مشهد من فيلم "ميلانكوليا" (2008) (موقع الفيلم) ثقافة و فنون مخرج “ميلانكوليا” الدنماركي “انتحر” سياسيا وعاش إبداعيا by admin 12 مارس، 2025 written by admin 12 مارس، 2025 17 فون ترير أثار أزمة في دورة قديمة لمهرجان “كان” عندما ندد بإسرائيل غير مُبالٍ بأن يعد “نازياً” اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب هي من جديد الصورة/ الأمثولة. فالفيلم الذي هو الغابة في أمثولتنا هنا، من المؤكد أنه سيكون عملاً كبيراً، لكن الحماقة، التي هي الشجرة، ستكون بالتأكيد غير متوقعة، وقد يحدث لها أن تخفي الفيلم. وهذه المرة، في دورة بات عمرها قرابة عقدين من دورات مهرجان “كان” السينمائي، لم يتخلف صاحب الدوغما 95 عن عادته. فكانت هناك الغابة وكانت هناك الشجرة، لكن الأمر بدا أسوأ من أي وقت مضى. ذلك أن “حماقة لارس فون ترير” فاقت تلك المرة كل ما كان في الإمكان توقعه: طاولت خطوطاً حمراء، في تصريحاته وليس في الفيلم طبعاً، حين في معرض تنديد المخرج الدنماركي بإسرائيل وهو ما لم يجادله فيه أحد، أضاف أنه يفهم هتلر وقد يتعاطف معه إنسانياً و”إذا شئتم أن تقولوا إنني نازي فأنا نازي”. بالنسبة إلى هذه العبارة الأخيرة كان من الواضح أنه يمزح بسماجة ويستفز بحمق، لكن الآخرين لم يريدوا أن يفهموا هذا، بخاصة أن التنديد بإسرائيل كان من جانبه جاداً وحاسماً، فكان ما كان مما بات معروفاً ولن نعود إليه هنا إلا بمقدار ما يتعلق بالشجرة التي حجبت الغابة. والغابة كانت، هذه المرة أيضاً، رائعة. كانت فيلماً كبيراً يعود فيه لارس فون ترير إلى سينمائيته المجددة والمميزة والشديدة الخصوصية. كان الفيلم، وبكل تأكيد يستحق السعفة الذهبية في ذلك العام، ولو مناصفة مع الفائز بها، أي “شجرة الحياة” لتيرنس ماليك. عائلة للبداية وعائلة للنهاية والحال أنه لئن كان “شجرة الحياة” يعود إلى بداية الكون من خلال حكاية عائلية بسيطة، فإن “ميلانكوليا” يتحدث عن نهاية الكون، إنما من خلال عُرس. ونهاية الكون هنا بالمعنى الحرفي للكلمة. والعروس هي جوستين إحدى شقيقتين ينقسم الفيلم بينهما بالتساوي، إذ يتألف من قسمين يحمل أولها اسم جوستين، فيما يحمل الثاني اسم الشقيقة الأخرى كلير. في القسم الأول لدينا العُرس بدءاً من توجه جوستين إلى القصر، حيث يقام الاحتفال وسط صخب العائلة والأصدقاء، لكن العروسين سيصلان متأخرين لأن الليموزين المبالغ في طولها على الطريقة الأميركية، تعجز عن الالتفاف وسط طرق الغابات، ولكن هذا التأخير الذي يقلق الجميع في الانتظار لا يبدو أنه يثير قلق العروس. فهي منشغلة البال بأمور يبدو زواجها أقلها أهمية، أما الأكثر أهمية فهي نهاية العالم، إذ نراها تتمسك بما بات البعض يتوقعه من اصطدام حتمي لكوكب آتٍ من الفضاء الخارجي يدعى “ميلانكوليا” (الكآبة). بالنسبة إلى المتوقعين سيكون الاصطدام خلال أيام وسيقضي على العالم كله. بوستر فيلم “ميلانكوليا” (موقع الفيلم) هموم بسيطة أخرى وطبعاً لن يأخذ أحد، باستثناء جوستين، الأمر على محمل الجدية، بل إن جوستين نفسها لا تبدو مرتعبة. فهي أصلاً تتوق إلى النهاية