الشاعر والناقد المغربي محمد بنيس (صفحة الشاعر - فيسبوك) ثقافة و فنون محمد بنيس: على القصيدة أن تبقى مقاومتنا الدائمة بشموليتها by admin 22 يناير، 2025 written by admin 22 يناير، 2025 25 الشاعر المغربي يسرد تفاصيل رحلته الإبداعية والنقدية على حدود الخطر اندبندنت عربية / شريف الشافعي كاتب وصحافي “لا أحد يدلنا على جنوننا. كلما اندثر حلم أمسكت رغبة بنا. عطش يضيء. عطش يرتع في أعضائنا”. في ديوانه الأحدث “هواء بيننا”، كما في دواوين سابقة أيضاً للشاعر محمد بنيس، تقوده “كتابة المحو” التي تناولها نظرياً أيضاً في مؤلفه الذي يحمل العنوان ذاته، إلى ممارسة مغايرة لفعل الكتابة، ومعالجة مختلفة لفعل الحياة. بسؤاله عن هذا المحو، وما إذا كان وقود المغامرة التفجيرية للتجربة التي لا تشبه إلا نفسها، والمكابدة الصامتة، واللغة المتحررة من جمودها وسلطانها الزائل؟ وهل يشكل هذا المحو “كلمة السر” لنبش المسكوت عنه في خزائن الذات والآخر، والإنصات التأملي لما هو صادق، حلماً كان أو جنوناً أو رغبة أو عطشاً مضيئاً أو غياباً دالاً أو موتاً معبراً؟ يجيب الشاعر محمد بنيس بقوله، “كنت استعملت أول مرة كلمة المحو عام 1988، في نص كنت نشرته في مجلة عالم الفكر، بالكويت. هي كلمة مستخلصة من تجربتي الشخصية، حيث تشتغل الكتابة على “محو كل ما يمكن أن تؤول به إلى نهاية معلومة عند الكتابة والقراءة”. ذلك يتجسد في الاستشهاد بهذه العبارة من ديوان “هواء بيننا”. نعم، إن المحو هو هذا الفعل الملازم للكتابة التي تنتهي لتبدأ من داخلها لا من خارجها، مهما كان هذا الخارج. هي الرحيل من الذات إلى الكتابة ومن الكتابة إلى الذات. هذه الذات التي هي سر الكتابة، وهي الطاقة التي لا حد لها، في الواقع كما في الخيال”. ديوانه الجديد “هواء بيننا” (منشورات المتوسط) ويستطرد بنيس، “كان لا بد لي، من شجاعة ما لكي أتبع هذه الطريق، طريق المحو، التي تفتح الطرق الألف للإنصات بالأذن الثالثة. هناك، حيث المدهش والمهلك معاً يتآلفان ويمضيان إلى حيث لا نلتقي به إلا في الكتابة، لا قبلها ولا بعدها. عندما وجدت نفسي وجهاً لوجه مع ’المحو’، لم يبق لي اختيار غير السير على هذه الطرق الألف، طرق اللانهاية، في الحياة والموت على السواء. تلك هي الكتابة على حدود الخطر. بها وفيها تتبدل العلاقة مع القديم والحديث، مع العربي والغربي، مع الممارسة النظرية والممارسة النصية، مع الذات والآخر. هناك فقط يكمن ما كتبت (وما لم أكتب). ليست هذه لعبة بلاغية، أبداً. هي معرفة القصيدة، التي تدرك حدود زمنها الضيقة وتختار المتاه والهذيان، من أجل استكشاف ما نحس (بحواسنا الخمس) فينا وحولنا، على طريق العطش الذي ينادي باستمرار على العطش”. رفض الاستنساخ “برفق ننظر، بعضاً إلى بعض، كما لو كنا في المرآة ننظر، إلى ما لا يشيخ، إلى الهواء بيننا”. بشعريته الصافية المقطرة بحرصها على الخلاصات، يواصل محمد بنيس في ديوانه الجديد مشروعه الحداثي الريادي، مازجاً اليومي القريب المباشر بالفلسفي العميق والوجودي الكوني، في مشاهدات وتساؤلات مكثفة تكتشف الإنسان جوهراً ومعنى وحقيقة وإرادة. هكذا يطرح السؤال ذاته: كيف لوجوه القصيدة الواحدة أن تتنوع على هذا النحو في النص المختزل، فتنفذ اللقطات العابرة التي تصور المواقف والمشاهد، إلى ما وراء الأسطح الخارجية للأشياء، راسمة رؤية شاملة كبرى للذات والآخر والعالم معاً؟ أي سحر للمرآة التي ينظر فيها الشاعر فيرى ما لا يرى غيره؟! وهل في نظرته هذه ما يفوق الفلسفة؟ فاس العريقة مدينة الشاعر التي كتب عنها (صفحة فاس – فيسبوك) في إجابته، يقول الشاعر محمد بنيس الحاصل على جوائز عالمية مرموقة، منها جائزة كالوبيتزاتي لأدب البحر الأبيض المتوسط (إيطاليا)، وجائزة سلطان العـويس الثقافية (دبي)، وجائزة ماكس جاكوب للشعر الأجنبي (فرنسا) وغيرها، “إنها تجربة الكتابة. كلمة تجربة حروفها محدودة، لكنها تختزن مسافات بعيدة لا نراها بيسر، عندما تكون الكتابة مجرد تعبير. ذلك ما تتبعت أثره نحو المفاجئ والمدهش، في التركيب النحوي كما في محو التعبير. لا أكتم أن هذه الممارسة كانت متعددة الأضلاع، تقاطع فيها التعرف على حداثة الشعر العربي مع ملازمة الشعر الغربي، حديثاً وقديماً، فيما كانت لي مصاحبة وحوار مع نخبة من الشعراء والفلاسفة والفنانين المعلمين. القصيدة، بالنسبة لي جهد معرفي، أقبله وأقبل عليه بطيب خاطر. أليست القصيدة هي الفردي الذي لا يشبه ولا يتشبه؟ ثم في العزلة عثرت على مأواي. لذلك فإن العلاقة بين الذات والآخر، تشف كلما جعلنا من الصمت سلوكاً يبلل الخلايا، ينقلنا من الضجيج إلى الصفاء، باسم القلق واللايقين”. ويوضح، “أقصد بذلك أن حياتي الخارجية اليومية بأعاصيرها وغبارها، بدمها وندوبها، أقاومها بهذا الصمت، صديق الكتابة. به وفيه تنزل الكتابة إلى الطبقات السفلى، إلى أسفل الأسفل، حيث الحياة والموت يتجاوبان في بارقة هي اسم الشعر بامتياز، وحيث القصيدة تنفصل عن سواها. هناك، في الصمت، وفي الإنصات إلى الخفيف، الهواء، الذي لا أحد يراه، يتبدل خارج الأشياء مدارات لا نهاية لها، تلمع في كتابة تكتفي بكثافة البرق، هي المجهول، وهي الرقص ذاته. بهذا نأيت بكتابتي عن استنساخ خطاب التصوف كما سعيت إلى بناء رؤية شعرية، من الكتابة تأتي، لا من التصوف ولا من الفلسفة. تلك هي تجربة الكتابة التي من داخلها تنتج معرفتها الذاتية أي إنها مستقلة بذاتها، فيما هي سعيدة بالضيافة، ضيافة اللغات والمعارف الأخرى. كان تعلم الثقافة الشعرية صعباً وقاسياً. التعلم بمعنى معرفة حدود القصيدة في زمن ينفي عن القصيدة حدودها مثلما ينفي ضرورتها”. أفعال التحرر كتاب للشاعر (دار توبقال) “في أعماق الهواء، يلتقي أحدنا سواه، فيما نحن نمد يداً خفية إلى أنفسنا”. في نصوص بنيس تتعانق الشعرية الخام، الموجودة بذاتها، مع الزخم الثقافي والخبرة المعرفية والحدس الصوفي المستشف أيضاً، في شذرات شعرية تصل بنقائها الرائق إلى استلاب الحواس وليس مجرد مخاطبتها. هل القصيدة ببساطة هي رحلة نحو بلوغ الماهية؟ وكيف تطرق اليد الخفية المصبوغة ببياض الحروف، بوابة العمر المؤجل، لتبدد “ما تقسو به الحياة”؟ وهل بإمكان القصيدة أن تتحول إلى شفاء، ولو افتراضي، من المآسي والأهوال والحروب والإخفاقات المحيطة، ويصير الشاعر زارع بشارة الحياة في الأرض؟ يشير محمد بنيس إلى أن القصيدة لا تبدد “ما تقسو به الحياة”، بل تصر على أن تراه خارج الأمل واليأس من أجل مقاومته. “الحياة تجربة أي إنها ليست مكتوبة بيد إلهية (أو شيطانية) على جباهنا قبل أن نولد. كل شيء فيها مسطر بقلم مداده دامغ، محفور بالحديد المحمى على الجسد. أن يلتقي أحدنا سواه هو القدرة على مقاومة ما لا قدرة للنفوس الضعيفة على مقاومته. لنغادر الوحل، لنرتفع قليلاً إلى أعلى إلى هواء الجبل أو إلى أعماق الهواء. نداء لكل واحد منا، تتقاسمه القصيدة مع النفوس الحرة التي تخترق الزمن – الأزمنة لتلتقي هناك في الصفاء، متخلصة من العبودية المتعددة التي تجعلنا ثقافة النافع نستسلم لها. ما أطول الحياة، ما أقصر الحياة! هل هو لعب مجاني بالكلمات؟ لننتبه! بهذا تكلم نفسي نفسي”. يستطرد الشاعر المغربي، “كنت في ديوان ’نهر بين جنازتين’ قد اختبرت الهبوط إلى الأسافل، أسافل النهر، ثم في الديوان ما قبل الأخير ’يقظة الصمت’ عشت تجربة الإنصات إلى العالم في زمني. لكنه إنصات فاعل، متأمل، متحرر من المسبقات التي أثقلت القصيدة وأوقعتها في شرك اليأس أو الأمل. لكن القصيدة المضادة للضجيج (الشكل الفوري للتعبير الذاتي، كما يكتب ميشيل فوكو)، تتعلم بدورها كيف تبـني، من داخل إيقاعها الذاتي، رؤيتها الخاصة. وفعلها نفسه يدل على الصعود إلى الهواء في نقائه الكلي. لا أظن أن هذا النداء يستبطن منطق البشارة. هو، بالنسبة لي في الأقل، فعل مقاومة، كما ذكرت من قبل. عندما ننظر إلى ما يعيشه العالم ندرك مدى الطاغوت الذي يسيجنا، نحن الذين نعيش في هذا العالم. بهذا، على القصيدة أن تبقى في مكانها، مكان المقاومة، بلغتها ورؤيتها الذاتية. تلك هي اليد الخفية، اليد الثالثة التي تنادي عليك وعلي، لنمسك بالصفاء، صاعدين إلى أنفسنا، ونحن ’نمد يداً خفية’، منخطفين بالنشيد”. بين الصداقة والمغامرة ديوان آخر (دار توبقال) يقول نيتشه، “كن لصديقك كالهواء الطلق”. قصيدة محمد بنيس، دائماً وسيط صديق وهواء صديق وطقس دافئ. وثمة شعراء تكون قصائدهم وأطروحاتهم النظرية أيضاً قطيعة مع التراث والحاضر وفراغاً ونحتاً لغوياً متعسفاً. كيف تمكنت قصيدة بنيس من حل تلك المعادلة الصعبة، بتفاعلها الخصيب الحيوي مع المتلقي الصديق، وكسرها أفق التوقع الجاهز، في الوقت نفسه خالقة الصدمة والدهشة، وماحية السهل والمجاني من الموروث الشعري العربي ببلاغياته وبيانياته وخطابه المعد سلفاً؟ يوضح محمد بنيس في إجابته، “شكراً على الاستشهاد بهذه الكلمة اللامعة لنيتشه الذي كنت تعرفت أول مرة عليه وأنا في بداية الشباب، عام 1965، من خلال كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، بترجمة وتقديم فليكس فارس مع رسالة من توفيق الحكيم إلى المترجم، منشورة على الوجه الرابع للغلاف، في طبعة صادرة عن منشورات المكتبة الأهلية، في بيروت (بلا تاريخ). كانت قراءة هذا الكتاب حدثاً في حياة الشاب الذي كنته، ومنذ ذلك الوقت جعلت من نيتشه معلماً كبيراً. كلمته تحمل رؤيته للصداقة التي تشع باتجاهات متعددة، وأنا أفرح بها. لكن، بعيداً من نيتشه، فسؤالك يحرضني على توضيحات مختصرة. أنا من بين الذين عايشوا الحركة الشعرية العربية الحديثة منذ أواسط الستينيات. مرحلة طويلة وخصبة قطعتها الحركة الشعرية بعنفوان لن يتكرر، لأنه خصيصة زمنه. دواوين واتجاهات وتنظيرات. كل ذلك أعطى للشعر حضوره وفعله