جدارية الحرب 1977 للرسام عبد الحميد بعلبكي (خدمة المتحف) ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن : عبد الحميد بعلبكي بين واقعية الحرب وما بعد الحداثة by admin 10 مارس، 2025 written by admin 10 مارس، 2025 22 متحف سرسق يحتفي بالرسام الجنوبي الذي رافق تحولات بيروت اندبندنت عربية / مهى سلطان لم يعرف الرسام عبد الحميد بعلبكي المهادنة، بل عاش حياته منسجماً مع أفكاره وقناعاته الفنية، التي لم تكن تتفق دوماً مع الاتجاهات الفنية التي عرفتها بيروت طوال مراحل الحرب. فقد جسّد عبد الحميد بعلبكي ذروة الانقسام الحاصل بين العودة إلى الواقعية كنتيجة من نتائج الحرب وتداعياتها، وتوجهات فنون ما بعد الحداثة الغربية، التي اعتبرت أن العودة إلى الواقع يعني رجوع الفن إلى الوراء. وقد تجلى ذلك حين تقدم بعلبكي بلوحة من أعماله ليشارك بها في صالون الخريف في متحف سرسق (عام 1992) لِيُفاجأ برفضها من قِبل لجنة التحكيم، مما أثار زوبعة في الوسط الثقافي والإعلامي، على أثرها أعلن الفنان استنكاره ودعا في بيانٍ له إلى إقامة “صالون للمرفوضين” بديلٍ عن صالون سرسق، أسوة بمثيله في باريس وبعض الصالونات الأخرى كصالون المستقلين. رسم ذاتي للفنان عبد الحميد بعلبكي (خدمة المتحف) كأن الزمن كفيلٌ بالمصالحة بين الماضي والحاضر، لذا جاءت مبادرة متحف سرسق (بعد 33 عاماً) لكي تردّ الاعتبار إلى الفنان عبد الحميد بعلبكي، في موقف تضامنيّ مع أهل الجنوب المنهكين من الحرب الأخيرة، وكتحية تقدير لمنجز الفنان بشكل خاص، لا سيما بعد دمار بيته ومحترفه الفني بالكامل من جراء القصف الإسرائيلي المتكرر على مسقط رأسه في بلدة العديسة الجنوبية، الذي حوّل المكان إلى أنقاض. وهي خسارة كبيرة بلغت ما يفوق العشرين لوحة من أعماله، وما لا يحصى من الرسوم فضلاً عن مكتبته التي تضم مئات المؤلفات من الكتب النفيسة الفنية والأدبية والمخطوطات النادرة. لعل ما خفف من وطأة الخسارة أن قسماً كبيراً من اللوحات الناجية والتي سبق وعُرضت في قصر بيت الدين (يوليو/ تموز 2024)، هي من مقتنيات عائلة الفنان وبعض أصحاب المجموعات الخاصة. المعرض الذي يستمر لغاية 28 أيلول/ سبتمبر المقبل، تمكّن من استعادة جزءٍ مهم من إرثه الفني، ولكن ما لا يمكن استرجاعه هو ذكريات العمر، التي لا تُنسى في أحضان البيت الذي شيده الفنان بحبّ على رغم الأخطار على المنطقة الحدودية على تراب أجداده حيث تتعانق حكايات الأرض والطبيعة وصور الطفولة الضائعة في خزائن الماضي. الواقعية الساخرة بائع البطيخ- زيتية 1981 (خدمة المتحف) بعد الغفلة تنبّه جيلٌ جديد من المسؤولين عن إدارة متحف سرسق إلى أن عبد الحميد بعلبكي هو فنانٌ مبدع ويستحق التكريم، وأن واقعيته الساخرة لا تعبّر عن الزمن الذي جاءت منه فحسب، بل تتخطى الأزمنة والذوقية الماضية، كي تطلّ علينا في أعمال أقل ما يقال عنها إنها معاصرة وقريبة من القلب ومن العين معاً. فهو يعيدنا إلى أمجاد زمن اللوحة وسيادة الموضوع ووحدة الأسلوب وصدق التوجّه الفني في ما يتعلق بالقضايا الإنسانية والمواقف السياسية والاجتماعية. ظلّ عبد الحميد بعلبكي متمسكاً بالواقعية في الفن مثلما كان متمسكاً بأوزان الخليلي في نظم الشعر، غير أن لوحاته تعتبر شهادات على زمن الحرب الأهلية اللبنانية، والتجذّر العميق السياسي والثقافي في طروحات الهوية العربية، للتّميز عن اتجاهات الحداثة الغربية التي فرضت ذائقتها الخاصة على روح القرن العشرين. فقد ابتكر لنفسه نهجاً غير تقليدي في محاكاة التراث من مكان قريب أي من بيئته الشعبية، من