الروائية الإيطالية ناتاليا غينزبرغ (كتاب إيطاليون) ثقافة و فنون ناتاليا غينزبرغ تسترجع زمن الفاشيّة في ايطاليا by admin 10 يوليو، 2024 written by admin 10 يوليو، 2024 74 “معجم عائليّ” رواية تعود بالقارئ إلى زمن الحروب العالميّة والغليان السياسيّ في أوروبا اندبندنت عربية / كاتيا الطويل @katiatawil في مثل هذا الأسبوع من يوليو (تموز) عام 1916 ولدت الكاتبة الإيطالية ناتاليا غينزبرغ (رحلت في 1991)، وهي كاتبة إيطالية يهودية كاثوليكية مزجت السرد بالتاريخ ووضعت روايات تروي حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية والانحطاط والإحباط اللذين عرفتهما إيطاليا قبل الفاشية وفي أثنائها ومن بعدها. ومن المعروف أن غينزبرغ كتبت عدداً كبيراً من المؤلفات أجمع النقاد على أن أبرزها هو “معجم العائلة” (Lessico famigliare) وهي رواية نالت عليها جائزة ستريغا الإيطالية العريقة عام 1963. ومن الجدير ذكره أن رواية “معجم عائلي” قد تمت ترجمتها إلى لغات متعددة ونشرت في نسخ متعددة، فبالإنجليزية وحدها صدرت في طبعات عدة وعناوين عدة منها هذه الثلاثة: The things we used to say ; Family Lexicon ; Family sayings. ويبدو أن المترجم رامي طويل الذي قام بجهد واضح في ترجمة هذه الرواية إلى العربية، اعتمد روح العنوان الثاني واختار عنوان “معجم عائلي” في ترجمة الرواية إلى العربية، (دار الساقي عام 2024). أهمية الكلمة الرواية بالترجمة العربية (دار الساقي) يلاحظ قارئ هذه الرواية أن عائلة ناتاليا غينزبرغ بأفرادها وعلاقاتهم وتعابيرهم إنما هي صورة طبق الأصل من العائلة الإيطالية. فأولاً، تظهر صورة الأب صاعقة مسيطرة ذات سطوة رهيبة على الراوية وعلى الشخصيات كلها منذ البداية. تنطلق الرواية بغضب الأب وقسوته وطباعه الحادة، فأول فعل يعود للأب يقع في السطر الثاني من الرواية وهو: “صوت أبي يصيح غاضباً” ثم يأتي الفعل الثاني الوارد في السطر الرابع وهو “يصرخ”، ثم يأتي وصف الراوية وهي الكاتبة نفسها ليكلل صورة الأب المرسومة حينما تكتب: “في البيت عشنا دوماً في ظل كابوس ثورات أبي التي تنفجر بغتة ولأسباب تافهة غالباً”. (ص: 49). ويلاحظ القارئ كذلك أهمية الكلمات والعبارات في هذه الرواية والتوقف الطويل عندها وهو ما يتوافق تماماً مع العنوان “معجم”. ويبدو أن معجم الأب قاس صارم مخيف، فإن جمعنا الكلمات والتعابير التي يستعملها الأب على مدى السرد توصلنا إلى اللائحة الآتية من الصفات التي يطلقها على أولاده أو زملائه أو المحيطين به من أصدقاء وجيران ومعارف، فيقول الأب على التوالي: “غبي، وغد، نوري، يجلغم، يزبل، نعنوع، كسول، حمار، مهرج، درويش، شرشوح، حثالة”. وعلى رغم أن هذا الأب يبدو قاسياً صارماً، من ناحية أخرى يراه القارئ مثقفاً مطلعاً أنيقاً حريصاً على مصلحة أبنائه وخيرهم. فهذا الأب الأستاذ الجامعي ربى خمسة أولاد، علم في الجامعة، حارب الفاشية، نقل قيمه وأخلاقه ومبادئه إلى أبنائه، تطلع إلى قيم الأرستقراطية النبيلة، ربى