غراهام غرين (1904 – 1991) ضياع بين ضروب الإيمان (الموسوعة البريطانية) ثقافة و فنون أبطال غراهام غرين يبحثون عن اليقين عند الديكتاتور by admin 10 يناير، 2025 written by admin 10 يناير، 2025 8 “الممثلون” افتتحت الأعوام الأخيرة من مسار مؤلفها الإبداعي المتنوع اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب المكان: المسافة البحرية الفاصلة بين شاطئي الولايات المتحدة الأميركية وجزيرة هايتي حيث تمخر سفينة ركاب عادية مياه البحر متجهة إلى الجزيرة. والزمان أيام حكم الديكتاتور دوفالييه المعروف باسم بابا دوك. والمناسبة التقاء وجود ثلاث شخصيات في عداد ركاب السفينة التقت صدفة ومن دون معرفة سابقة، لقاء يقود خطواتهم عند وصولهم. وتبدو مصائرهم متشابهة إلى حد ما بل هي متشابكة كما سنكتشف في سياق الأحداث التالية، التي تدور في وقت يمضونه في جمهورية الخوف التي كانتها هايتي، في الأقل خلال النصف الأول من الستينيات، العقد الذي توسطته كتابة الروائي الإنجليزي غراهام غرين هذه الرواية التي تحمل عنواناً في منتهى البساطة هو “الكوميديون”. قلنا في منتهى البساطة؟ حسناً كان يمكننا أن نقول أيضاً: عنواناً في غاية التعقيد، ما دام سيظل عسيراً علينا أن نفهم مبرر هذا العنوان باعتباره يوصف “مهنة” الشخصيات الثلاث من دون أن تكون تلك المهنة واضحة أو على علاقة بالأحداث نفسها. فرواية” الكوميديون” ليست رواية عن الفن ولا عن التمثيل ولا عن الكوميديا على أية حال، والشخصيات الثلاث التي تلعب الأدوار الرئيسة فيها، لا تتسم بأدنى مرح ولا يمكن لأي منها إلقاء فكاهة عابرة، بل يمكننا في هذا الإطار أن نذهب بعيداً جداً لنقول إن الرواية هي رواية عن الإيمان. وحتى ليس الإيمان بالمعنى الديني للكلمة، بل الإيمان بالمعنى السيكولوجي الداخلي وربما بتحديد أكثر، رواية عن الحاجة إلى الإيمان. من أعماق غرين والحقيقة أن القراء المعتادين على أدب غراهام غرين وعلى التفاعل معه سابرين دواخله من خلال هذا الأدب عادة، هم وحدهم الذين يبدون قادرين على فهم هذه الرواية من الوهلة الأولى وإدراك ما قلناه بصددها، على رغم أن الكاتب نفسه قد وصفها دائماً بأنها رواية ترفيه تختلف في جوهرها عن رواياته الكبرى التي كان ينظر إليها عادة، ويجاريه قراؤه في نظرته، نظرة جدية (“السلطة والمجد” أو “جوهر القضية” أو “صخرة برايتون”، أو ما يشبهها من رواياته الكبرى التي دائماً ما بررت موقف أولئك الذين كانوا يتوقعون له الفوز بجائزة نوبل الأدبية ذات يوم). ” “الكوميديون” رواية ترفيه حقاً ولكن في جانب فقط منها ربما، وقد نجرؤ على القول إنه ليس جانبها الأساس. أما الجانب الأساس فيكون في الحوارات والمواقف التي تدور بين “أبطالها” الثلاثة وتفرق أو تجمع أو حتى توحد بينهم. ولعل في إمكاننا أن نزعم هنا أن هذا البعد الأخير إنما يتأتى من كون كل من الثلاثة إنما يعبر عن جانب ما من جوانب شخصية الكاتب نفسه. ففي نهاية المطاف سيبدو من خلال تحديد المرحلة الزمنية التي كتب فيها غراهام غرين (1904- 1991) هذه الرواية أنه كتبها، وحتى بصيغتها الترفيهية التي يصر عليها، أملاً في أن يطرح من خلالها أسئلة كانت تشغل باله. وحسبنا هنا أن نتذكر أن غرين كان قد كتب قبلها نصوصاً ترفيهية أيضاً وتغوص في حس المغامرات والأبعاد السياسية جاعلاً مسارحها على التوالي، سييرا ليوني وكوبا والكونغو التي كانت تسمى لجيكية، وهي بلدان كانت مستعمرة أو خارجة لتوها من الحكم الاستعماري الغربي وتطرح من ثم على غراهام غرين كغربي ليبرالي، عدداً كبيراً من الأسئلة الشائكة، فيما يطرح عليه إيمانه الكاثوليكي أسئلة من نوع آخر، ربما يكون معظمها أخلاقياً لكنه يتعلق مباشرة بجدوى إيمانه الطوعي. إحدى طبعات “الكوميديون” (أمازون) حوارات ومصائر والحقيقة أنه لئن كانت الرواية التي نتحدث عنها ترفيهية، بل تكاد تبدو في نهاية الأمر رواية بوليسية مفعمة بالمطاردات والمغامرات والتشويق البوليسي والغراميات، فإن هذا البعد يجد مبرراته من خلال طبيعة النظام الحاكم الذي يجد الثلاثة أنفسهم على تجابه معه. ولكن من هم هؤلاء الثلاثة؟ إنهم أميركيان وإنجليزي يحملون أسماء تعمد الكاتب أن تكون شديدة العادية: مستر براون، الراوي وهو إنجليزي ترك للصدف طوال حياته أن تقود تلك الحياة. وهو كما يصف نفسه “الرجل الوحيد بامتياز” الرجل الذي لا يربطه رابط، كل ما في الأمر أنه يقصد هايتي في نوع من استعادة لغرام قديم ربطه يوماً بامرأة هي الآن متزوجة، لكنه يريد أن يطلع في الوقت نفسه على أحوال فندق بائس امتلكه يوماً ولا يعرف ماذا يفعل به الآن. والثاني هو مستر سميث الأميركي المثالي والنباتي الذي لا يكف عن فلسفة نباتيته بعبارات كبيرة. أما الثالث فهو مستر جونز الأربعيني الذي يصغي بأكثر كثيراً مما يتكلم، مما يجعله محاطاً بالشكوك والأسرار بخاصة أنه يبدو في كل لحظة وكأنه يحاول الهرب من أي التقاء مع رجال الشرطة. والسفينة الهولندية التي أتت بهم إلى هنا، تلفظهم في هايتي البائسة التي يهيمن عليها نظام بوليسي ديكتاتوري هو من القذارة ما يجعل غراهام غرين نفسه يخبرنا منذ مقدمة روايته أنه لا يجد نفسه على الإطلاق مضطراً إلى تسويد صورة ذلك النظام الحاكم بالخوف والإرهاب بالنظر إلى أن سواده الحقيقي لا يضاهيه أي سواد. والحال أن مجرد نقل صورة للواقع الذي يجد المسافرون الثلاثة أنفسهم مرميين فيه منذ وصولهم، يكفي لتحديد مسار الأحداث التي، ومن دون أن تكون مجابهة سياسية بين الثلاثة الذين يصعب القول إنهم أصلاً هنا لغايات سياسية وبين النظام الحاكم ببوليسه، وممارسته أقسى ضروب التعذيب في السجون، وسادية رجال أمنه والقطع المتواصل للمكالمات أو المراسلات البرقية لأدنى اشتباه. وأمام هذا الاشتباه بالحدود الدنيا، لا يكون أمام الكوميديين الغربيين الثلاثة إلا أن يسلكوا أي درب للهرب. ضروب هرب لا تنتهي الهرب في أي لحظة والهرب لدى أية إشارة والهرب بخاصة من قتل يتربص بهم ويطاردهم في كل لحظة. وهو هرب ينجح فيه اثنان منهم ولكن ليس الراوي مستر براون الذي يجد نفسه معتقلاً ومحكوماً عليه. وربما من جراء اللامبالاة المتجذرة في شخصيته. ففي النهاية ليس ثمة أبطال بين هؤلاء الغربيين الثلاثة. أما البطولة الحقيقية فيتركها غرين للهايتيين أنفسهم ولا سيما لذلك الشاعر الرومانطيقي من سكان البلاد الأصليين الذي يبدو متمسكاً بمبادئه على رغم كل شيء وعلى رغم أنه لا يرى أي جدوى من نضالاته في معركة غير متكافئة. وكذلك البطولة هنا يتركها غراهام غرين لعشيقة براون السابقة وزوجها وبخاصة لطبيب الأمراض القلبية الذي يمكنه وحده وكما يشاء أن يخرق قوانين منع التجوال العشوائية كي يزور مرضاه. إنه كما يصوره لنا غرين، نزيه ونبيل وعاقل إلى أقصى الحدود، وهو كالشاعر يؤمن بالشيوعية مستقبلاً للبشرية شرط أن تسير متواكبة مع الدين في ثنائي يسميه “شيوعية السيد المسيح”. فهل يمكن للقارئ وسط مشاهد السحر والفودو والمطاردات البوليسية ومشاهد السجون والتعذيب والاغتيالات الممنهجة، هل يمكنه أن يستخلص من كل هذا الخليط رسالة ما يزعم أنها رسالة غراهام غرين في هذه الرواية؟ ذلكم هو في نهاية الأمر السؤال الأساس. أما جوابه فلا يبدو واضحاً إلا إذا رأينا أن غرين يبدو فيه يائساً. إذ يبدو عليه أن إيمانه إنما هو إيمان لمجرد الإيمان سواء كان إيماناً بالدين أو بالشيوعية أو بالنزعة النباتية ولا سيما بالنزعة النباتية التي يرى المستر سميث، النباتي، أن من شأن انتشارها التخفيف من عنف البشر الذين يرى أن أكلهم اللحم هو الذي يفاقم من عنفهم وقسوتهم!! المزيد عن: جزيرة هايتيغراهام غرينالديكتاتور دوفالييهرواية بوليسية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post من الحب ما قتل… كيف لعلاقة زواج أن تنتهي بمأساة؟ next post هل تتمكن “الإخوان” من لملمة “إمبراطوريتها” المالية بعد رحيل ممولها؟ You may also like رحيل “صائدة المشاهير”…ليلى رستم إعلامية الجيل الذهبي 10 يناير، 2025 سامر أبوهواش يكتب عن: حسام أبو صفية… الرجل... 10 يناير، 2025 كتب يناير الإنجليزية: سيرة هوليوودي واعترافات 3 نساء 9 يناير، 2025 عبده وازن يكتب عن: بثينة العيسى تروي خراب... 9 يناير، 2025 أعظم 20 فيلما في تاريخ سينما الغرب الأميركي 9 يناير، 2025 وليام هوغارث يغزو بيوت لندن بلوحات شكسبيرية 9 يناير، 2025 استعادة الشاعر بول إلويار في الذكرى المئوية للبيان... 9 يناير، 2025 فيلم “ذا اوردر” يواكب صعود التطرف في الغرب 9 يناير، 2025 عندما فقد الروسي غوغول شاعرية “سهرات مزرعة ديكانكا” 9 يناير، 2025 دمشق أقدم مدينة مأهولة… ليست مجرد عاصمة 9 يناير، 2025