ثقافة و فنونعربي مارك شاغال بين الحرب والسلام في لوحتين تسيران عكس تيار إبداعاته by admin 15 نوفمبر، 2022 written by admin 15 نوفمبر، 2022 24 حين محى بيكاسو توقيعه عن قطعته الفنية الأممية لغيظه من جدارية الرسام الروسي الفرنسي اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب بشكل من الأشكال قد يمكننا القول إن الرسام الروسي الفرنسي مارك شاغال كان واحداً من أول ممارسي ما بات يطلق عليه خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، تعبير “فن الشارع”، أي فن اللوحات الضخمة التي تعرض على جدار شارع عام لتقدم موضوعاً ذا أهمية خاصة، فالمار في أيامنا هذه في الشارع المحاذي لمبنى “يونيسكو” في الدائرة السابعة الباريسية، لن يفوته بأية حال من الأحوال أن يشاهد لوحة ضخمة مرسومة على الجهة الخارجية لسور المبنى الأممي، ولن يفوت هواة الفن أن يتعرفوا في اللوحة نفسها على ألوان مارك شاغال وخطوطه، كما لن يفوتهم بأية حال من الأحوال أن يدركوا موضوع اللوحة من فورهم، ففي نهاية الأمر فإن فن شاغال فن شفاف، وقد تكون له براءة الأطفال الواضحة في قدرته على التعبير عن موضوعه، وللمناسبة قد يكون من الجائز القول إن هذه اللوحة ذات المضمون السياسي من خلال تعبيرها عن موضوع إنساني يتلاءم مع مبادئ “يونيسكو” تكاد تكون الوجه الآخر للوحة أخرى للرسام نفسه، تحمل عنواناً نقيضاً هو “الحرب”، وتتكامل في ذلك مع لوحة أخرى له موجودة في نيويورك وتحمل عنوان “السلام”. نرجسية المعلم الكبير ولنتوقف هنا قليلاً عند بيكاسو الذي سنقول كيف أن لوحة شاغال الباريسية قد أغاظته وجعلته يزيل توقيعه الخاص عن لوحة له تزين منذ عقود المبنى الأممي نفسه ولكن في الداخل، قبل أن نواصل هنا الحديث عن لوحة شاغال الأخرى “الحرب”، لنتذكر كيف أن الرسام أنتجهما في ثنائية التعبير عن الحرب والسلام من دون أن يتقصد ذلك، وكانتا معاً بالنسبة إليه تدخلاً استثنائياً في الفن السياسي، وهو الذي ابتعد رسمه دائماً من السياسة مكتفياً بمواضيع تاريخية وتوراتية وفنية خالصة، غالباً ما تتضمن حديث الذكريات الخاصة والعامة. أما بالنسبة إلى حكاية بيكاسو فلا بد من الإشارة على الفور إلى أن سيد التكعيبية والتجريب، كما سيد النرجسية في فن القرن الـ 20، كان أنجز جداريته الضخمة لحساب مبنى الـ “أونيسكو”، وعلقت في الجانب المرتفع من قاعة داخلية بين لوحات أخرى لفنانين عالميين كبار، حين راح يتأمل اللوحة معجباً بعمله فيها على جري عادته، ليلاحظ أن المكان الذي علقت فيه يخفي توقيعه تماماً. استشاط غضبه وطلب تغيير المكان لكن ذلك لم يكن ممكناً تقنياً، فما كان منه إلا أن اعتلى سلماً ومحى التوقيع ليبقى ممحياً حتى الآن، ويروي بعض المؤرخين أنه قبل ذلك كان قد تأمل لوحة شاغال ليلاحظ توقيع هذا الأخير عليها يشع وسط الطريق، بارزاً أمام عيون ألاف المارة على الرصيف يومياً، وكان ذلك أكثر مما تتحمله نرجسية المعلم الإسباني الكبير. حتمية المأساة ونعود إلى شاغال الرسام الروسي الأصل، فهو في مقابل مرح بيكاسو وزهوه الدائم بالحياة، كان مأسوياً في