في تحديث الثقافة العربية لما بعد نكسة 1967. وأنا تعلمت كثيراً من الشعراء الكبار، من أعمالهم ومن تنظيراتهم وأحاديثهم. ثم جاءت مرحلة الصداقة والحوار مع معظمهم، بهذا القدر أو ذاك. لكني في الوقت نفسه اشتغلت في دراستي الجامعية على الحركة الشعرية مغربياً وعربياً. أخلص من ذلك إلى ما كان مستعجلاً في حالتي. هي مغربيتي، أقول. من يتتبع كتاباتي سيعرف القصد. مغربيتي علمتني أن أسأل، لأني وجدت نفسي أمام الأبواب المغلقة. وفي السؤال عشت ما هو معروف وما لن يعرف. ذلك السؤال كان مفتتح البحث عن قصيدة ليست مكتوبة بيد الآخرين. عن قصيدتي التي اختارت العزلة. كنت أنصت إلى الضجيج، ثم أتركه حيث هو وأمضي في تجربة الكتابة بما هي مغامرة، متحرراً من الخضوع لمنطق النجاح والفشل”. محمد بنيس خلال تسلمه جائزة ماكس جاكوب الفرنسية (صفحة فيسبوك) ويضيف، “قصيدتي هي التي تعنيني، الآن. كنت عبر السنوات أجمع بين التعلم من الكبار حديثين وقدماء، عرباً وغير عرب، وبين الممارستين الشعرية والنظرية. وعبر لقاءات عربية ودولية، كنت شيئاً فشيئاً أتخلص من أي يد غير يدي. كان السؤال وكان التعلم من القراءة والصداقة والحوار. لا سر لي. بالسؤال، بالتعلم والممارسة، بقبول العزلة، بالصمت، كنت أجلس كل صباح للكتابة. لن أقول إني وصلت. أحدق في الأصعب، وأتابع كتابة القصيدة. بلا ندم. في زمن مضاد للشعر. لا أخفي شيئاً عن نفسي، في اللقاء مع الآخر، القارئ. كنت أدركت، منذ البداية، أن القارئ الصديق بعيد عني، بعيد خلف جبال وبحار لن أعبرها، لكني، بالكتابة وفي الكتابة، تقاطعت معه، هناك وهنا، حيناً بعد حين”. زمن النزف الدموي في مداراته التجريبية، منذ ديوانه الأول “ما قبل الكلام” (1969) حتى يومنا الحالي، يخلص محمد بنيس بالشعر كقيمة جمالية مجردة من شرك الاحتفال بالسياسي ومأزق الانقياد إلى الأيديولوجي. ولكن ذلك لا يعني الانفصال عن المشهد بطبيعة الحال، إذ تخطو القصيدة إليه دائماً بنزفها المشحون بالتراجيديات الأبدية، ليتحد نزفها المتجدد “بنزف قديم يتدفق داخل الشاعر”. اليوم، في خضم النزف الدموي المتنامي في الشرق الأوسط، ومناطق النزاعات المسلحة المتعددة في الكوكب الأرضي، يبدو السؤال مهماً وضرورياً: هل ثمة ارتباكات يمكن أن تستشعرها الكلمة الأبجدية عموماً إزاء العجز عن إسكات لغة العنف والقتل والبارود؟ وما موقع قصيدة محمد بنيس الراهنة من الجرح بعد اتساعه إلى هذا الحد اللامعقول؟ عن ذلك، يجيب محمد بنيس بقوله، “وقفت، أنصت، ورأيت وأنا صغير، في عهد الاستعمار، بفاس، تظاهرات الوطنيين، مطارداتهم، إغلاق الجنود الفرنسيين أبواب الأحياء، إحراق سوق القيصرية. ولأني كنت أتعلم من الشعراء العرب المعاصرين كتابة قصائدي الأولى فقد كان طبيعياً أني كنت أرى في قصيدتهم نموذجاً لما كنت أرغب في كتابته. في باريس التي زرتها أول مرة خلال صيف 1968، كان لي حظ أن أقترب من حركة ماي. وفي سنوات الجامعة شاركت الطلاب اليساريين أحلامهم وأفعالهم. تلك الجامعة الموازية هي التي تربيت فيها على المعنى السياسي للحرية. ذلك كله علمني كيف تكون قصيدتي في العالم ومع العالم. على هذا النحو، اختارت قصيدتي، لاحقاً، طريقتها في الوقوف، الإنصات، الرؤية. ديوان “نهر