ثقافة و فنونعربي مرايا بترارك في “أفريقيا” أسست فكر النهضة الإيطالية by admin 2 أبريل، 2023 written by admin 2 أبريل، 2023 56 حاكى بالقصيدة ملحمتي هوميروس وغايتها فحص الذات على ضوء صراع شيشرون وهنيبعل اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب للوهلة الأولى سيبدو الأمر غريباً لمن يقرأ قصيدة الكاتب والشاعر الإيطالي النهضوي بترارك، المعنونة بـ”أفريقيا” أو أجزاء منها على أي حال، أن يربطها بما هو متعارف عليه من أنها عمل أدبي افتتح حقا ذلك الفكر النهضوي الإنساني الذي سيسير في سلمه عدد كبير من المبدعين الإيطاليين يتلوهم مبدعون ساروا على منوالهم مؤسسين بدورهم لنفس الفكر في مجالات الرسم والأدب وحتى في العمران والموسيقى. بالنظر إلى أن هذه القصيدة عمل ملحمي يتوه فيه قارؤه أول الأمر، أي قبل أن تتجلى له سماته التي ميزت فكر الإنسانويين الإيطاليين خالقين تلك النهضة التي انفجرت في تلك السنوات معلنة بزوغ عصر الإنسان. لنشر منذ البداية هنا إلى أن من صعوبات التعامل مع هذا العمل الأدبي الكبير أنه اشتهر بأن من الصعب على أي كان أن يقرأه بكامله مرة واحدة كما تقرأ القصائد فإن فعل ذلك سيدرك من فوره أن ما يقرأه إنما هو واحدة من أولى الأعمال الأدبية التي أسست لما سيعرف لاحقاً بـ”الأدب النهضوي الانساني الذي ظل اسم بترارك مرتبطاً به، باعتباره مؤسسه الأول، وتحديداً بفضل قصيدة (أفريقيا)”. عنصرية مخادعة في نهاية الأمر ليست قصيدة “أفريقيا” (1338 و1342)، سوى كتاب حرب يصف بالتحديد المعارك التي خاضها شيشرون الأفريقي كـ”ممثل للحضارة الرومانية الراقية”، ضد هنيبعل الفينيقي كـ”ممثل للحضارة القرطاجية الأفريقية الهمجية”. في “أفريقيا” يبدو بترارك وكأنه يمجد الحرب، وينتصر للرومان على القرطاجيين تمجيداً لا يخلو مما قد نعتبره في أيامنا هذه “نزعة عنصرية”. ويزيد من حدة هذا أن بترارك لم يكن يجهل في زمنه أن حضارة قرطاجة لم تكن على الهمجية التي كان يمكن له أن يتصورها ويصفها في كتابه. غير أن هذا الواقع يجب ألا يحجب عنا واقعاً أكثر أهمية: وهو أن بترارك لم يكن ليتوخى من قصيدته الطويلة التي تعتبر من عيون الأدب اللاتيني أن يصف حرباً أو يحط من شأن حضارة: كان يتوخى إيصال رسالة واضحة، إلى قرائه المعنيين بتاريخهم. وتتعلق هذه الرسالة بشخصية شيشرون، لا هنيبعل. ولعل هذا الأمر يتضح بشكل أساس حين يصل بترارك في جزء من قصيدته إلى وصف الحرب نفسها وتجابه شيشرون وهنيبعل فيها. هنا يبدو واضحاً أنه لا يكتب بسهولة، ولا يتمكن من ولوج الحرب وتفاصيلها عبر لغة صافية تعبر عنه حقاً. إنه يبدو مرتبكاً ولقد لاحظ الدارسون هذا الارتباك وفسروه تفسيرات شتى، لا سيما إذ ربطوه بالإيجابية التي يصف بها بترارك تحرك شيشرون وأحلامه ومراميه، في مقابل السلبية، وربما الحيادية، التي يصف بها مواقف هنيبعل. محاكاة ملحمتي هوميروس من المؤكد أن بترارك الذي جاءته فكرة القصيدة حين كان يتجول في غابات الفوكلوز الفرنسية، ثم كتبها بعد ذلك في فترات متفرقة، كان همه، إذ يحاول كتابة ما يضارع “الإلياذة” أو “الأوديسة”، وأن يركز اهتمامه على البطل التاريخي والشعبي شيشرون. وكان همه أن يضفي عليه صفات تدخل في صلب اهتماماته هو: فشيشرون يجب ألا يبدو هنا نصف إله ولا بطلاً استثنائياً. إذ إن “بطل النزعة الرومانية الكامل” يجب أن يخرج تحت قلم بترارك مجرد إنسان شجاع مليء بالنزعة الانسانية، واقعياً وورعاً، بسيطاً ومثقفاً. بترارك ودانتي وشعراء نهضويون آخرون (موقع الشاعر) والحال أن بترارك حقق بغيته هذه، إذ لم يقتصر إلا على نسف الصورة القديمة لشيشرون وإثارة الشك من حول ألوهية للأبطال كانت راسخة في أذهان الناس، بل عرف في طريقه كيف يرسم أول صورة واقعية في تاريخ الثقافة الغربية لبطل ينتمي إلى عصر الانسان، إلى عصر الـ”هنا والـ”الآن”. وفي سبيل ذلك كان كل شيء ممكناً بالنسبة إلى بترارك بما في ذلك استخدام حس شعبي عريق واللجوء إلى تاريخ (نصف واقعي- نصف أسطوري). وبالنسبة إلى بترارك كان لا يمكن للنزعة الإنسانية الابتداع إلا بالتواكب مع نزعة قومية خالصة، فالزمن كان مبكراً من أن يسمح بالتفكير بنزعة كونية ستتواكب لاحقاً مع النزعة الانسانية. أيام بترارك كان لا بد من مخاطبة الشعب بلغة يفهمها، ودفعه إلى واقعية بعيدة