ومن دون أن يخلف هذا لديها مرارة، فتتصرف على سجيتها في الاحتفال وتراقب أحوال من حولها، ولا سيما ما يدور بين والديها المطلقين (الأب عابث شديد السخرية والأم صارمة إلى حد كبير)، والسخافات التي يقترفها رب العمل، وسمات الشر البادية لدى صهرها زوج كلير، ولا سيما تصرفات كلير التي تبدو على عكس جوستين محبة للحياة معتقدة أن هذه ستدوم إلى الأبد. وفي القسم الثاني من الفيلم وهو المتركز إلى حد ما من حول كلير، سينقلب هذا كله: تدور أحداث هذا القسم بعد أسابيع قليلة من يوم العُرس. الآن بات واضحاً أن جوستين كانت محقة في تصديقها النبوءة. فالكوكب القاتل يقترب بحيث لم تعد تفصل الأرض عن النهاية سوى أيام قليلة. وبالطبع هنا، لأننا في فيلم لمخرج كبير ولسنا في واحد من تلك الأفلام الخرافية العلمية الأميركية التي تصور نهايات متخيلة صاخبة للعالم مع مؤثرات بصرية ضخمة وألوف الكومبارس وشتى آيات الخراب والصراخ والدماء وما إلى ذلك لأننا في فيلم تأملي عميق، لن نرى النهاية إلا بصورة هادئة من خلال شخصيات في حديقة القصر تحت كوخ خشبي بسيط بني تحقيقاً لرغبة الفتى ابن كلير. غير أن هذا كله ليس هو المهم هنا: المهم بالنسبة إلى الفيلم، “دراسة” رد فعل الأختين على ذلك الحدث قبل وقوعه. فإذا كانت جوستين تتقبل الأمر منذ البداية، أي في القسم الأول من الفيلم، بشيء من الهلع والاكتئاب فيما أختها تُسرِّي عنها نافية التوقع مقبلة على الحياة. فكلير تقدم إلينا منذ البداية حبورة حنوناً تعيش حياتها بهدوء على عكس كلير التي تبدو خلف قناع الحبور قلقة متطرفة في ردود فعلها (وسنفهم تدريجاً أنها ليست خائفة من النهاية بقدر ما هي قلقة من عدم حدوث النهاية). أما القلبة التي تحدث في الجزء الثاني، فهي في الأساس تطاول تصرف الشقيقتين. إذ هنا وأمام النهاية الحتمية تبدو هذه النهاية منشودة دافعة إلى هدوء تأملي مريح لدى جوستين وإلى رعب حقيقي في المقابل لدى كلير. متعة من المبدع الملعون واضح هنا أن كلاً من الشقيقتين تمثل جانباً من تناقضاتنا الداخلية ليس فقط إزاء حدث حاسم كهذا الحدث الكبير. أما السؤال الوجودي الذي يبني عليه المخرج/ الكاتب فيلمه كله فإنه يكمن في تعلقنا بالحياة أو بالموت وفي عبثية هذا كله. في عبثية الوجود الإنساني. غير أنه من الصعب أن نبحث في فيلم للارس فون ترير عن معنى أو عن مغزى أخلاقي. فالحقيقة هي أنه، ومهما كان من شأن هذا المعنى وعمقه الفلسفي وأسئلته الحاسمة، يظل الأساس بالنسبة إلى سينما فون ترير أساس فرجة وإن حمل هذه الفرجة قلقاً واعتراضات وصراعات واستفزازات صارت كلها علامات على سينما تريد في كل فيلم، وليس في المنظومة المتكاملة للمبدع ككل، أن تعيد بناء الكون والأسئلة الكبرى (أخلاقية كانت أو وجودية أو جمالية أو فلسفية) من جديد. إنها سينما تريد أن تحل نفسها بديلة للإبداع البشري ككل في كل فيلم. ولعل في هذا يكمن سحر أفلام مثل “تحطم الأمواج” و”راقص في الظلام” و”دوغفيل” و”ماندرلاي” وغيرها من أعمال عرف فيها لارس فون ترير كيف يجدد، ليس في مواضيع السينما والفن وحسب، بل كذلك، في الصور