بين جنازتين” بالترجمة الفرنسية (فناك) ما يعيشه الشعب الفلسطيني، أولاً، من عذابات الاحتلال الإسرائيلي ومن مآس، وآلام العدوان، ثم الشرق الأوسط، وبقية العالم العربي، في مقدمة ما يفرض على القصيدة أن تقف، تنصت وترى. دوار عصي يخلع، الآن على غرار ما قبل الآن، الكلمات من أمكنتها الاعتيادية. أشرت في السطور السابقة إلى ديوان “يقظة الصمت”، الذي هو إنصات للمكان، لأصوات المكان – المتعدد. من بين قصائد هذا الديوان “أرض بدماء كثيرة”، عن غزة 2018، التي كان فيها الفلسطينيون، عبر مسيرات العودة، يقفون كل جمعة أمام الجدار الأمني مطالبين بحريتهم، فلم يتردد الجيش الإسرائيلي من قتل وجرح عديد من بينهم. ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن “صفقة القرن” عملت على تأليف كتاب “فلسطين، ذاكرة المقاومات”، صدر في بيروت ـ الدار البيضاء، سنة 2021. وفي السنة التي ودعناها منذ أيام فحسب، كان لي عمل شعري مع فنانة مصورة فرنسية عن دمار غزة”. “هو زمن النزف الدموي، يضيف بنيس الذي واجهه الفلسطينيون منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. دم يسيل على امتداد زمن طال كثيراً. مأساة كبرى في القرن الـ20 وتستمر مع بداية القرن الـ21، وقد تسبب فيها وأوغل السادة الغربيون الأقوياء، المتفاخرون بالدفاع عن الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. لذا، ليس للقصيدة سوى أن تقف كما وقفت، تنصت وترى. مكان المقاومة هو مكان القصيدة. هو مكان حضورها، في الزمن، ضد الزمن. وفيه نشاهد غزة ونشهد على حضور المقاومة الفلسطينية التي ظلت، لما يقارب 16 شهراً، راسخة في تراب أرضها، يعضدها أهلها الذين اختاروا البقاء في أرضهم، أشجاراً (تحيا أو تموت) واقفة، كما كتب الشاعر معين بسيسو. وللعنف صيغ ووجوه لا نعرف بعد القادم منها. ما يشدني إلى القصيدة هو الوفاء للقصيدة. أعرف أن العزلة ستشتد. لكن، هناك، في العزلة المضاعفة، لن تستشير القصيدة أحداً لأنها لم تستشر أحداً قبل الآن”. تمجيد الحياة كتاب نقدي فكري (دار توبقال) يأتي الغضب والرفض والاحتجاج في نصوص بنيس من منظور غير نمطي، شأن كل ظواهره الشعرية. ففي “يقظة الصمت”، يفعل هذا الصمت المؤثر الإيجابي ما لا يقدر أن يفعله الصراخ الفج المباشر، ويحل ما هو هامشي ومنسي ومهجور بديلاً عن المتون الزائفة في الواجهة. بسؤاله: هل بهذا المنظور أيضاً يمكن التسلل إلى كائن الموت الذي يسكن كثيراً من نصوص “نهر بين جنازتين”، وغيره، من دون خوف من ملاقاته؟ وهل محبة الحياة ترويض لهذا الموت ليكون كائناً أليفاً يمكن التعامل معه، أم إن استئناس الموت هو الفعل اللازم لإعادة فهم الحياة التي يتلاشى ربيعها سريعاً؟ يجيب الشاعر محمد بنيس في حواره هذا، قائلاً “لنمجد الحياة. هذا ما تكتبه القصيدة. موسيقى في الصباح تمنحك لذة الكلمات، وردة بيد فتاة ترقص في الهواء الطلق، كسرة خبز تنعش الأعضاء، جلوس هادئ أمام أمواج البحر، يد في يد مع غريب لن تراه مرتين. هكذا، كل من يحب الحياة لا يترك الخوف ينهش عشقه لها. ورغم أننا نعيش زمن انهيار (وخيانة) القيم الإنسانية الكبرى، كما تبدت للمظلومين والمناصرين لهم في الحرب العدوانية على غزة، فإن لغة المقاومة كانت تمجيداً