” الليل يا اُمي ذئبٌ جائع سفاح ، يُطارد الغريب أينما مضى ” محمود درويش .
عدنان ابو أندلس – العراق .
يُحيلنا عنوان ديوان ” ممالك ” بصيغة جمع لمفردة ” مملكة ” الى استنتاجات من خلال الموجه القرائي لها . نصوصه تتعدد مراحلها حسب موقع الحدث المواكب لمسيرة حياته الحافلة بالهواجس ، والتشرد ، والضياع ، ولأجل شحذ الهمم نفسياً ، لذا انطلق منها للتعظيم ؛ كتعضيد لحالته التي بدأت تتلاشى بُعداً عن الوطن ، هذه المسميات قد لمسها عند شعوره بالفقد ، والغربة ، والاغتراب ، والحنين ، والوحشة ، والتوجس ، والخوف ، والزهد . هذا التلبس الحياتي المتصدع الذي سايره في حياة التنقل والترحال ما بين المنافي التي استقطبتهُ مكرهاً , فكان الاغتراب الهاجس الذي يكتنفه في كل لحظة ، وحسب علماء النفس : ” ما يخطر من افكار او صور ببال الإنسان نتيجة قلق أو حيرة أو وهم أو تخوف من شيء ما ” *1 ..كم كان بوده ان يصرخ ويبدد الوحشة التي تنتابه ، لذا كانت قصيدة ” الذئب ” التي وظفها تلائم حالته المكبوتة والمنطوية على نفسها :
” مرةً أخرى يجيءُ الذئب المُبهم – غارزاً أسنانهُ في القطيع – لم تبق إلا بضعة شياه – مشتتة، ضائعة في البوادي ” *2 . جاءت أي الممالك كحُصنٍ يأويه ؛ ربما يُخفف عنه وطأة البعاد. فممالك ” الراوي ” رؤيويه نفسية موحشة ، وقد بدأت تتكاثر منذ صباه من سجن الوطن الى بغداد ، عمان ، بيروت وصولاً الى برلين التي توسد اخيراً ترابها غريباً . تقول ” عالية ممدوح ” : بأن ديوان ” ممالك ” : ” يحشر فيه الشاعر أنفه وبطريقة نموذجية في كل ما يعنيه من صبر البشر كطرائد وهم يحاولون العبور بين قارات الرفاهية ” * 3 … وكما في نصه :
” ماذا تصنع في هذا الوقت الطويل – تمشي وئيداً – ضارباً قدمك في النوم – يدك بأوراق الصحف – مريضاً بالصحو * 4.
لذا أسس ممالكا افتراضية بصيغة المفرد قد تأويه لبعض الوقت . فهذه المراحل التي وظفها في نصوصه كعناوين هي : مملكة الدهشة ، مملكة غير مفترضة ، مملكة مختلفة ، مملكة اليقين ، مملكة وسيطة ، مملكة الناس ، مملكة راهنة.
سيرة حياته تبدو حافلة بأحداث لمراحل تأريخيه صنعها بنفسه من بدء التكوين والى نهاية حياته , وقد يلاحظ تطابق ” ممالكه ” وفق الممالك الحضارية التي حكمت العراق من مملكة سومر، وبابل ، وأكد ، وأشور ، والحضر ، واشنونا ، وميشان . ربما التطابق جاء كمسايرة للواقع الذي عاشه في خضم التصدعات الحياتية التي اجتاحته . أفرزت كل واحدة منها لواعجاً من الحنين الدافق لتلك البقعة التي تسمى ” ممالك ” أي ” الوطن ” الذي تركه خلفه وهاجر الى بلاد تلم شتات نفسه المتصدعة بغربة طويلة مُكرهاً . فضل الغربة كحالة معايشة لما يسايره من ذلك الضغط النفسي في حاضرة بلده . يمكن أن نلمس دفقة الشعور بالاغتراب كظاهرة ألمت به ، لهذا كانت عنونة ديوانه بـ ممالك ، فـ الاغتراب هو جذر من الغُربة :” هو النفي عن البلاد ، وايضاً من غرُبَ – بعد أي تباعد “.*5.. وأنها ذاكرة تتكئ على التغرب أو النأي القسري عن المكان ، يصدح حضور المهِ في القصيدة ، وربما منذ السطور الأولى ” *6.