أولاده على اختيار الأفضل والأذكى والأنجح وإن كانت طريقته في ذلك عنيفة كلامياً. ولا تخفى على القارئ أهمية الكلمات والعبارات في هذه الرواية وكأنها الخيط الذي يربط الشخصيات، وكأنها حبل الذكريات، فتكتب ناتاليا غينزبرغ: “نحن خمسة إخوة نعيش في مدن مختلفة. بعضنا في الخارج، وفي الغالب لا نراسل بعضنا بعضاً. عندما نلتقي نستطيع أن نكون لا مبالين ومشتتين واحدنا حيال الآخر. لكن تكفي في ما بيننا كلمة واحدة، عبارة واحدة، واحدة من تلك العبارات القديمة التي سمعناها وكررناها مرات لا تحصى أيام طفولتنا […] لنستعيد حالاً صلات طفولتنا وشبابنا القديمة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتلك العبارات والكلمات”. (ص: 32). الرواية بالأصل الإيطالي (أمازون) تشكل الكلمات والعبارات في هذه الرواية جوهر كل شيء، فكل شخصية موصوفة ومتناولة لديها عباراتها وكلماتها المعروفة بها والتي تتوقف عندها الكاتبة. كل موقف وكل مشهد يرتبط بعبارات شرحت الكاتبة استعمالها وبررته، فيشعر القارئ بمكان ما أنه شريك الكاتبة في ذكرياتها، وكأنه يسمع هذه الشخصيات تتكلم وتتلفظ بعباراتها التي تعرف بها، وكأنه صار يعرف كل شخصية ماذا ستقول وأي كلمة ستوظف في كل موقف. حتى إن الرواية تنتهي بعبارة غالباً ما كان يتلفظ بها الأب، ليكون الأب هو الذي افتتح النص وهو الذي اختتمه بصوته وعباراته ومعجمه. رواية بلا بطل تؤثر ناتاليا غينزبرغ أن تحذر قارئها منذ بداية نصها من أن ما بين يديه مجرد رواية وليس وثيقة تاريخية، فتكتب تنويهاً تقول فيه: “أعتقد، على رغم استناده إلى الواقع، فإنه يجب أن يقرأ كرواية، أي دون أن يطلب منه أكثر أو أقل مما تقدمه”. […] “لم أملك رغبة كبيرة في الحديث عن نفسي. هي ليست قصتي في الحقيقة، لكنها قصة عائلتي”. (ص: 8). لكن ناتاليا غينزبرغ أخطأت في تصنيفها لنصها فهو ليس قصة عائلتها وحدها بل قصة إيطاليا بأكملها منذ 1918 ولغاية خمسينيات القرن العشرين. عكست غينزبرغ في نصها واقع إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، وفي خلال الفاشية، وبعد الحرب العالمية الثانية. جمل قصيرة سريعة تمر وتلخص زمناً، حقبة، مرحلة من تاريخ إيطاليا. فتتناول الكاتبة مثلاً أحوال عائلتها وعائلات كثيرة بعد الحرب العالمية الأولى حينما تكتب: “السنوات الأولى في تورينو كانت صعبة بالنسبة إلى أمي. الحرب العالمية الأولى انتهت لتوها وارتفعت إثرها كلف المعيشة ونحن لا نملك إلا القليل من المال”. (ص: 34)، ثم تتناول في مرحلة تالية وصول الفاشية إلى السلطة وتشبث موسوليني بها وانعدام أفق سقوط الديكتاتورية، فتكتب ناتاليا غينزبرغ الفاشية الإيطالية وقبضتها الحديدية وسلسلة الاعتقالات التي حصلت حينها والتي نجا منها البعض بينما لم ينج الكثير. تروي النفي والهرب والتضييق التي عرفها أعداء الفاشية بين عامي 1922 و1943، فتكتب: “لم يبد أن الفاشية ستنتهي قريباً، بل بدا أنها لن تنتهي أبداً”. (ص: 160). وبعد سقوط الفاشية تتناول الكاتبة الشيوعية