ثقافة و فنونعربي وصية والتر غروبيوس في “أرشيف البوهاوس” by admin 23 يونيو، 2020 written by admin 23 يونيو، 2020 17 مؤسس الحداثة العمرانية يهندس حتى بعد رحيله اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب حتى إن كان “البوهاوس” يعتبر أشهر مدرسة عمرانية في العالم بالمعنيين كتيارٍ في هذا الفن وكمركزٍ عملي للتدريس والتدريب، فإن ليس ثمة اليوم أيّ أثر عمراني له في المدينة التي أنشيء فيها أساساً في جمهورية فايمار، وذلك بالتحديد لأن ذلك المركز الرمزي القديم الذي سجّل بداية الحداثة الفنية في أوروبا وأسرها انتقل لاحقاً إلى ديسّاو، حيث لا يزال قائماً حتى اليوم يشهد على نشاطٍ إبداعي لا نظير له. والأدهى من ذلك أنه حين تقرر أن يكون لـ”البوهاوس” مبنى مستقل يضم أرشيفاته الهائلة وكان يُفترض به أن يقام في دارمشتادت ليكون على ارتباط مباشر بالمباني الدراسية والإدارية في ديسّاو، بدا ذلك غير ممكن، لينتقل المشروع بعد ذلك إلى برلين ما جعل “البوهاوس” الحالي “بوهاوسين”. بيد أن هذه ليست المفارقة الوحيدة التي تتعلق بهذا الصرح الذي ارتبط دائماً باسم والتر غروبيوس، وصولاً إلى جعل مبنى الأرشيف البرليني نفسه يعيش الارتباط ذاته لكن بشكل يمكن القول إنه مصطنع. بعد سنوات من موت المؤسس في الواقع لم يبدأ بناء هذا الصرح البوهاوسي الجديد إلا في عام 1976، أي بعد سبعة أعوام من موت غروبيوس نفسه. ولقد استمر العمل في بنائه في برلين حتى عام 1979 ليفتتح في الذكرى العاشرة لرحيل المؤسس حاملاً تراثه وذكراه ووصيته في مطلق الأحوال، من دون أن يحمل الكثير من تدخّله العملي. فكان أن رُبط، عاطفياً بالأحرى، باسم غروبيوس وسهى عن بال كُثُرٍ من الزوار والمهتمين أن مبنى أرشيف البوهاوس ربما يكون انطلق من تأسيسات غروبيوس لكنه تحقق بجهود شركائه وتلامذته متبدّلاً تبديلات جذرية عمّا كان غروبيوس قد تصوّره خلال النصف الأول من سنوات الستين يوم كان من المفترض أن يُقام المبنى في دارمشتادت. والحقيقة أننا لو شئنا أن نحكي الحكاية كلها لاستغرقنا ذلك وقتاً طويلاً، لذلك لا بد من اختصارها بغية توضيح المفارقات التي أشرنا إليها. بالفعل كان المشروع الذي توخى تطوير مبنى خاص بالأرشيف قد عُهد إلى غروبيوس رغم أنه كان حينذاك في الثمانين من عمره. ويومها عرضت مدينة دارمشتادت أن تسهم في تمويل المشروع وتقدّم أرضاً صالحة له. وقُدّمت الأرض بالفعل وكانت منحدرة انحداراً لا بأس به، فقرر غروبيوس ومساعدوه الرئيسيون، ومنهم كفيجانوفيتش وهانز باندل اللذان أصر غروبيوس على أن يشاركاه العمل تصميماً وتنفيذاً أن يجري التصميم آخذاً طبيعة الأرض كعنصر أساسيّ فيه. وعلى هذا رُسمت التصميمات آخذة في حسبانها طبيعة البيئة والتربة واتجاه الأرض في دارمشتادت مع الحرص على أن يتخذ المبنى أشكالاً تربطه مباشرة بأساليب غروبيوس التحديثية المعهودة. وهنا، على الرغم من أن مشكلات التمويل والتنفيذ راحت تبرز مباشرة