سيتا مانوكيان في معرضها "قطرات الندى" ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن: سيتا مانوكيان تعود إلى بيروت بعد غياب… معرض يختزل 20 عاماً من التّأمل by admin 8 يوليو، 2024 written by admin 8 يوليو، 2024 103 على نقيض ما كانت عليه من العفوية والارتماء والفوران والاندلاع، ترسم سيتا مانوكيان منذ سنوات خلت بكثير من الحكمة والتأمل الروحي، المعالم السيميولوجية الباطنة لعناصر الطبيعة كالوردة التي ترمز إلى تفتح الحياة بطبقاتها المتداخلة، بيروت- النهار العربي – مهى سلطان في معرضها “قطرات الندى” الذي تقيمه غاليري مرفأ لنتاج الفنانة سيتا مانوكيان طوال عشرين عاماً، تتيح الأعمال قراءة رموز ودلالات كثيرة لطالما كانت حاضرة لديها منذ زمن دون أن ينتبه إليها أحد، وكأنها كانت مخفيّة مثل الظلال في حضرة الضوء الساطع لأسلوبها التشخيصي القوي والأخّاذ وتيماتها الإنسانية المقطوفة من ذاتها ورؤيتها ومحيط عينيها ومشاهداتها وسط أهوال الحرب في يوميات بيروت الغربية. بالإمكان الآن قراءة معالم القلق الوجودي الذي لطالما ميّز نتاج تلك الفنانة المتمردة، منذ مرحلة الشباب وخلال مرحلة الثورة والرفض للتقاليد والانتماء الأيديولوجي لليسار السياسي في لبنان، مع مداهمات الريشة لمجريات الواقع طوال سنوات الحرب. هل كان لزاماً أن تمرّ كل تلك العواصف طوال تلك السنين لكي نرى هدأة النفس ووقعها في القلب؟ وأيهما أهمّ على المستوى الفني، أن يعيش الفنان لوحته وسط زوابع حركة الحياة وصيرورتها ومآسي الخراب والدمار والحروب، أو في سكينة التأمل والارتقاء الروحاني ومراقبة الطبيعة ونظام الكون وحياة الإنسان من الداخل؟ ما من حتمية بالنسبة إلى فنانة رسمت في بداياتها أحلامها الحبيسة داخل فراغ الغرفة ومحتوياتها، كما وثقت في لوحاتها ورسومها ومطبوعاتها ملامح دمار أبنية بيروت وهلع الأمكنة وفراغ الشوارع المضطربة وإيماءات الأشخاص المجبولة بالتوتر والحذر، بأسلوب واقعي تعبيري – بوليسي وتفكيكي شبيه بقصاصات ذاكرة مبتورة أو لقطات سينمائية هجينة مقطوعة من ضوضاء مدينة تعيش زمانها بين شروخ الضوء. تلك الأسئلة الوجودية الكبرى يليق طرحها على منجز فنانة كبيرة بحجم سيتا مانوكيان، وهي أسئلة ملحّة، خصوصاً بالنسبة إلى أصدقائها المقربين وأنا منهم، فقد كنا رفقاء من ثلة مثقفي ذلك الزمن الجميل! من مشارب وطوائف ومذاهب وأجيال متفاوتة ولكننا من طينة القلق الواحد، وكانت لقاءاتنا شبه اليومية مقرها مقاهي أرصفة الحمرا، وكانت لنا ذكريات طوتها الحرب بين أضلعها ثم نثرتها على دروب شتى، الدروب التي فرقت مساراتنا وأعمارنا لنجد أنه تغيرت ملامح وجوهنا بعد سنين في مرآة الصداقة. البحث عن التوازن سيتا مانوكيان الفنانة والراهبة البوذية، بلباسها الخاص وطقوسها وتقشفها ما زالت على مرحها القديم، لكنها ليست سيتا الفاتنة الجميلة المؤرّقة والضاحكة والمُعذّبة والساخرة المتهكمة والمحبة حتى اللوعة، الشخصية الشبيهة ببطلة روايات عشاقها كثر… لا لأن الشباب قد ولّى، بل بسبب الانقلاب الفكري والروحيّ الذي أحدثته في حياتها وفنها منذ هاجرت من بيروت إلى لوس أنجلوس عام 1985. لكأن الصورة الراهنة للفنانة ستظل ناقصة بلا الماضي، بكل سردياته وفخاخه وبراكينه وجنونه، الماضي المليء بالضحك والصداقات والعبث والحب والدمع والانغماس في لجج الحياة حتى الرعب والسخرية والخيبات والرحيل إلى أقاصي الغربة. لا يمكن الحديث عن التغيرات الجذرية التي طاولت أعمال سيتا حالياً من دون أن نفتح دفاتر غربتها الموجعة، التي وضعتها فجأة في مكان غير مألوف تهيمن عليه الطرق السريعة، ما كانت تدري كيف تنطلق بحياتها من جديد فهربت إلى الطبيعة، رداً