والاشتراكية الخيبة التي عرفتها إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، فتكتب: “هكذا سرعان ما انسحب الكثير محبطين وخائبين، ووقعوا في صوم مرير ولاذوا بالصمت. لذا صار زمن ما بعد الحرب حزيناً ملؤه الإحباط”. (ص: 201). واللافت في هذا العمل أن الأب، وإن كان يحتل جزءاً كبيراً من الوصف ومن الكلام، فهو ليس البطل. اللافت ألا بطل في هذه الرواية، فالإخوة الخمسة الذين يدور السرد حولهم: جينو وماريو وألبيرتو وباولا والكاتبة ناتاليا ليسوا الأبطال. الكاتبة نفسها ليست البطلة لأن القارئ لا يعرف شيئاً عنها ولا عن مشاعرها ولا عن عواطفها. إيطاليا هي البطلة في هذا النص بالظروف السياسية والتاريخية والاقتصادية التي عرفتها والتي مر بها أهلها، لتكون هذه العائلة نموذج العائلة الإيطالية التي عاشت في منتصف القرن العشرين وعاشت ما عاشته إيطاليا كلها من صراعات ونزاعات وخلافات ومواقف. كاتبة باردة بعيدة لا يمكن للقارئ إلا أن يلاحظ المسافة التي تخلقها الكاتبة بينها وبين نصها، وكأنها ترفض التعري عاطفياً ولا إبراز مشاعرها وعواطفها أمام قارئها. تخلق الكاتبة مسافة شاسعة بين نصها ونفسها، فالأحداث كلها مروية بأوتوماتيكية مهولة وكأن الكاتبة لا علاقة لها بموضوعها. إن ناتاليا غينزبرغ تروي تاريخ عائلتها وتاريخها الشخصي هي، لكنها لا تنصهر فيه، فهي باردة هادئة محايدة لا تتدخل ولا تحكم ولا تنقل أي شحنات طاقة أو عاطفة ويبدو ذلك في جمل مثل: “مع نهاية الحرب بدا أبي وأمي مسنين”. (ص: 197). لا تتدخل الكاتبة في نصها بل تنقل ما حدث كما حدث متى حدث. لا تكتب غينزبرغ قصة حب ولا عاطفة جياشة ولا ذكرى حزينة. لا نوستالجيا في هذا النص، لا طفولة ولا حب ولا زواج ولا أمومة. لا توقف عند تحديات الهرب والنفي والخوف من الاضطهاد. تخبر الكاتبة/ الراوية مجريات السنوات الأربعين بكل انفصال عاطفي وحيادية، ليبلغ البرود السردي أوجه عندما تخبر الكاتبة أن زوجها قد قتل. في الواقع لا تقول ذلك تماماً ولا تتوقف عنده بل تمر عليه مرور الكرام وبكلمات غريبة قليلة جليدية، فتقول عن زوجها: “ليون كان يدير صحيفة غير مرخصة ويبقى دوماً خارج المنزل. اعتقلوه بعد وصوله بعشرين يوماً، ولم أره بعد ذلك قط”. (ص: 196). لا تتوقف الكاتبة في أي لحظة من سردها عند وجعها أو خوفها أو غضبها. لا يعرف القارئ شيئاً من مواقفها، وكأنها مجرد كاميرا تنقل كل شيء وتكتفي بذلك. “معجم عائلي” لناتاليا غينزبرغ وثيقة اجتماعية تاريخية، رواية بلد وعائلة ومجتمع عانى وحارب وأحبط من دون أن يكون هناك راو ولا بطل ولا عاطفة محرقة. المزيد عن: روائية إيطاليةروايةالفاشيةالعائلةالحرب العالمية الثانيةإيطاليامأساةالناسالتاريخموسوليني 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post إمكان القول الفلسفيّ بالعربيّة أو كيف يكون المترجِم فيلسوفًا؟ next post “يوليوس قيصر” لهاندل: بطل شكسبير تحت مجهر التحليل النفسي You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024