طبعه، مأسوياً حتى وإن كان القسم الأكبر من اللوحات التي رسمها على مدى ما يقارب من ثلاثة أرباع القرن، حافلاً بألوان وأشكال وشخصيات تبدو مرتبطة بفرح الحياة وحيويتها. وبالنسبة إلى شاغال كان الواقع التراجيدي لحياتنا هو الأصل أما فرح الحياة فاستثناء عابر، ومن هنا كان واحد من همومه الأساس في فنه أن يعبر دائماً عن وجود الكائن البشري عند حافة الهاوية. لوحة “السلام” للفنان مارك شاغال (موقع الفنان) بالنسبة إليه كانت المأساة محتمة، مهما كان اسمها، وما على الفن إلا أن يتنبه إلى هذا، في شكل دائم ماحياً أي أوهام قد تخامر الإنسان، ومن يقرأ سيرة مارك شاغال ويرصد لوحاته، يدرك أن هذا الانطباع الدائم الذي كثيراً ما عبر عنه في فنه، إنما أتاه من ثلاثة مصادر أساسية، طفولته كيهودي في قرية فيتبسك الروسية في زمن كانت فيه معاداة السامية قد استشرت هناك، لا سيما في المناطق الريفية حيث يشكل اليهود أقليات تعيش رعباً دائماً، ثم قراءاته المعمقة للعهد القديم، إذ لا يطالع المرء سوى أخبار الكوارث والاضطهاد وضروب الانتقام، أما ثالث المصادر فالقرن الـ 20 نفسه بما حمله من كوارث وحروب ومذابح. كان من المنطقي لمشاعر حساسة مثل مشاعر مارك شاغال بكل الماضي والخلفية اللذين يحملهما أن تتفاعلا، ومن هنا إذا كان شاغال يعتبر للوهلة الأولى شاعر التلوين الأول في الفن التشكيلي، فإن هذه الحقيقة يجب ألا تمنعنا من رؤية المأسوي خلف قناع الفرح أو التهريج أو السعادة الزوجية أو الحياة العائلية، وحتى في الأعراس الريفية وحفلاتها التي تكثر في لوحاته. وحتى في هذه اللوحات الأكثر مرحاً وفرحاً وتلويناً كان يبدو واضحاً أن شاغال من الذين يخافون السعادة، لذا يكون ثمة في خط ما وفي زاوية ما رعب قد لا يبدو واضحاً منذ النظرة الأولى تلقى على اللوحة، لكنه إذ “يكتشف” يتحول ليصبح هو الأساس، وبالتالي الدليل القاطع على مأسوية ذلك الفن الكبير. “الحرب” ورعبها لعلنا هنا لا نكون بعيدين من الحقيقة والمنطق إن نحن أخذنا مثالاً على ما نقول، حالاً قد تبدو لنا هنا متطرفة ولكنها دالة، وهي حال لوحة “الحرب” التي رسمها شاغال في باريس بين عام 1964 وعام 1966. وفي ذلك الحين كان الرسام نفسه يقترب من سنته الـ 80، سن الاسترخاء بالنسبة إلى البشر العاديين، وكان العالم كله يعيش حالاً من الاسترخاء، بل لنقل حالاً من السلام الواعد حتى وإن كان مقتل جون كنيدي قبل سنوات قليلة ونذر الانتفاضات الشبابية الواضحة أموراً تشير إلى عواصف مقبلة. لكن العواصف لم تكن في حسبان أحد، من نوع تلك التي قد تؤثر في سلام العالم واحتمال أن يكون الكائن الإنساني أفلت ولو زمناً من مصير تراجيدي ما، ومع هذا فها هو شاغال يرسم لوحة رهيبة عن “الحرب”، والأدهى من هذا أن الرسام حقق هذه اللوحة في وقت كان يشتغل فيه على زجاجيته الكبرى التي كشف الستار عنها في شهر سبتمبر (أيلول) 1964 في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، “السلام”. ولنتذكر هنا أن زجاجية “السلام” هذه إنما أوصي شاغال بتحقيقها تخليداً لذكرى الأمين العام السابق للأمم المتحدة في ذلك