خلال التماهي مع التراث الشفوي والطقوس العاشورائية والاحتفالات الدينية والحياة الداخلية المنزلية والموضوعات اليومية المستلهمة من الأحياء الفقيرة في ضواحي بيروت، بلغة واقعية ساخرة وعبثيّة وفكاهية في آن واحد لم تكن موجودة من قبل، مرتبطة بمستجدات الواقع الديموغرافي الجديد الذي أفرزته الحرب الأهلية اللبنانية. تلك اللغة الشعبية الأليفة كادت أن تؤسس لمدرسة خاصة بها لولا أن الفنان كان مُقلاً في إطلالاته ومعارضه، مع توزُّع اهتماماته بين قضايا الفن والسياسة والشعر والتفعيلة فضلاً عن انشغاله لفترة من حياته بإدارة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت والتعليم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. لوحة زيتية “بلا عنوان” (خدمة المتحف) تمثّل أعمال عبد الحميد بعلبكي حقبة من الصراع بين طبقات الثقافة في بيروت قبيل الحرب وبعدها. طبقة النخبة من الفنانين بالنسبة لنقاد الصحف والغاليريات، والطبقة الأخرى المنسية التي تنتج وتقيم معارضها على إيقاع التوتر والمواجهة المبنية على ظروف الحرب وملابساتها وكمائنها. فحركة الترويج الفني والإعلامي وحركة البيع والشراء كانت تقودها غالباً البرجوازية اللبنانية، التي ظل عبد الحميد بعلبكي بعيداً منها بالفطرة والانتماء، منصرفاً إلى هموم العيش والإقامة والارتحال والنزوح وصعوبة التأقلم. أسس عبد الحميد بعلبكي عائلة فنية بامتياز: أخوه الرسام فوزي وابنه أسامة وأبناء أخيه أيمن وسعيد جميعهم رسامون، وهو من مواليد العديسة، حيث نشأ في بيئة متواضعة ومعزولة وشغوفة بنظم الشعر العربي. درس الفن في باريس (1971- 1974) وتأثر بأعمال مارك شاغال وغوغان وحصل على دبلوم دراسات عليا في الفن الجداري من المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية. من أبرز لوحاته التي أنجزها في محترفه الباريسي جدارية “شجرة الحياة”. أما لوحة “الحاج” التي يعود تاريخها لعام 1974 فهي تجسد طقساً شعبياً عن الاحتفال المرافق لعودة حجاج بيت الله الحرام من مكة المكرمة، تعكس تأثيرات فن الواسطي، على أسلوب بعلبكي في طريقة التسطيح والتنميق المنتمي إلى التراث الحداثي العربي. لوحة “الحطاب” (خدمة المتحف) أقام عبد الحميد بعلبكي في منطقة الشياح في مراهقته، وكانت الهجرة من الريف إلى المدينة سمة من سمات أهل الجنوب، قبل أن تكون سمة المثقفين منهم قبيل اندلاع الحرب الأهلية، وزادت عمليات القصف الإسرائيلي المتتالية على قرى الجنوب من حدّة هذه الهجرة باتجاه بيروت. “أرسم عالم المدينة الذي هو قدرنا من الآن فصاعداً. لكن كان التصوّر السائد أن المدينة هي عالم الأغنياء فقط، فالمناطق الشعبية داخل المدينة وفي ضواحيها هي عالمي الذي أتناول منه هذه المواضيع وأنا مرتاح، لأن تناولها والإصرار عليها لم يكونا مألوفين في الفن اللبناني من قبل”. هكذا راح عبد الحميد يراقب وجوه الناس ويلتصق بعالمهم الحميم في الحيّ الذي يقطن فيه في الشيّاح حيث كان يحظى بموضوعات مُلهمة لا حصر لها. ومن هناك ظهرت مجموعة من اللوحات منها: “في غياب سيدة البيت” و”الإسكافي العجوز” و”حارة أبو سعيد”، لعل أهمها لوحة “المرحوم” التي تعود لعام 1974 وهي عبارة عن بورتريه جنائزية ذات مناخ شعبي تستحضر إلى أذهاننا السلطة الأخلاقية للعائلة والسلوكيات الاجتماعية التي كانت تعتمد طريقة تعليق صور الراحلين على جدران الماضي. ولكنها منفّذة بأسلوب فكاهي ظريف بعيد من الجديّة. كان الأسلوب الشعبي والملحمي في سرد معاناة الناس والتعبير عن أحزمة البؤس لدى عبد الحميد بعلبكي، يكمل