ثقافة و فنونعربي “نوا… نوا”: حكاية كتاب استثنائي ألفه غوغان مضطرا by admin 25 مارس، 2022 written by admin 25 مارس، 2022 149 رسوم ونصوص في صفحات قليلة لوصف حياة الفنان في منفاه اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كثيرة هي الكتب التي أصدرها فنانون كبار يحملونها أفكارهم في صفحات متفاوتة الطول كما يحملونها رسوماً ينجزونها خصيصاً لتلك الكتب، بل نكاد نقول إن ثمة كتاباً أو أكثر في ريبرتوار العدد الأكبر من الفنانين بما في ذلك كتب نظرية أو تاريخية نشرها بعضهم حتى خالية من الرسوم ما أكد على ثقتهم بقوة تعبيرهم كتابة، كما على توقهم لأن يزاوجوا بين النظرية والممارسة جاعلين النص معبراً عن النظرية تاركين للمعارض والمتاحف مهمة التعبير عن الممارسة. وطبعاً لن نورد هنا أمثلة لكن اللائحة تحتوي عناوين تبدأ بالرسام ومؤرخ الفن النهضوي جورجيو فازاري ولا تنتهي ببول كلي وبيكاسو وغيرهما من كبار مبدعي القرن العشرين الذين كتبوا دراسات فنية في غاية الأهمية من دون أن يجعلوا منها تبريراً لمسالكهم الفنية. رسام كبير وكاتب بالضرورة أما بالنسبة إلى الفرنسي بول غوغان فقد كان رساماً وبدا مصراً طوال حياته على أن يكون رساماً لا غير. وهو منذ انصرافه إلى ممارسة فن الرسم بشكل جدي، بقي حريصاً على ألا يمارس غيره بل إنه كان يصر حتى على أن يجعل من الرسائل التي يرسلها إلى أصدقائه ولا سيما من تلك الجزر في جنوب الباسيفيك، التي اختارها كي يعيش فيها أجمل سنوات حياته ويبعث منها أجمل وأغرب رسومه، رسائل مرسومة مستنكفاً عن أن تكون مكتوبة. ومع هذا، ثمة كتاب يحمل توقيع غوغان ويضم رسوماً له، لكنه يضم أيضاً العديد من النصوص التي كتبها الرسام. أو بالأحرى، اضطر الرسام إلى أن يكتبها وينشرها كما هي بعدما كان من المفروض أن يدبجها صديقه الشاعر شارل موريس. وكان هذا الأخير قد شرع بالتدوين بالفعل، لكنه لم يكمل الطريق، ما اضطر غوغان إلى استكمال المشروع وحده، وما جعل الكتاب يصدر بشكل مغاير، أدبياً على الأقل، لما شاءه الرسام أول الأمر. هذا الكتاب يحمل عنواناً هو “نوا… نوا: رحلة إلى تاهيتي”. وكما يدل القسم الأخير من العنوان، تتضمن صفحات الكتاب نصاً أدبياً، إضافة إلى العديد من الرسوم التي وضعها غوغان خصيصاً له. وللكتاب حكاية لا بأس بأن نرويها هنا، طالما أنها، في طريقها، تكشف جانباً من شخصية غوغان وصورة لعلاقته بأصدقائه. الشاعر الكسول يستنكف كان ذلك في عام 1893، حيث كان غوغان قد عاد إلى باريس بعد الرحلة الأولى التي قام بها إلى جزر بولينيزيا. وفي العاصمة الفرنسية أراد أن يعرض اللوحات التي كان حققها في تلك المناطق البعيدة. لكن اللوحات كانت غريبة في مواضيعها كما في أشكالها وحتى في ألوانها، لذا خشي غوغان ألا تكون مفهومة من الفرنسيين، فعزم على أن يضع كتاباً يروي فيه تفاصيل حياته في تاهيتي، كنوع من التقديم للوحات، على أن يزين الكتاب برسوم تستوحي بدورها حياته هناك. وهكذا وضع مخططاً للكتاب والنص الأدبي القصير الذي سيتضمنه وكتب صياغة أولى للنص في تشرين الأول (اكتوبر) من عام 1893. وكان “الكتاب” في صياغته اليدوية الأولى يتألف من خمس وعشرين صفحة. وبعد ذلك اتصل الفنان بصديقه الشاعر شارل موريس طالباً منه أن يضع الشكل النهائي والصياغة اللغوية الأدبية لذلك النص، قائلاً له إن تعاونهما معاً، سوف يجعل الكتاب تبادلياً بين صوت الشاعر “المتمدن” وصوت الرسام “المتوحش”. وبالفعل خلال صيف 1893-1894، تلقى غوغان نص موريس، وجمعه مع رسومه في ألبوم فاخر مجلد. وكانت الرسوم لوحات حققها خصيصاً للكتاب وأعطاها معاً عنوان “نوا… نوا”، ومعناها في لغة تاهيتي “العطر”. وطُبع من اللوحات ثلاثون نسخة. لكن الذي حدث هنا هو أن موريس لم يتمكن من إنجاز النص المطلوب منه بكامله كما استنكف عن القيام بتعديلات أرادها غوغان. ولما كان غوغان مضطراً للعودة إلى تاهيتي، أخذ معه ما كان أنجز من العمل ورحل. أما بعض الصفحات التي كان تركها لكي تنشر فيها نصوص موريس، فإنه عاد وملأها برسوم إضافية. ولاحقاً، حين علم غوغان وهو في منفاه الاختياري البعيد أن موريس قد نشر مختارات من نصوصه والرسوم في “المجلة البيضاء”، زاد سخطه على صديقه واشتبه بأن هذا الأخير يريد أن يحقق وحده أرباحاً من المشروع ككل. ولن يهدأ غضب غوغان على موريس حتى نهاية حياته، هو الذي احتفظ بما كان أنجز من المشروع. وبعد موت غوغان، وصل المخطوط إلى صديقه دانيال دي مونفريد، الذي أهداه إلى متحف اللوفر في عام 1927 بعد أن أعاد صياغته، إنما من دون اللوحات الأصلية ومن دون نص موريس. الحكاية في تفاصيل إضافية مهما يكن، وعلى رغم نواقصه يظل هذا الكتاب الصغير علماً على إبداع غوغان، يطبق فيه وفي رسومه ما كان هو نفسه قد نصح به ذات يوم صديقاً له وفحواه أن أجمل وأهم ما قد ينجزه الفنان إنما هو التجريب والتجريب الجريء دائماً الذي لا يتوانى عن المجازفة بأن لا يفهمه الآخرون “لأنهم في نهاية الأمر لن يجدوا مفراً من أن يفهموه”. والحقيقة أن هذا الكتاب قد أتى، وعلى الأقل في الصيغة التي أنجزها غوغان بنفسه “بالغ الجرأة في اتباعه للحلم الرمزي الذي دائماً ما أراد غوغان الغوص فيه والتعبير عنه. وها هو يفعل هنا وقد رأى أن خير ما يبدأ به هو تحقيق رسوم تصور ملاحظاته على رحلته إلى تاهيتي، واثقاً من أنه بإعطاء النص عنوان “نوا نوا” سيكون قد أوفى روائح الزهور المنتشرة في كل جنبات تاهيتي حقها. فهي زهور قوية الرائحة من الواضح أنها تتضافر بقوة مع ملونة غوغان القوية. وفي بداية الأمر كتب غوغان النص ساعياً للتوصل إلى توازن خلاق بين الشاعرية والتوصيف الواقعي للحياة اليومية، وكذلك بين حب الطبيعة الذي وصلته عدواه من طريق الفاتنة تيها أمانا التي نراها دائماً في عدد كبير من لوحاته ولكن بخاصة في العدد الأكبر من الرسوم التي وضعها للكتاب. وحين عاد غوغان إلى باريس كانت محاولته الاستعانة ببراعة قلم صديقه الشاعر، غير أن النتيجة أتت محبطة للرسام. فهو الذي كان يتوخى إبراز الطابع البصري للكتاب كله من طريق لغة تصورها بصرية، فوجئ بموريس يسلمه نصاً أدبياً يكاد يكون إنشائياً، ويفتقر في رأيه إلى الصدق والانسيابية. باختصار أتت النتيجة على الضد تماماً مما كان غوغان يتصوره. أهلا بالقراء الفقراء وهكذا عشية ارتحاله مجدداً إلى تاهيتي وقد بدا مضطراً إلى ذلك، توجه غوغان إلى تكثيف علاقة الكتاب بالرسوم التي راح يضيف إليها منسوخات لم يكن يريدها أول الأمر أن تكون جزءاً من المشروع، ويفاقم خلال النسخ من قوتها اللونية وقد آل على نفسه أن يجعل الجانب المرسوم يطغى على الجانب المكتوب. وبالتحديد على ذلك القسم الذي كتبه بنفسه متحدثاً فيه عن تفاصيل حياته هناك من الذاكرة ليعود ما إن وصل إلى مهجره ويضيف نصوصاً جديدة من كتابه لم يعد يعبأ حقاً بقوتها الأدبية أو حتى بصوابيتها اللغوية. رأى كتابه مكتملاً من دونها وهكذا حين أضافها شعر أن كتابه بات من الناحية الأدبية، فائضاً عن حاجته. وكان في هذا ما أرضاه حقاً وجعله يبعث المجموع إلى صديقه الفنان لوي روا سائلاً إياه أن يحول هذا المجموع إلى كتاب أنيق بديع اللوحات مشغولاً بأعلى درجات الأناقة الطباعية. فقام بول بالمهمة بكل أمانة. بل إنه سهر على أن يأتي الكتاب على رغم أناقته المفرطة زهيد الكلفة استجابة لما كان يتوخاه بول غوغان (1848 – 1903) من أن ينتشر كتابه ليس في أوساط الأثرياء القادرين وحدهم على شراء نسخه لو كان باهظ الكلفة، بل بخاصة في صفوف الناس العاديين الذين كان غوغان يريد أن ينقل إليهم حب الفن وحب الكتاب ويعرف أنهم، في المقابل، سوف يتسامحون مع كتابته البسيطة ويرحبون بألوانه وأشكاله المدهشة… المزيد عن: فن تشكيلي \ بيكاسو \ بول غوغان \ تاهيتي \ جنوب الباسيفيك \ كتاب نوا نوا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ماذا ستقرأ هذا الشهر؟ next post مصر تبحث تعويض خسائرها السياحية في الأسواق البديلة You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024