الحين داغ هامرشولد الذي كان قتل في حادثة طائرة مفتعلة فيما كان يقوم بمهماته السلمية في العالم، وفي القارة الأفريقية بخاصة. إذاً كانت لوحة “السلام” عملاً كبيراً حقق في ذكرى رجل السلام من قبل فنان عرف في تلك الجدارية الزجاجية الضخمة (538 سنتيمتراً – 358 سنتيمتراً) كيف يعبر عن الإخاء بين البشر، فما بال الفنان نفسه يرسم في الوقت عينه تقريباً واحدة من أكثر لوحاته سوداوية وتشاؤماً، اللوحة التي حتى ألوانه فيها بدت غير معتادة، إذ طغى عليها الأسود والبني والبرتقالي في تفاعل مرعب مع أبيض ثلجي جليدي؟ الخوف من التفاؤل واضح هنا أن شاغال لم يكن يحاول أن يعبر عن واقع راهن تعيشه البشرية، بقدر ما كان يحاول في لوحة “الحرب” (عرضها 231 سنتيمتراً وارتفاعها 163سنتيمتراً، وهي معلقة في كونستهاوس في زيوريخ بسويسرا، أن يعبر عن الخوف الوجودي من أن السلام الذي انتهى من التعبير عنه قد لا يكون أكثر من وهم ولحظة عابرة في تاريخ الإنسان، ولعل البعد الأساس في هذه اللوحة هو أنه رسمها من تلقائه من دون أن يكون قد أوصاه برسمها أحد، على عكس زجاجية “السلام”. وفي هذا المعنى وإذا أخذنا كل هذه الاعتبارات في حسباننا سنصل إلى فرضية أساس تقول لنا إن مارك شاغال حين رسم “الحرب”، إنما كان يرد على تفاؤل مارك شاغال “المفرط” حين رسم “السلام”. مهما يكن من أمر فإن الناظر إلى لوحة “الحرب”، وعلى رغم ابتعاد تلوينها من التلوين المعتاد لدى شاغال، سيجد فيها من فوره، وإن موظفة في اتجاهات جديدة، عناصر قديمة من معجمه التشكيلي، الزوجان ومعهما طفلهما الرضيع والمجاعة والموت والثور الأبيض والعربة والنار والثلج والصلب ومحاولات الهرب، مع تأكيد تمكن العديد من الشخصيات من الهرب سلوكاً لدرب المنفى، وحتى عازف الكمان نراه خلف الشخص السائر وراء العربة، لكنه أوقف عزفه وتحول داعية للهرب والنجاة. ومرة أخرى لا بد هنا من التركيز على استثنائية هاتين اللوحتين في حياة شاغال وفنه، لكنها استثنائية نسبية لا أكثر. المزيد عن:لوحة الحرب\لوحة السلام\مارك شاغال\بيكاس\ومبنى اليونسكو\باريس\لوحات فنية\قرية فيتبسك 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 16 كاتبا إسبانيا يكشفون أسرارهم في “لهذا نكتب الروايات” next post “لدي أحلام كهربائية” يفاجئ مهرجان القاهرة بتخطيه النمطية اللاتينية You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024
بشكل من الأشكال قد يمكننا القول إن الرسام الروسي الفرنسي مارك شاغال كان واحداً من أول ممارسي ما بات يطلق عليه خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، تعبير “فن الشارع”، أي فن اللوحات الضخمة التي تعرض على جدار شارع عام لتقدم موضوعاً ذا أهمية خاصة، فالمار في أيامنا هذه في الشارع المحاذي لمبنى “يونيسكو” في الدائرة السابعة الباريسية، لن يفوته بأية حال من الأحوال أن يشاهد لوحة ضخمة مرسومة على الجهة الخارجية لسور المبنى الأممي، ولن يفوت هواة الفن أن يتعرفوا في اللوحة نفسها على ألوان مارك شاغال وخطوطه، كما لن يفوتهم بأية حال من الأحوال أن يدركوا موضوع