”. وهنا يبدو توظيف الزمن بفنية تؤكد ظاهرة الاغتراب حين يشعر السارد أنه مجرد عابر على الأرض وحينئذ يصبح من العبث عقابه بسبب أنه لم يزرع شجرة، فشَقتُه المؤجرة التي يسميها المالك “العين”، مثلها مثل “القبر”، لا تتسع لشجرة في أي موضع منها، والأكثر قسوة أنها لم تتسع للسارد نفسه. ويبلغ الاغتراب أقصى درجاته وأقساها حين يشعر السارد – فجأة – أنه كان طوال حياته مجرد “عبد” لكل رؤسائه أو لمن له حاجة عندهم: صاحب المخبز، ورئيسه في العمل، ومالك الشقة والزوجة والأولاد. وعلى الرغم من اعتماد الرواية على وحدة المكان وعلى وجود شخصيتين سرديتين فقط داخلها وهما الخاطف والمخطوف فإن الكاتب يوسع دائرة السرد من خلال تحريك لا وعي البطل وذاكرته اليقظة وتنشيط وعيه بمن كانوا يحيطون به. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى أن نقول إن وضع “العُصابة” المادية هو في حقيقة الأمر إزالة لوجودها وحجابها المعنوي السابق الذي لم يكن السارد يشعر به، وكان ذلك سبباً فى جهله بذاته… “عليك اللعنة يا سيدي – يقصد الخاطف – كان يمكن أن أعيش أربعين عاماً أخرى أو ما بقي لي من العمر بغير أن أنتبه إلى أنني أحببتُ الشجرة الأشبه بي – يقصد شجرة الكافور – كان يمكن أن أعيش إلى أن أهلَكَ ولا أنتبه إلى أن هذا الشخص التافه هو أنا”. وطأة العبودية الأعمى كما رسمه بيكاسو (متحف بيكاسو) إن السارد – بهذه العبارات التي تمزج بين الأساليب الإنشائية والخبرية – يعري ذاته بقسوة مؤكداً إيمانه بمصادفات الوجود التي توزع الأدوار بين البشر، فالعبودية ليست قدراً بل هي لعبة الحياة الاجتماعية التي تجعل البعض يشبهون الآلهة والبعض يرزحون تحت وطأتها. فرغم أن السارد قد ولد – شأنه شأن غيره – بالقدرات التي تجعله قوياً فإنه قد ولد في “الأسرة الخطأ”… “السلة التي حملني فيها النهر لم تقع بين أيدي أسرة فرعون الإله، بل في أيدي من يعصر لربه خمراً أو الذي تأكل الطير من صلعته”. وهو في هذا الاقتباس يستدعي قصة موسى ثم يوسف، عليهما السلام، كما لو كانت العُصابة التي حجبت رؤية الأشياء الظاهرة أشبه بالخلوة الجبرية التي مكَّنت السارد من اكتشاف قدراته من خلال ما كان يقدمه له الخاطف من طعام بسيط لا يتجاوز عدة ملاعق من الحساء. ومن خلال هذا اكتشف أن له ذوقاً في الأكل وقدرة على تمييز أدق النكهات، مما يترتب عليه أن يكون له رأي في ما سيقدَّم له من طعام في ما بعد؛ على عكس ما كان في حياته السابقة. وأحمد شافعي مترجم بصورة تكاد تكون رئيسة، وربما يفسر ذلك طرافة موضوع الرواية وعدم تقليديته، كما أنه شاعر في الأساس أصدر عدة دواوين منها “طريق جانبي ينتهي بنافورة”، و”أحمد شافعي 77”. وهو ما اتضح من استخدامه المتواتر لضمير المتكلم المفرد وهو ضمير شاعري يكشف أعماق الذات وهواجسها، واعتماده على ما يسمى الإيقاع الروائي من خلال تكرار بعض السطور المشار إليها مثل: “عشتَ أربعين سنة يا كامل، أربعين سنة على الأرض… لماذا لم تزرع شجرة؟”. كما اتضح من خلال توظيفه للمجاز بوسائله البلاغية المعروفة في بعض مواضع الرواية… “الزمن قطة تلعق وسخ أظافر قدمي في امتنان. بحران أطلق فيهما قواربي وحورياتي وأحصد منهما اللؤلؤ والمرجان. لي مما أشاء كل ما أشاء”، حين يجسد “الزمن” المعنوي في صورة حسيَّة حركية، كما يقوم السطران الأخيران على التفصيل – القوارب، الحوريات، اللؤلؤ، المرجان – والإجمال (لي مما أشاء كل ما أشاء). وأخيراً، يمكن وصف السارد بأنه سارد تقريبي وليس استبعادياً؛ وذلك لأنه يتوجه إلى القارئ مباشرة، باستثناءات قليلة يتوجه فيها إلى الخاطف الذي لا يرد عليه. ومن علامات توجهه إلى القارئ حرصه على توضيح ما قد يشتبه عليه من قبيل قوله “الغالب على المنطقة كلها هو ذلك اللون الأسمنتي الفقير المقبض والأرض في تلك المنطقة غير مستوية، فبعض العمارات على رُبى (جمع ربوة إذا لم تكن تعرف وهي المرتفع الصغير)”. فالجملة الأخيرة توضح حرص السارد على إيصال الدلالة التي يريدها ما يعني استحضاره للقارئ الخارجي. المزيد عن: رواية مصرية\روائي\العمى\بعد إنساني\الراوي\مونولوغ\السرد\الحبكة\المجتمع 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كزافييه لوفان يقدم أشمل أنطولوجيا للشعراء العرب السود next post سايمون هندرسون: ربما يكون الأسوأ من تفشي “كوفيد-19” قد انتهى، لكن الجائحة لا تزال تؤثر على سعر النفط You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.