يلاحظ بأن مفهوم الغُربة والاغتراب في المعاجم اللغوية تعني المكان والبعد . فالغُربة تولد الحنين ، فالإنسان في غُربته يحن الى أهله ، أما الاغتراب يقاسي الم الوحدة ولا يرتبط بالمكان ..الغُربة نزوح مكاني ، والاغتراب نزوح نفسي ، فمفهوم الاغتراب أشمل وأوجع وأوسع من مفهوم الغُربة .*7. شاعريته ذهنية تنطلق من حاسة تشكيلية تكره الغنائية العاطفية والمرونة الانشائية لهذا جاءت من نسيج تجريبي موحد بخشونة ملموسة حسب واقعه الملموس ، وكما قيل عنهُ : ” نصوصه تحقق تناغماً بين الشكل والمضمون ، وهو غني بلا شك بتجربة شعرية طويلة ، لكن للأسف لم يحظ بالشكل الهندسي المطلوب ، فراحت قصائده تتكدس في سرداب ” *8 .
هذا هو التوجس والترد والخوف بعينه الذي يشعر به كما ذكرت في مستهل المقالة .. أما ” فوزي كريم” نشر ما يواكب حالته بذكره : قصائده طويلة ، يعطيك محصلة صمت الايضاح الطويل هذا ، القصائد في معظمها مراثٍ ، للذات ، للآخر ، للوطن للجماعة والحياة ، لا صوت للعاطفة والرومانسية إلا بالنزر اليسير هذا إن وظفها براحة بال وحين تداهمه الفرحة المفقودة ، بالرغم من أن العاطفة تستقل حين تكون طليقة وكريمة ” *9.
من خلال اطلاعي على رؤى قصائده في الديوان ؛ وكما يُقال : ” نلاحظ التواجد المكثف لمفردة ” الذئب في قصائده كونه متشائم ويميل للعبث لأن الحياة شرسة “*10..لذا اتكأ على صوت عواء الذئب ” لتؤدي وظيفتها الرمزية وليبدد الوحشة في ديار الغُربة لهذا استنجد صوتاً بصديقه ” سركون بولص ” كقوله هُنا : ” هو الذي ينام كل وقته ذئب جريح بي الذئاب ، يتأمل لحظة في منتصف الليل ، يأتي اليه العواء طالعاً من الروح ” *11 .. هذا الحيوان الشرس حين تداهمه حالة خطرة يستنجد بجنسه . وللناقد ” علي الفواز” رأي في شاعرية الراوي : ” دراما التخفي والمراقبة ، تنم عن صراع الشاعر ذاته مع الوقت والموت ، مقاتل ، مثلما يزاوج الشاعر بين اصوات تعوي داخله ، بما فيها صوت ذئب سركون، مع لحظة وجوده المضطرب في المكان ” *12 .هذا الهاجس والذي أقصده ” الخوف ” المتلبس به قد لاحقه الى ديار التغريب من المطاردة والتهديد والمساءلة جعلته يتذمر من الزمن الرديء . كان يتنمر حتى وصل الى حالة الجزع النفسي بفعل ما لاحقته من مسببات ذلك الصراع . ذلك الاستلاب القهري من كل نواحي الحياة ، اجتماعياً واقتصاديا وسياسيا ، لهذا حُورب وحوصر كونه عنيد وجدلي ومشاكس ومبدئي ، هذا الضغط النفسي جعله يوظف صراخه بعواء الذئب المجروح بصرخه مجازية على حياة بائسة في زمن ضاعت به كل المقاييس العقلانية . أكثر قصائده في ديوانه على تنوع رؤاها وخاصة المجاز والتجريب الذي اوغل به ينظمها خيط أساسي من رثاء النفس والفراق والوطن المكان الأول .