اللوحة من فورهم، ففي نهاية الأمر فإن فن شاغال فن شفاف، وقد تكون له براءة الأطفال الواضحة في قدرته على التعبير عن موضوعه، وللمناسبة قد يكون من الجائز القول إن هذه اللوحة ذات المضمون السياسي من خلال تعبيرها عن موضوع إنساني يتلاءم مع مبادئ “يونيسكو” تكاد تكون الوجه الآخر للوحة أخرى للرسام نفسه، تحمل عنواناً نقيضاً هو “الحرب”، وتتكامل في ذلك مع لوحة أخرى له موجودة في نيويورك وتحمل عنوان “السلام”. نرجسية المعلم الكبير ولنتوقف هنا قليلاً عند بيكاسو الذي سنقول كيف أن لوحة شاغال الباريسية قد أغاظته وجعلته يزيل توقيعه الخاص عن لوحة له تزين منذ عقود المبنى الأممي نفسه ولكن في الداخل، قبل أن نواصل هنا الحديث عن لوحة شاغال الأخرى “الحرب”، لنتذكر كيف أن الرسام أنتجهما في ثنائية التعبير عن الحرب والسلام من دون أن يتقصد ذلك، وكانتا معاً بالنسبة إليه تدخلاً استثنائياً في الفن السياسي، وهو الذي ابتعد رسمه دائماً من السياسة مكتفياً بمواضيع تاريخية وتوراتية وفنية خالصة، غالباً ما تتضمن حديث الذكريات الخاصة والعامة. أما بالنسبة إلى حكاية بيكاسو فلا بد من الإشارة على الفور إلى أن سيد التكعيبية والتجريب، كما سيد النرجسية في فن القرن الـ 20، كان أنجز جداريته الضخمة لحساب مبنى الـ “أونيسكو”، وعلقت في الجانب المرتفع من قاعة داخلية بين لوحات أخرى لفنانين عالميين كبار، حين راح يتأمل اللوحة معجباً بعمله فيها على جري عادته، ليلاحظ أن المكان الذي علقت فيه يخفي توقيعه تماماً. استشاط غضبه وطلب تغيير المكان لكن ذلك لم يكن ممكناً تقنياً، فما كان منه إلا أن اعتلى سلماً ومحى التوقيع ليبقى ممحياً حتى الآن، ويروي بعض المؤرخين أنه قبل ذلك كان قد تأمل لوحة شاغال ليلاحظ توقيع هذا الأخير عليها يشع وسط الطريق، بارزاً أمام عيون ألاف المارة على الرصيف يومياً، وكان ذلك أكثر مما تتحمله نرجسية المعلم الإسباني الكبير. حتمية المأساة ونعود إلى شاغال الرسام الروسي الأصل، فهو في مقابل مرح بيكاسو وزهوه الدائم بالحياة، كان مأسوياً في طبعه، مأسوياً حتى وإن كان القسم الأكبر من اللوحات التي رسمها على مدى ما يقارب من ثلاثة أرباع القرن، حافلاً بألوان وأشكال وشخصيات تبدو مرتبطة بفرح الحياة وحيويتها. وبالنسبة إلى شاغال كان الواقع التراجيدي لحياتنا هو الأصل أما فرح الحياة فاستثناء عابر، ومن هنا كان واحد من همومه الأساس في فنه أن يعبر دائماً عن وجود الكائن البشري عند حافة الهاوية. لوحة “السلام” للفنان مارك شاغال (موقع الفنان) بالنسبة إليه كانت المأساة محتمة، مهما كان اسمها، وما على الفن إلا أن يتنبه إلى هذا، في شكل دائم ماحياً أي أوهام قد تخامر الإنسان، ومن يقرأ سيرة مارك شاغال ويرصد لوحاته، يدرك أن هذا الانطباع الدائم الذي كثيراً ما عبر عنه في فنه، إنما أتاه من ثلاثة مصادر أساسية، طفولته كيهودي في قرية فيتبسك الروسية في زمن كانت فيه معاداة السامية قد استشرت هناك، لا سيما في المناطق الريفية حيث يشكل اليهود أقليات تعيش رعباً دائماً، ثم قراءاته المعمقة للعهد القديم، إذ لا يطالع