السينمائية بجرأة شديدة التنوع (والاستفزاز بالتالي) بين ما هو أخلاقي وجنسي وشكلي من إدارة ممثلين في شكل يطلع بأفضل ما لديهم، ولا سيما النساء منهم حيث نعرف أن فنانات غير متوقعات الأبداع السينمائي (مثل بيورك وشارلوت غينسبورغ وكرستن دانست هذه المرة، طلعن دائماً بأسمى الجوائز في أدوار لهن في أفلامه) إلى الاستخدام المؤسس للموسيقى (هنا بخاصة موسيقى فاغنر في افتتاحية “تريستان وايزولت” التي يفتتح الفيلم عليها على خلفية صور ومشاهد تبدو كما جرت العادة في سينماه، غير ذات علاقة مباشرة بالسياق الموضوعي التالي للفيلم). أو في السابق في أفلام أخرى حيث ينهي، مثلاً، أفلاماً له مثل “دوغفيل” و”ماندرلاي” على مثل تلك المشاهد التي توصل لعبة الفرجة، وليس بالضرورة لعبة استيعاب الفيلم، إلى ذروة نادرة في تاريخ الفن السينمائي، وصولاً إلى التوليف الذي يتخذ لديه ديناميكية مدهشة، والتصوير الذي حتى في خلفية ضخامة الفيلم، بل وكلاسيكيته في بعض الأحيان يبدو يدوياً وبحد أدنى من الإضاءة كأثر من ابتكاراته الشكلية التي جمعها في بيان” دوغما 95″، لكنه بات قليل التقيد بها على أية حال. فيلم سيعيش ما عاشت السينما كان هذا كله الغابة التي من المؤسف أنها اختفت تماماً خلف تلك الحماقة التي كانت عليها الشجرة. فجعلت كثراً يلعنون هذا المخرج الملعون أصلاً، لكن المشكلة هذه المرة كمنت في أن لعنة لارس فون ترير المتوقعة دائماً في صورة أو بأخرى، طاولت الفيلم وليس فقط صاحبه. ومع هذا يمكننا منذ الآن أن نراهن على أن هذا الفيلم الكبير والتأسيسي، سيعيش طويلاً، وسيبقى حاضراً في تاريخ السينما والفن كما في ذاكرة الفكر الإنساني. ولزمن طويل بعدما تنسى حماقات مبدعه وينسى غضب مناوئيه الذي لا بد من القول إنه بدا مغالياً إلى حد لا يطاق. أما بالنسبة إلى المشاهدين الأكثر حباً للسينما والأقل اهتماماً بقمامة التاريخ السياسي، فإن نهاية العالم على طريقة “القديس” لارس فون ترير أتاحت لهم متعة فنية حقيقية وليس خلال ساعتي الفيلم فقط. المزيد عن: مهرجان كان السينمائيالمخرج تيرنس ماليكالمخرج لارس فون تريرالنازية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الإنجليزي ستيفنسون في “أدغال فرنسا”: مغامرات العمر next post الجزار فقأ عين كبير مستشاريه حاييم اليهودي خوفا من أطماعه You may also like محمود الزيباوي يكتب عن: ثلاث قطع نحتية من... 12 مارس، 2025 الجزار فقأ عين كبير مستشاريه حاييم اليهودي خوفا... 12 مارس، 2025 الإنجليزي ستيفنسون في “أدغال فرنسا”: مغامرات العمر 12 مارس، 2025 كوميديا رمضان… ضحك طازج وآخر منتهي الصلاحية 12 مارس، 2025 أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق 11 مارس، 2025 ريتشارد باورز في جحيم عالم الذكاء الاصطناعي 10 مارس، 2025 كيف يستوحي شعراء الحداثة أبعاد التراث الديني؟ 10 مارس، 2025 مهى سلطان تكتب عن : عبد الحميد بعلبكي... 10 مارس، 2025 “المنتفضون” لغوته… نظرة خارجية إلى الثورة الفرنسية 10 مارس، 2025 متخيل الصويرة المغربية في الرواية العالمية 10 مارس، 2025