عن ميتافيزيقية تعطي البطولة معاني ما ورائية. ويقيناً نجح بترارك في هذا. قصيدة “أفريقيا” تتألف من تسعة أقسام، وكتبت بلاتينية أقرب إلى تلك المحكية في زمن بترارك. كانت عملاً أدبياً مؤسساً، وهي التي بنت شهرة مؤلفها وأعطته سمعته كمؤسس للنزعة الإنسانية في الأدب اللاتيني. صحيح أن بترارك استخدم في كتابته قصيدته هذه، نصوصاً قديمة لسيليوس ايتاليكوس وأخرى لتيت – ليف، لكن المهم هنا كان إعادة تفسيره لشخصية شيشرون، حيث إن دارسين لاحقين لم يفتهم أنه استخدم شيشرون، في “أفريقيا” قناعاً خالصاً يقدم من خلاله ذاته هو وأفكاره. رجل استثنائي وكان بترارك نفسه، كما وصف لاحقاً، رجلاً استثنائياً في المجالات كافة. ولم يكن ليتردد دون ارتقاء أعلى الجبال حتى يتمكن، مثلاً، من أن يتأمل وحيداً أحوال العالم والطبيعة بسلام ودعة. ويقال عنه إنه حين كان يافعاً في زمن الدراسة، وجد فجأة أن أساتذته والكتب، التي بها يَدرَّس مضجرتان، فترك المدرسة وقرر تعليم نفسه بنفسه عبر السفر، فجال في اليونان وإيطاليا وفرنسا. اطلع على آداب شعوبها واهتم بالفلسفة اليونانية القديمة ودرس الأساطير والخرافات، وطلع من ذلك كله بفكرة كانت جديدة في زمنه وعليه، “أن على المفكر الاهتمام بالانسان أولاً وأخيراً. لأن المفكر منذ انطفأت جذوة الفلسفة اليونانية ابتعد من الإنسان نفسه. بل أكثر من ذلك، ترك تلك “الذات الخالدة” التي ستطل عبر الكلمات والرسوم في لعبة مرايا. حتى التمعن في قراءة “اعترافات” القديس أوغسطين، لم يمكنها قبل بترارك بزمن طويل أن تسبغ عليها ذلك الطابع الإنسانوي الذي كان قد غاب منذ مغيب الفكر الإغريقي. ولعل واحدة من السمات الأساسية التي وسمت فكر النهضة الأوروبية كانت عودة الذات لتطل من خلال ضروب الإبداع، تلك التي تجلت في “الجرأة الجديدة” التي مكنت المبدع من أن يتحدث عن ذاته ولو أول الأمر من خلال الآخرين فتتجلى لعبة المرايا بأصفى ما يكون. تمهيد لكتابات كاستليوني هكذا صار بترارك، من خلال لعبة مرايا الذات التي تبدت لديه خجولة أول الأمر. إذ مارسها من خلال آخرين لعل أهمهم شيشرون في قصيدة “أفريقيا”، صار مؤسس تلك الفلسفة الجديدة: الفلسفة الإنسانية، تلك التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون تأمل الذات والعالم وأحواله، وأحوال الإنسان فيه، إضافة إلى إعادة النظر في ما أنتجه الإنسان نفسه من فنون وآداب ونصوص تاريخية وعلمية. والحال أن كتابات بترارك كلها لم تكن أكثر من محاولات في إعادة النظر بالإنتاج الفكري الذي سبقه وكما وصل إليه، بالإضافة إلى إعادة الاعتبار لموقع الإنسان فيه وهو بعد يمكن القول إنه كان في ذهن “بالداسار كاستليوني” وهو يكتب نصه الرائع عن “رجل البلاط” والصفات التي يتعين أن تكون صفاته. في عودة إلى بترارك هنا لا بد من أن نذكر ما قيل دائماً من أن “أفريقيا” ليست تاريخاً لحرب روما ضد قرطاجة، بقدر ما هي إعادة تحليل لشخصية بترارك من خلال تحليل لشخصية شيشرون، قد تصلح حتى نموذجاً لإعادة تحليل أبطال “الالياذة” و”الأوديسة”. ودائماً على ضوء المذهب الانساني الجديد. كتابة الذات من المعروف أن بترارك ولد في آرزكو بايطاليا العام 1304، ومات فيها بالقرب من بادوفا العام 1374، وقد أولع بالكتابة منذ صغره ودرس، كما أسلفنا عبر السفر والتجول. كان لغرامه بالشابة لورا، المعادلة لبياتريس دانتي، أثر كبير في حياته، حيث إن قصائده الموجه إليها، وما فيها من وصف مثالي للحب، تعتبر من العناصر المؤسسة لفلسفته الإنسانية. ولئن كانت قصيدة “أفريقيا” أشهر أعمال بترارك فإنه خلف الكثير من الكتب أيضاً، ومنها “أمور لا تنسى” و”رجال شهيرون” و”جهلي وجهل كثيرين آخرين” و”سرّي” و”راحة الرهبان” و”عن حياة الوحدة”. وحسبنا بالطبع أن نلقي نظرة على هذه العناوين لندرك كم أن بترارك توخى من أدبه أن يكون لعبة مرايا وكتابات حول ذاته فتحت الآفاق واسعة لولادة كتابة الذات في تاريخ الأدب. المزيد عن: إيطاليا\الإلياذة\الأوديسة\قصيدة أفريقي\اهنيبعل\شيشرون 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل نصحت فرنسا مرشح “حزب الله” بالتواصل مع السعودية؟ next post الآشوريون يستحضرون الطقوس التاريخية للاحتفال ببداية السنة البابلية You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024