جان سيباستيان باخ (الموسوعة البريطانية) ثقافة و فنون ملكان في القصر الإمبراطوري البروسي… فنان وسياسي by admin 7 ديسمبر، 2024 written by admin 7 ديسمبر، 2024 23 يوم تفوق باخ على الإمبراطور فريدريك الثاني الذي تنازل بوضع نايه جانباً مكتفياً بالإصغاء إلى عزف المعلم اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كانت سهرة لا تنسى في تاريخ القصر الإمبراطوري في بوتسدام في عام 1747 حين قام جان سيباستيان باخ بواحدة من آخر جولاته في تلك الديار، وكانت ذريعة الزيارة المبدئية دعوة من ابنه كارل فيليب عمانوئيل الذي كان عازفاً للأرغن في القصر الذي كان سيده في ذلك الحين فريدريك الثاني الكبير ملك بروسيا المعروف بإنجازاته وهواياته الفنية، ومن بينها عزف الناي، وإعجابه الفائق بجان سيباستيان نفسه. وفي ذلك الحين كانت زوجة الابن تنتظر مولودها الثاني، وبالتالي كان يفترض بالزيارة أن تكون عائلية. ولكن من ناحية أخرى لا شك أن الإمبراطور كان هو الداعي الخفي إذ، وهذا أمر لم يكن باخ الأب يعرفه هو الذي كان كف عن العزف في مناسبات رسمية منذ زمن بعيد، إنه كان منذ زمن بعيد يلح على عازف أرغنه أن يدعو أباه إلى زيارة بوتسدام كي يعزف في قصره في حضرة كبار القوم. وكان الغرض التالي لفريدريك الثاني من ذلك كله أن يجرب حظه بالعزف على الناي أمام أولئك الكبار إلى جانب باخ الكبير. وهكذا من دون أن يخمن ما المخفي وراء الحكاية توجه هذا الأخير إلى القصر المسمى “سان سوسي” غير بعيد من برلين برفقة صديقه الأقرب فيلهلم فردمان الذي سيكون هو من يروي الحكاية لكاتب سيرة باخ لاحقاً، فوركل. فريدريك الثاني الكبير ملك بروسيا (الموسوعة البريطانية) هكذا انطلقت السهرة إذاً بعد ساعات استراحة في القصر اللطيف حل اليوم الذي كان بات معروفاً أن السهرة ستقام في آخر نهاره، وبدأ المدعوون يتوافدون تباعاً من دون أن يسهى عن بال أي منهم أن الأكثر حماسة بين الحاضرين لم يكن سوى الإمبراطور نفسه الذي راح يستقبل المتوافدين، وهو حامل بيده نايه بكل فخر واعتزاز، معرباً عن فرحته التي لا توصف بما سيفعله بعد قليل، هو الذي كان لا يخفي أن ما سيفعله الليلة سيحقق له حلمين لم يكفا عن مراودة أفكاره منذ زمن بعيد: أولهما أن يستقبل باخ الذي كان بات في ذلك الزمن المتأخر من حياته سيد الموسيقى عزفاً وتأليفاً في أوروبا، وأن يراقب عزفه الاستثنائي عن كثب، وثانيهما أن يعزف بعض المقطوعات، بنفسه، في صحبته ليرى العالم أنه لئن كان حاكماً كبيراً في السياسة، فإنه سيد كبير في العزف أيضاً و”أنتم تشهدون على ذلك أيها السادة، وتكفيني شهادتكم كي أدخل تاريخ الفن من باب ولا أعرض!”. طبعاً لم يقل فريدريك الثاني هذه العبارات منطوقة، لكن كل حركة من يده التي كانت تحمل الناي كانت تقوله، وكل ابتسامة على شفتيه كانت تعبر عنه، وكل همسة من همسات الحاضرين من حوله وحول سيد الموسيقى كانت بالكاد تخفيه. أما أسماء حاضري السهرة الذين كانوا يعلنون ما إن يصلوا فكانت تكشف عن المستوى الرفيع للحضور بخاصة أن معظمهم كانوا ضيوفاً أجانب من الجوار دعاهم الإمبراطور كي يشهدوا عظمته كفنان، كما يشهدون دائماً عظمته كسياسي. وكان واضحاً طوال تلك السهرة، ومنذ بداياتها على أية حال، أن الإمبراطور يعتبر ترقيته إلى رتبة فنان، أكثر ما يهمه! وتنحى الإمبراطور جانباً ذات لحظة إذا وقف الإمبراطور ونايه في يده، وابتسامة فرح غامر تملأ ملامحه، ونظر ملياً نحو أعضاء الأوركسترا الذين كانوا على أتم الاستعداد للشروع في ما جاءوا لعمله، بينما كان جان سيباستيان باخ يدخل القاعة المكتظة وسط صمت مهيب، وقال معلناً “أيها السادة ها هو باخ العجوز قد وصل حقاً!”. وسرت رعدة في الحضور أتت مستعارة من فرحة الإمبراطور بأكثر مما هي معبرة عن الشعور الغامر بوصول باخ. ولعل ما لفت نظر الجميع في تلك اللحظة كان أن باخ الأب ما إن وصل إلى المدينة واستقر في منزل ابنه حتى كان حل موعد التوجه فوراً إلى القصر، ولما لم يكن لدى الموسيقي الكبير من الوقت ما يمكنه من تغيير ملابس السفر، وجد نفسه مضطراً إلى الإبقاء على هذه الملابس متوجهاً بها إلى مكان الاحتفال. ولكن هل كان ثمة من يعبأ بذلك حقاً؟ كان المهم في الأمر أن يشهد الجميع من أهل البلاط ومن مدعويه أن باخ عزف هنا، وربما للمرة الأخيرة من حياته، كما أن الإمبراطور كان يريد أن يحقق رغبته في العزف في حضرة سيد الموسيقى. وإذا كانت الغاية الأولى تحققت وجرت تفاصيلها على خير ما يرام، فإن الرغبة الثانية لم تتحقق. وربما لم يأسف أحد على ذلك، ولا حتى الإمبراطور نفسه الذي من المؤكد أن عدم تحققها كان بناء لإرادته نفسه. فما الذي حدث؟ حسناً سنتابع هنا الحكاية ودائماً كما رواها صديق باخ الذي أشرنا إليه أعلاه، وكان مرافقه في رحلته وشاهداً على تلك الليلة الليلاء التي لم ينسها أبداً، وهي كانت، على أية حال، ليلة لا تنسى، والأسباب عديدة كما سنرى في السطور التالية. الملك يحترم نفسه مرت الموسيقى على خير تلك الليلة إذاً، وعزف باخ الكبير كما لم يسبق له أن عزف في حياته، وهو أمر أكد عليه كل الحضور في شهاداتهم على أية حال. وهي بدأت فعلاً حين ما إن أعلن الملك وصول باخ حتى أمسك بيده ليقوده وسط رهط من معاونيه وكبار الوزراء ورجال الحكم من صالة في القصر إلى أخرى ليريه آلات البيانو السبع التي يملكها من مصنوعات “سيلبرمان وأولاده”، راجياً إياه أن يفرحه بتجربتها واحدة بعد الأخرى، ولو لجملة موسيقية أو جملتين. وبالفعل وجد باخ نفسه يستجيب والفرح والاعتزاز يغمرانه. وأحس أن الليلة ليلته وأن القصر الإمبراطوري يشهد حضور ملكين معاً لا شك أنه هو، ملك الموسيقى، الأكثر إشعاعاً وتفوقاً بينهما، وهو أمر اعترف به الملك جهاراً على أية حال! فبعد أن جرب باخ كل الآلات وسط تصفيق الإمبراطور وسروره المطلق، حان وقت العزف المتواصل، والتفت باخ نحو فريدريك الثاني سائلاً إياه أن يقترح عليه موضوعاً ليبني عليه ارتجالاً فوغا ملائمة. وهو ما فعله الملك بعد أن وضع نايه جانباً، وانخرط في اللعبة، وهو يدمدم بصدق وإيمان أنه لا يحق لأحد ولا حتى لإمبراطور أن يعزف في حضرة هذا العازف، المؤلف الكبير. ومن الواضح أن الحضور الذين راحوا في كل لحظة وعند كل وقفة يصفقون كانوا إنما يصفقون للموسيقى والملك في آن معاً، والحال أنه لئن انتهت السهرة على ذلك النحو فإن صباح اليوم التالي سيشهد عزفاً لا يقل بهاء أداه باخ في كنيسة “الروح القدس”، ولكن هذه المرة أمام حضور مضاعف بدا أكثر شعبية وحماسة من جمهور الليلة الفائتة. ومهما يكن، فإن باخ لن يوقف تلك الحكاية المجيدة هنا، بل إنه ما إن سيصل إلى مدينته لايبزيغ حتى ينكب على استكمال ما كان بدأه أمس، إذ إنه راح يشتغل على توليف ما عزفه أمس ارتجالاً بناء على اقتراحات الإمبراطور ليصيغ، في نهاية الأمر، مجموعة فوغا، بعضها مبني على ثلاثة أصوات، وبعضها على ستة أصوات، والبعض الآخر على ثمانية قوانين، إضافة إلى فوغا واحدة مبنية على قانون واحد مع قرار وجواب ذات عزف خماسي، ناهيك عن سوناتا بأربع حركات وقانون بروتين على باص متواصل. وهو لئن كان أول الأمر رغب في أن يطلق على العمل عنوان “سهرة الإمبراطور”، فإنه انتهى إلى تسميته “القربان الموسيقي”. وعلى رغم معرفة الإمبراطور لاحقاً بما أحدثه باخ من تبديل في العنوان، فإنه أعرب عن سروره بالعنوان الجديد الذي وقع باخ نسخاً عديدة من نوطاته المطبوعة وبعث بها إلى الإمبراطور مع إهداء رقيق ظل فريدريك الثاني يعرب عن اعتزازه به طوال حياته. المزيد عن: جان سيباستيان باخفريدريك الثاني الكبيرسهرة الإمبراطور 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “نوتردام باريس”: تحفة معمارية من فرنسا لكل العالم next post بيجن جلالي فيلسوف الشعر الفارسي الجديد تجاهلته الثورة You may also like رواية “صيف سويسري” لإنعام كجه جي: كبسولات لعلاج... 12 ديسمبر، 2024 يوميات ومذكرات وثّقت تجربة الاعتقال في سجون نظام... 12 ديسمبر، 2024 “الممتثل”… بين فضح الفاشية وتحليل النفس البشرية 12 ديسمبر، 2024 الشاعر السوري أدونيس يدعو لتغيير “المجتمع” وليس النظام... 12 ديسمبر، 2024 “ستموت في القاهرة” رواية عن شاه إيران وصراعاته 11 ديسمبر، 2024 بول شاوول يكتب عن: التجديد المسرحي العربي في... 11 ديسمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: طبق نحاسي من موقع... 11 ديسمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: قصة «أيمن» الحقيقي بطل... 11 ديسمبر، 2024 دي ميرابو… مع الثورة ولكن أليست الملكية أعدل؟ 10 ديسمبر، 2024 كيف تثبت الروايات القصيرة مكانتها في الأدب الإنجليزي؟ 10 ديسمبر، 2024