للحياة. أعود لأقول: تحتاج القصيدة، قصيدتي، إلى التمسك بمكان المعرفة بقدر ما تتمسك بمكان العزلة. في مثل هذه الفترة، المدمرة لعقود من مقاومة الاستعمار والاستبداد، تسر إلى القصيدة، “إما أن أكون أو لا أكون”. مرت علينا، في المشرق كما في المغرب، فترات كان المدمرون يتباهون بتدمير كل ما تحبه الشعوب وتسعى إليه. أوضح من ذلك، لنا من التاريخ القديم ما لا نسكت عنه، دماً ومآتم”. ويقول “تمجيد الحياة هو الوقوف حيث يجب أن نقف، قريبين من فعل المشاة الذين من الجسد يبدأ كلامهم، وفي النشيد يلتقون. نحن شهداء على نهاية فكرة ولكنها ليست نهاية تاريخنا ولا نهاية شعوبنا. لا شك. سيصبح الممجدون للحياة مهجورين، وحيدين في منافيهم. لكن الحياة أقوى، وهي باقية، هنا، بنا وبالقادمين بعدنا. تلك هي طريق القصيدة التي تستأنف الوعد، بصوتها الشخصي، وهي تدرك الذي يكون لنا دماراً متواصلاً لكي وحده لا يكون”. استكشاف الأزرق تجربة الزرقة الشعرية (دار توبقال) “لم أعد أذكر متى جاءني الأزرق، وتحت شجرة الصمت ظل يهدل”. كثر تناولوا تأويلات اللون ودلالاته في ديوان “هذا الأزرق” لمحمد بنيس، مبحرين في المرئيات العينية والمعاني الكونية والعوالم المجهولة وغيرها. وبسؤاله عما إذا يرى أن الأهم من تلك التأويلات والدلالات هو التوقف عند رغبة الشعر نفسه لديه في أن يكون تشكيلاً أو موسيقى، متخطياً محنة اللغة ومحدوديتها التوصيلية، وطامحاً إلى مزيد من التجريد وبلوغ الحالة “كما هي”، وليس بتوصيفها من الخارج، اتساقاً مع عبارته الشعرية “الأزرق واللحن معاً يطلان من نافـذة ليست نافذة. يظهر الأزرق من خلف كلمة يبحث اللحن عنها. أو اللحن بحريته ينسج بسيطة من الأزرق”؟ يجيب بنيس قائلاً، “غريب هذا الديوان، من بين أعمالي. تعلقت باللون الأزرق منذ شبابي. كنت كتبته في مقطع من قصيدة “الكلمة” المنشورة في ديواني الأول ما قبل الكلام. أتذكر جيداً كيف كتبت هذه القصيدة التي تتراءي لي، اليوم، كما لو كانت بياناً شعرياً (أرجو أن تعود لقراءتها). 25. 11. 1966، هو تاريخ الكتابة. كلمة بسبعة ألوان، تتحرك مع جهات الحياة، كما كنت أتخيلها. معنى ذلك أنني عثرت على “الأزرق” في القصيدة، قصيدتي. علي أن أقول هذا، وقد كنت آنذاك في مقتبل الشباب، حقاً: “لم أعد أتذكر متى جاءني الأزرق”، لأنني كنت في صباي أستمتع بمشاهدة السحاب في فصل الخريف، والأزرق كان في السماء كما كان في الزليج والفخار الفاسي. لكنه تحول إلى “أثر” عندما صادفته في تلك الصورة الصباحية التي تفتتح ديوان هذا الأزرق”. ويوضح، “هو ديوان العين التي ترى المادة، الأزرق، لتعبر أراضي المتعة، مجسدة في أمكنة ومشاهد. في الديوان تتفاعل الثقافات: العربية، المغربية، المتوسطية، الموسيقية، التشكيلية، في ما بينها. بهذا أشاركك الرأي وأسعد به. لأن خصيصة القصيدة تتطلب صبراً في القراءة كما تتطلب معرفة. سافرت في الأزرق بحواسي مجتمعة ومن دون تقسيط. اقرأ معي إن شئت، هذا المقطع “فجر”: “هذا الصباح يدي تذكرني/ بشيء/ لم تكن كتبت/ يد نسيت ظهور الفجر بين الحبر/ والزيتون/ وهي الآن ترمقه بأنفاس / تهجج صمتها/ من ترعة زرقاء ينزل/ فجري النيلي/ أعشاب تعود إلي/ صيحة من كسته سلالة لذة/ لا ترتوي أبداً/ تحاصرني بوشم/ أو لعلك غبطة بالسكر تحضر/ من هناك الغامض المزهو/ شيء/ ينتشي في العظم ما أحسست يحرق/ مركز الأوراق”. هذا واحد من مقاطع القصيدة الطويلة “هوامش القديس أوغسطين”. ويستطرد محمد بنيس، “هوامش (بالجمع)، أي ما لم يكتبه القديس أوغسطين (354، طاغست “سوق أهراس” ـ 430، هبو “عنابة”، الجزائر) في كتاب “الاعترافات”، عن عهده الوثني، قبل السفر إلى ميلانو سنة 386 واعتناقه المسيحية. الأزرق، هنا، درجة من درجات اللون، النيلي. وهو ما نجده في قصائد أخرى. بين اللون والموسيقى ينشأ الأزرق. والديوان، ككل، هو نفسه مبني بناء موسيقياً، ينتهي بحفل ونشيد”. ويضيف: “هكذا أخذتني الكتابة إلى الرغبة في استكشاف الأزرق في ماديته الملموسة (نحو الأزرق، من جهة المتوسط، مسرح الأزرق، داخل الخارج). و”هذا” في العنوان تنبيه على أن الأزرق في الديوان هو أزرق الكتابة، ما دام اللون الأزرق في الخارج المادي، الملموس (في الطبيعة، في اللوحات التشكيلية، في المدن، في الزليج والفخار، في النوافذ…) لا يبقى هو نفسه في الكتابة. بين الأزرق في الواقع العيني، خارج الكتابة، وبينه داخلها، هناك اللغة والذات الكاتبة. من هنا تصير الكتابة مادية، ويصبح التجريد لا التوصيف (أو شرك التعبير) ممكناً، حيث يخترق الشعر محدودية النثر إلى وضع القدم على عتبة المجهول في الذي تحسه الحواس الخمس. تلك هي الدهشة التي تخلقها القصيدة”. تجديد الثقافة… وابتذالها إلى جانب أعماله الشعرية، ودراساته التنظيرية، وعمله الجامعي، أصدر بنيس مع رفقائه من المثقفين مجلة “الثقافة الجديدة” عام 1974، التي تأسس على صفحاتها مشروع تنويري رصين. وبسؤاله في هذا الصدد، هل كان يرى ضرورة في أن يكون المثقف والمبدع العربي ملتحماً بدرجة أو بأخرى بالفعل الثقافي العام، وإلى أي مدى يبدو المناخ الحالي الذي تختنق فيه الحريات، مؤاتياً للإنجاز الإبداعي الهادف إلى التغيير وإحداث حراك منشود، على الأرض أيضاً، وليس فقط على مستوى الوعي والعقل والتخييل؟ يقول الشاعر محمد بنيس في هذا الشأن، “أعضاء ’الثقافة الجديدة’ كانوا مجنونين بالحرية والإبداع، في زمن عانى فيه التيار التقدمي من قمع الدولة لتشبثه بالديمقراطية والتحرر. زمن المواجهة السياسية (المقاومة) كان، أيضاً، زمن البحث عن الذات المغربية، كما تجلى في ممارسات إبداعية: الشعر، القصة والرواية، المسرح، الموسيقى، الفنون التشكيلية، السنيما. وكذلك في مجالات ثقافية مختلفة: الفكر، الفلسفة، النقد الأدبي، التاريخ، اللسانيات، الشعرية، السيميائيات، الترجمة. ثم كانت لنا، كشبان، أسئلتنا وكتاباتنا التي تحتاج إلى إطار خاص، مستقل عن المؤسسات السياسية، نتجمع فيه وننشر كتاباتنا. لذلك بادرنا بإنشاء المجلة التي تجاوب معها وشارك فيها جيل الشبان المغاربة، وكتاب ومفكرون ومبدعون. آنذاك كان العمل الثقافي اختياراً غير مشروط بالفائدة أو الامتياز. ما كنا نعمل من أجله أقصى من جميع الإغراءات والامتيازات. استطاعت المجلة أن تستمر 10 أعوام، قبل المنع، بالاعتماد، من الناحية المادية، على مواردها الذاتية فقط. وهو ما أسهم في المحافظة على استقلاليتها وأعطاها فرصة خلق حوار إبداعي وفكري، ببعده النقدي الذي يقتحم الموانع من أجل