قبل رحيل غروبيوس، فإن المعلم رحل في عام 1969 وهو على يقين بأن المشروع سيُنجَز بحسب تصوراته المادية والإبداعية. والتر غروبيوس (1883 – 1969) في لوحة تستلهم أسلوبه (موقع الأرشيف) غير أن دارمشتادت عجزت عن إتمام المشروع بشكل نهائي، فتقدمت برلين بعرض لا يمكن رفضه، وهكذا ما إن حلّ عام 1976 حتى انطلق العمل في الموقع البرليني لكن مع عددٍ لا بأس به من التغييرات يتعلق أهمها بكون الأرض البرلينية منبسطة ما استدعى من كفيجانوفيتش إعادة النظر في الخرائط ومستويات الطوابق والممرات وكل شيء تقريباً. فالمشروع انقلب عمرانياً رأساً على عقب مع الإبقاء دائماً على عنصرين أساسين، التشكّل الخارجي الذي حافظ عل تشكيليات غروبيوس، والقسمة الثنائية التي قسمت المبنى من حول ممر رئيس إلى قسمين أحدهما إداري والثاني فني مهيّأ للمعارض والمناسبات. ومهما يكن، ظل العمل ككل مطبوعاً بطابع غروبيوس لا سيما المَيزات الشكلانية، ناهيك بأن كل العمرانيين الذين شاركوا في العمل نسبوه إلى المعلم المؤسس من دون أي التباس بل اعتبروه في كل حديثٍ لهم عنه، “وصية الأستاذ العمرانية”. ومن هنا يمكن القول اليوم إنه من بين كل الإنجازات العمرانية الرائعة التي حققها والتر غروبيوس في مساره، خلّده أكثر ما خلّده مبنى أسهم هو فيه بأقل قدر ممكن، لكنه اعتُبر امتدادا لـ”البوهاوس” الذي ارتبط باسمه! منطلقات الحداثة من ناحية مبدئية ليس “البوهاوس” على أية حال، سوى جامعة لدراسة المعمار والفنون التشكيلية. وهو بهذه الصفة يكاد يكون شبيهاً بعشرات الأماكن المشابهة في طول أوروبا وعرضها. غير أن هذه الصورة لـ”البوهاوس” ليست سوى نتيجة للوقوف، في النظر إليه، عند سطح الأمور لا أكثر. فهذه المؤسسة الفنية كانت في ذلك الحين فريدة من نوعها، وتجلت عند تأسيسها كمكان يخفي خلف هندسته المعمارية روحاً حية لعبت دوراً كبيراً في بعث الفن الألماني، بالتالي في مقاومة كل صنوف التعصب والجمود. وهذه القيم لئن انتصرت في ألمانيا، بفعل انتصار النازيين بعد ذلك، فإنها لم تتمكن أبداً من دحر روح التقدم والنزعة الإنسانية التي مثلها “البوهاوس”، ذلك الصرح الذي ارتبط اسمه باسم التيارات الفنية الحديثة وبالنهضة الفنية الكبرى التي عرفها العالم الغربي في ذلك الحين. جامعة “البوهاوس” التي تأسست في جمهورية فايمار بألمانيا ربيع 1919، ثم انتقلت إلى ديسّاو، بعد انهيار فايمار، اعتباراً من 1923، حملت منذ البداية روح وعقلية والتر غروبيوس الذي صمّم مبنى “البوهاوس”، فارتبط هذا باسمه ولم ينفصلا أبداً بعد ذلك، وهذا ما جعل غروبيوس يعتبر الأب الروحي للنهضة الفنية الكبرى، وإلى حد كبير للنهضة السينمائية الألمانية التعبيرية التي لعبت هندسة الديكورات فيها دوراً أساسياً (“عيادة الدكتور كاليغاري” و”متروبوليس” على سبيل المثال). والحال أن غروبيوس كان، منذ لحظة تأسيس “البوهاوس” قد أصدر بياناً مهماً، اعتُبر يومها بياناً تأسيسياً، صاغ فيه مبدأ وحدة الفنون، معلناً أن المعرفة والمهارة العملية هما عنصران أساسيان لا ينفصلان عن أي نشاط فني مهما كان سموه الروحي. مبنى أرشيف البوهاوس في برلين (موقع DEZEEN) فيما يتجاوز العمران ولعل في هذه النقطة الأساسية تكمن واحدة من مآثر غروبيوس الكبرى، المآثر التي جعلته لا يعتبر مجرد واحد من أكبر معماريي القرن العشرين، بل كذلك أحد أكبر منظري الفنون البصرية، من معمارية وغير معمارية. ومع هذا فإن المبدأ الأساسي للعمل في “البوهاوس” لم يكن قائماً، فقط، على إعادة اكتشاف الوحدة بين العمل الفني والعمل الحرفي كما عبّر عنها غروبيوس، بل كذلك على دعوة – وممارسة – هذا الأخير لنزعة توسيع آفاق العملين عن طريق استخدام التقنيات وضروب التطور العلمي كافة التي يتيحها لنا العصر. باختصار كان غروبيوس، في “البوهاوس” وعبره، يدعو إلى دخول الفن في القرن العشرين واستفادته من كل إمكانيات هذا القرن. ولئن كان غروبيوس قد جعل من “البوهاوس” بهندسته، كما بروحه، مكانا “مستقبلياً”، تلتقي فيه الهندسة المعمارية بالفن التشكيلي بالنحت بالعمران المديني، في بوتقة متناسقة واحدة، فإن عينه كانت في الوقت نفسه على السينما والمسرح والموسيقى، والعديد من الفنون الأقل “أهمية” في عرف الفن الرسمي، من الملصق إلى الديكور الداخلي وتصميم الأثاث. اقرأ المزيد “خفايا” كنوت هامسن تكشف أسرار حياته وأدبه تصاميم هندسية تقدم “روح الموسيقى” في الفن المعماري من ألمانيا إلى نيويورك ومن هنا، حين رحل والتر غروبيوس عن عالمنا عام 1969 اعتُبر رحيله خسارة كبيرة لفنون القرن العشرين، ولذاكرة تلك الفنون، على الرغم من أنه كان في ذلك الحين يقترب حثيثاً من عامه التسعين، وكان قد كف عن أن يكون أكثر من مجرد ذكرى، وهو ما يشهد به بناء مبنى الأرشيف و”دوره” فيه. وُلد والتر غروبيوس في 1883 وتلقى علومه في ميونيخ حيث أسس في 1918 “محترَف فنون” كان الأساس الأول لمشروع “البوهاوس” الذي أسسه في العام التالي، بعد أن عيّن مديراً لمدرسة الفن التطبيقي في فايمار. وعبر “البوهاوس”، كما أشرنا، مارس غروبيوس تأثيراً صارخاً في الفنون في أنحاء عديدة من البلاد. غير أن غروبيوس، ومع الإشارات المبكرة إلى صعود النازية، اضطر للرحيل إلى بريطانيا فإلى الولايات المتحدة في 1928 حيث أسس مدرسة هارفارد المعمارية. وهو منذ ذلك الحين عاش أغلب سنوات حياته في أميركا حيث حقّق العديد من المآثر المعمارية ووضع العديد من الكتب، وظل له مكانه المبجل في عالم فنون القرن العشرين على الدوام. المزيد عن: والتر غروبيوس/البوهاوس/دارمشتادتألمانيا//نيويورك/برلين/الفنون البصرية/الهندسة المعمارية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غوغل يحتفل بذكرى ميلاد رائدة تحرير المرأة في مصر هدى شعراوي next post شملت لبنان للمرة الأولى عبر اقتراح وقف المساعدات للجيش وورد فيها اسما بري وباسيل You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.