على رفض ما رأته في المدينة الغريبة عن طبعها ومزاجها. في ظل هذا الفراغ العاطفي والفقد، بحثت سيتا عن توازنها الداخلي خوفاً من الضياع، وأخذت أعمالها ما بين أعوام 1989- 1990 تعتمد على جمالية التقطيع الأفقي والعمودي في بناء اللوحة من عناصر مضطربة (مقاعد مرايا تفاصيل زخرفية لمحفورات من الأثاث المنزلي)، فانقلبت موازين القوى بين الأعلى والأسفل في التعبير عن كوابيس الغربة (مرحلة T shapes) وأضحت الشخصيات الإنسانية أشبه بتداعيات ظلال أو ارتماء جثة من أعلى الحلم إلى أرض الواقع المظلم. في أوائل التسعينات انجذبت أكثر للطبيعة العضوية، رسمت أجساماً كروية مليئة بالدم فضلاً عن عناصر الورود والحليب والمياه، كتعبير عن مجاري الحياة وخبزها اليومي، التي دخلت لاحقاً في أعمالها التركيبية (installation) كعناصر مستقاة من الطبيعة. كان تأمّل الطبيعة مدخلاً لاعتناقها البوذية في عام 2000 في معبد ثيرافادا البوذي في لوس أنجلوس، ليتم ترسيمها كراهبة بوذية في سريلانكا منذ عام 2005 بعدها انقطعت عن الفن عشر سنوات، ثم عادت بدور “آني بيما درولما” إلى الرسم في عام 2016، مع ممارسة تأملاتها الداخلية باحثة عن الروابط بينهما عن طريق الفن. ولكن ما الذي تغير؟؟ تقول لي سيتا مانوكيان في سياق حديثها عن معرضها الحالي الذي يختصر تجاربها طوال عشرين عاماً، إنه منذ بدايتها كانت تبحث عما بعد الحياة والموت. ظل هذا السؤال يشغلها ويتراءى من حين لآخر في أعمالها التشخيصية التي تتحدث عن عالم الداخل: داخل النفس وداخل الحجرة بين الأعلى والأدنى وما يتبخر ليرحل وما يترسب ليبقى ثاوياً بثقله غارقاً في قاع النفس. ثم أتت عملية اختزال لذاكرة العالم الخارجيّ، وأخذت رؤيتها تصفو وتتنقى من الشوائب حتى لم يعد يبقى لديها من أسئلة سوى ذلك السؤال الأساسي لما بعد الحياة والموت، الذي أخذ يتشكل على نحوٍ مبسط رمزي ودلاليّ. على نقيض ما كانت عليه من العفوية والارتماء والفوران والاندلاع، ترسم سيتا مانوكيان منذ سنوات خلت بكثير من الحكمة والتأمل الروحي، المعالم السيميولوجية الباطنة لعناصر الطبيعة كالوردة التي ترمز إلى تفتح الحياة بطبقاتها المتداخلة، واليدين في حال التضرع وطلب العطاء، والحجارة بثقلها إزاء خفة غيوم السماء الزرقاء، وكأنها تُقلّبُ في أمور الدنيا ومسرّاتها، فتراها مثل صخرتين أو مجرّتين من كوكب غريب، متطابقتين في الشكل والحجم، واحدة ثقيلة رابضة في الأسفل والثانية خفيفة تتحرر نحو الأعلى. الواقع أن كل ما تبحث عنه سيتا في فنها وحياتها المهنية متعلق بموضوعات الازدواجية وأعمال التوازن، توازن الثقل والخفة من خلال رؤية الطبيعة كحياة وموت مستمرين، بالمقابل فإن سلسلة سوائل الجسم – بحسب تعبير المنسقة الفنية للمعرض كريستين خوري – تتحدى فكرة الزمان والمكان وما إذا كانت السوائل تتدفق للأسفل أو للأعلى، أما البيض فهو يرمز للتكاثر والخصب، في حين أن تصاعد الدم في الكرات يشير إلى الحياة والعنف والموت في أشكال متعددة في وقت واحد”. قد تبدو بعض الرموز في البوذية (الخبز والدم والبيض) ربما عن غير قصد في معرض سيتا مانوكيان “قطرات الندى” متقاطعة مع الأيقونوغرافيا الدينية المسيحية (دم المسيح وجسده وبيض عيد الفصح)، غير أن الفنانة تدعو زائريها إلى رؤية لوحاتها على ضوء مقولة جلال الدين الرومي: “أنت لستَ قطرة في المحيط، أنت المحيط بأكمله في قطرة”. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post لماذا تنازلت “حماس” عن شروطها المسبقة للهدنة؟ next post بعد الاتفاق على صفقة الرهائن.. تقرير يتحدث عن “حاجز” مصر You may also like اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024