وأخير سنلج الى كتاب ” مدخل تعريفي الى جماعة كركوك ” لصديقه ومعاصره وآخر من تبقى من الجماعة في كركوك ، باستثناء ” فاضل العزاوي ” في برلين و” صلاح فائق ” في لندن والبقية توسدوا الثرى منذ أمد بعيد . ألا وهو الأديب ” فاروق مصطفى ” الناطق الرسمي لهم بصفة مؤرشفاً ،رائياً ، استذكارياً ، والذي يحمل التسلسل الأبجدي 9 ، والتسلسل 12 في قائمة تلك الجماعة كونه كان آنذاك اصغرهم سناً . هذه الاستذكارات قد وثقها كل ما سمعه وحاوره وخاطبه بالحديث يقول : ” إن الصفة الغالبة في ديوان ” ممالك ” هي أتسامها بالتطويل الي المطولات الشعرية التي تحمل نفساً ملحمياً وتنبسط على البراري الفسيحة وتسمح للمخيلة أن تشتغل على عوالمها المبتدعة ” *13 . وقد استشهد بنص ” الممثلون ” :
” مسرح للغواية على الممالك _ والناس يتدافعون لنصب العروش _في هذا المسرح ينبغي _ أن نعيد التكوين قبل الكلام ” 14 .
اجمالا يمتلك الشاعر حساً شعرياً ونقدياً باذخين في التوظيف رغم اصداراتهِ القليلة الثلاث هي : احتمالات الوضوح ” شعر ” بيروت 1977 ، وممالك ” شعر” منشورات دار الجمل ” شعر ” بيروت 2010 ، وسرد المفرد ” شعر ” 2015 . هذه المدة الفاصلة بين الاصدارات ربما تدل على الكسل والخمول أو التحميص كي تنضج الأفكار بتداعياتها ، أو قد ركن مسوداته فوق الرفوف المهملة . كل ما ورد ، يلاحظ بان هاجس الخوف والتوجس والحذر طاغية على نفسيته المتصدعة غُربة ومرضاً ، لهذا كان الهاجس متشبثاً بهِ ، متلبساً ، لأن المرارات التي ذاقها في شبابه ترسخت بتداعياتها ، ولم تعد تغادر هواجسه رغم البعاد عن بؤرة الخطر التي كانت تهدده في كل حين .
إحالات
1- ديوان ممالك ، مؤيد الراوي ، دار الجمل ، بيروت ، ط1 ، 2010 .
2- موقع جوجل ، الإنترنت ، كلمة هاجس .
3- ممالك مؤيد الراوي” وحشة التكاثر ” ، عالية ممدوح ، جريدة الرياض ، العدد ، 1563، 24- مارس -2011 .
4- المصدر نفسه كما في التسلسل 1 .
5- كتابات العراق ، مازن المعروف ، 3-8-2010 .
6- معجم الصحاح ، اسماعيل الجوهري ، تحقيق أحمد عبد الغفور ، دار العلم للملايين ، بيروت ، مادة غرب .
7- اختلاف الرؤية في شعر صلاح فائق وطيب جبار – دراسة مقارنة ، سارة جلال ، دار شهريار للنشر والتوزيع ، ط1 ، بغداد ، 2023 .
8- ممالك مؤيد الراوي ، عبد القادر الجنابي ، جريدة إيلاف ، 29-8-2010 .
9- مراثي مؤيد الراوي ، فوزي كريم ، جريدة المدى ، 11-5-2014 .
10- ممالك شعرية يبنيها مؤيد الراوي ، ملاحق المدى ، 13-12-2017 .
11- المصدر نفسه كما في التسلسل 1.
12- الشاعر مؤيد الراوي بوصفه رائياً ، علي حسن الفواز ، ملاحق المدى، 13-12-2017 .
13- مدخل تعريفي الى جماعة كركوك ، استذكارات ، مطبعة دزاين ، كركوك ، ط1 ، 2015 .
14- المصدر نفسه كما في تسلسل 1.