المسار الذي بدأه كلٌ من رفيق شرف وبول غيراغوسيان في استيحاء مناخات الحياة البائسة لدى العائلات الأرمنية في منطقة برج حمّود. في مطلع الثمانينيات تميزت لوحة “القبضاي” الخارج عن القانون -التي دعيت أيضاً “أبو الجماجم” الذي يمثّل من وجهة نظر بعلبكي “نموذجاً لشخص استفاد من الحرب من دون أن تكون له قضية”. أما لوحة “غيفارا 2” فهي عن رجل ثوري محبط وحزين. وضمن إطار الحرب والاضطراب السياسي، تعكس لوحة “الحيّ” في مشهديتها الآسرة طراز الأبنية السكنية العشوائية في بيروت. وتتميز من بين أعمال تلك المرحلة لوحة “المقهى” وهي مثقلة بالتلميحات السياسية، لا سيما وأنها تضم العديد من الشخصيات السياسية المعروفة في ذلك الحين الجالسة في المقهى وهي تدخن النارجيلة وتتحدث وتقرأ الصحف، في تنوع انفعالي مشرقي يعكس الاحتفالية المشهدية والمناخ اللذين تعج بهما المقاهي الشعبية في لبنان ومختلف العواصم العربية. مع الناس وضد اللوحة الصالونية لطالما كان مفتوناً بالفن الجداري، منذ لوحة “عاشوراء” بطقسها الديني الملحمي انتقالاً إلى “جدارية الحرب” التي أعقبت حرب السنتين، واعتبرت وثيقة إدانة صارخة لهمجية الحرب والقتل والتدمير حتى دعيت في ما بعد بـ”الغرنيكا”. سعى عبد الحميد إلى مخاطبة الجماهير عبر جداريات تصوّر مواضيع تاريخية ملحمية، آتية من إغراءات فكرة الرسم الجداري في الفن المكسيكي الحديث (ريفيرا وأوزوكو وسيكيروس) الذين غطت جدارياتهم الملحمية قاعات المعارض، بما يخدم أغراض التوجه الشعبيّ. وفي هذا المعنى اللوحة هي نقيض اللوحة الصالونية البرجوازية. وكان يستشهد بقول للشاعر نيرودا: “أعلن الآن، اختار هذا المكان، كلماتي فؤوس ولصوتي شكل اليدين، أعلن الآن أني حطّاب هذا الزمان”، ثم لتأتي جدارية “الحطّاب” التي رسمها بعلبكي عام 1990 التي تشغل فضاءها غابة من الأشجار الميتة ذات الأغصان المتشابكة والمسننة على نحو غرائبي، على أرضية من العشب الأخضر، حيث يجلس الحطّاب متأملاً تاركاً منجله مغروساً في لحم الشجرة. وقد سبقت هذه اللوحة دراسات عديدة بالطبشور الأحمر تعود لعام 1989، تومئ بالبعد الإنساني للأشجار التي تنوء كالبشر وتتألم وتصرخ وتفزع وتنحني وتيبس وتموت. وعلى رغم أن عبد الحميد بعلبكي عاش 23 سنة بعد هذه الجدارية ولكنها بقيت تحفته الأخيرة، وظلت النظرة العدمية تظهر بين حين وآخر في نتاجه ما بعد عام 1990 ضمن إطار مناظره الطبيعية للصخور والقرى والأرياف، تدل على اليباس الروحي والشجن العاطفي. المزيد عن: رسام لبنانيالحربالحداثةبيروتالجنوب اللبنانيالواقعيةالانطباعيةالطبيعةالناس 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “المنتفضون” لغوته… نظرة خارجية إلى الثورة الفرنسية next post كيف يستوحي شعراء الحداثة أبعاد التراث الديني؟ You may also like ريتشارد باورز في جحيم عالم الذكاء الاصطناعي 10 مارس، 2025 كيف يستوحي شعراء الحداثة أبعاد التراث الديني؟ 10 مارس، 2025 “المنتفضون” لغوته… نظرة خارجية إلى الثورة الفرنسية 10 مارس، 2025 متخيل الصويرة المغربية في الرواية العالمية 10 مارس، 2025 “سينماتيك بيروت” يجدد الأمل بإنعاش مجتمع السينما في... 10 مارس، 2025 ثلاث مجموعات قصصية جديدة بتوقيع برادة والمديني والأشعري 10 مارس، 2025 ألف ليلة وليلة: قصة الكتاب الأكثر سحرا في... 10 مارس، 2025 لبنان: نجاة شرف الدين… أول «ناطقة باسم الرئيس» 10 مارس، 2025 ندى حطيط تكتب عن: «مشروع 25» وفيلسوف وراء... 10 مارس، 2025 كيف أصبحت صناعة الزجاج في العصر الإسلامي جسراً... 10 مارس، 2025