المساهمة في حركية ثقافية في المغرب، متفاعلة مع وضعها الداخلي، ومع محيطها العربي، ومداها المنفتح على العالم”. ويضيف، “نحن اليوم في زمن مختلف، من نواح متعددة. تأكيداً أن النموذج الثقافي الذي سيقبل عليه الجيل الجديد لن يكون كما كان، لا في العالم العربي وحده بل في العالم أجمع. هناك ابتذال معنى الثقافة اليوم ومعنى الأدب ومعنى الحرية. هناك التقنية وثقافة الإعلام والاستهلاك، مثلما هناك الثقافة الدينية. هذا هو المناخ المستبد الذي لا يترك منفذاً للحرية. أظن أن مرحلتنا كانت أقسى، بسبب ما كنا عليه من غياب الإمكانات إلى جانب المناخ المضاد للحريات. لكن مشكلات الثقافة العربية أعقد من انتصار التقنية ومن غياب الحريات”. قدم محمد بنيس في كتابه “الحداثة المعطوبة”، 2004، تصورات حول مواضع كثيرة للخلل الثقافي والسياسي والاجتماعي وللأعطاب التي ظهرت شواهدها بالفعل، مع تداعيات ثورات الربيع العربي، وما أعقبتها من فوضى ووصول التيارات المتطرفة إلى السلطة. اليوم، بالنظر إلى ما يجري في فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها، ماذا لو أنه يكتب “الحداثة المعطوبة” من جديد، وما الذي يود إضافته إلى الكتاب؟ يجيب الشاعر محمد بنيس، صاحب “حداثة السؤال”، و”الشعر العربي الحديث.. بنياته وإبدالاتها”، مختتماً حواره: “بودي أن أكتب عن مظاهرنا الثقافية التي يتسع نفوذها، ربما من خلال المقارنة بين زمنين: من جهة، زمن ما بعد نكسة يونيو 67 وحركة 68 في فرنسا، لما كان لهما من تأثير في الثقافة العربية، ومن جهة أخرى زمن التطبيع والعولمة، الذي يهدد جميع المكتسبات التي حققتها حركة تحديث الثقافة العربية، منذ أواسط القرن الـ19 حتى الآن”. “لكن السؤال الأصعب، يضيف بنيس، هو: “أين يمكن أن أكتب؟ عندما كتبت نصوص “الحداثة المعطوبة” كانت الصحافة تطلب، وتعرف من وماذا تطلب، وكانت تفتح الأبواب من دون شروط. أما اليوم، فلا أعرف منبراً إعلامياً يتمتع بجرأة صحافة تلك الفترة. وبالنظر إلى تبدل الزمن الثقافي، عربياً وعالمياً، فإن الكتابة تحرص على صفتها ممارسة نقدية، وهي تعلم أن الهامش هو الذي يجب أن تحافظ عليه”. المزيد عن: شاعر مغربيالقصيدةالنقدالحداثةالترجمةجوائز شعريةالمقاومة الادبيةالتصوفاللغةالإبداع 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post نساء وسمن العصور الوسطى الأوروبية بموسيقاهن وأصواتهن next post ما مصير ميليشيات إيران في العراق؟ You may also like نساء وسمن العصور الوسطى الأوروبية بموسيقاهن وأصواتهن 22 يناير، 2025 هل حولت “نوبل” ستاينبك إلى مناصر لحرب فيتنام؟ 22 يناير، 2025 “ملفات بيبي”… محاكمة سينمائية لطموحات نتنياهو 22 يناير، 2025 أين اختفى الرسام الإسباني غويا خلال الثورة الفرنسية؟ 20 يناير، 2025 أورهان باموق يكتب ذكرياته ويرسمها ببراعة فطرية 20 يناير، 2025 حكاية صداقة خالدة بين الحياة والموت 20 يناير، 2025 رحيل ديفيد لينش… آخر السورياليين الكبار 20 يناير، 2025 مهى سلطان تكتب عن: عبدالرحمن قطناني يفتح “أبواب... 20 يناير، 2025 التشيكي دفوراك افتتح من أميركا أزمنة العولمة بموسيقاه 19 يناير، 2025 رحيل فرحان بلبل رائد مسرح العمال في سوريا... 19 يناير، 2025