المرء سوى أخبار الكوارث والاضطهاد وضروب الانتقام، أما ثالث المصادر فالقرن الـ 20 نفسه بما حمله من كوارث وحروب ومذابح. كان من المنطقي لمشاعر حساسة مثل مشاعر مارك شاغال بكل الماضي والخلفية اللذين يحملهما أن تتفاعلا، ومن هنا إذا كان شاغال يعتبر للوهلة الأولى شاعر التلوين الأول في الفن التشكيلي، فإن هذه الحقيقة يجب ألا تمنعنا من رؤية المأسوي خلف قناع الفرح أو التهريج أو السعادة الزوجية أو الحياة العائلية، وحتى في الأعراس الريفية وحفلاتها التي تكثر في لوحاته. وحتى في هذه اللوحات الأكثر مرحاً وفرحاً وتلويناً كان يبدو واضحاً أن شاغال من الذين يخافون السعادة، لذا يكون ثمة في خط ما وفي زاوية ما رعب قد لا يبدو واضحاً منذ النظرة الأولى تلقى على اللوحة، لكنه إذ “يكتشف” يتحول ليصبح هو الأساس، وبالتالي الدليل القاطع على مأسوية ذلك الفن الكبير. “الحرب” ورعبها لعلنا هنا لا نكون بعيدين من الحقيقة والمنطق إن نحن أخذنا مثالاً على ما نقول، حالاً قد تبدو لنا هنا متطرفة ولكنها دالة، وهي حال لوحة “الحرب” التي رسمها شاغال في باريس بين عام 1964 وعام 1966. وفي ذلك الحين كان الرسام نفسه يقترب من سنته الـ 80، سن الاسترخاء بالنسبة إلى البشر العاديين، وكان العالم كله يعيش حالاً من الاسترخاء، بل لنقل حالاً من السلام الواعد حتى وإن كان مقتل جون كنيدي قبل سنوات قليلة ونذر الانتفاضات الشبابية الواضحة أموراً تشير إلى عواصف مقبلة. لكن العواصف لم تكن في حسبان أحد، من نوع تلك التي قد تؤثر في سلام العالم واحتمال أن يكون الكائن الإنساني أفلت ولو زمناً من مصير تراجيدي ما، ومع هذا فها هو شاغال يرسم لوحة رهيبة عن “الحرب”، والأدهى من هذا أن الرسام حقق هذه اللوحة في وقت كان يشتغل فيه على زجاجيته الكبرى التي كشف الستار عنها في شهر سبتمبر (أيلول) 1964 في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، “السلام”. ولنتذكر هنا أن زجاجية “السلام” هذه إنما أوصي شاغال بتحقيقها تخليداً لذكرى الأمين العام السابق للأمم المتحدة في ذلك الحين داغ هامرشولد الذي كان قتل في حادثة طائرة مفتعلة فيما كان يقوم بمهماته السلمية في العالم، وفي القارة الأفريقية بخاصة. إذاً كانت لوحة “السلام” عملاً كبيراً حقق في ذكرى رجل السلام من قبل فنان عرف في تلك الجدارية الزجاجية الضخمة (538 سنتيمتراً – 358 سنتيمتراً) كيف يعبر عن الإخاء بين البشر، فما بال الفنان نفسه يرسم في الوقت عينه تقريباً واحدة من أكثر لوحاته سوداوية وتشاؤماً، اللوحة التي حتى ألوانه فيها بدت غير معتادة، إذ طغى عليها الأسود والبني والبرتقالي في تفاعل مرعب مع أبيض ثلجي جليدي؟ الخوف من التفاؤل واضح هنا أن شاغال لم يكن يحاول أن يعبر عن واقع راهن تعيشه البشرية، بقدر ما كان يحاول في لوحة “الحرب” (عرضها 231 سنتيمتراً وارتفاعها 163سنتيمتراً، وهي معلقة في كونستهاوس في زيوريخ بسويسرا، أن يعبر عن الخوف الوجودي من أن السلام الذي انتهى من التعبير عنه قد لا يكون أكثر من وهم ولحظة عابرة في تاريخ الإنسان، ولعل البعد الأساس في هذه اللوحة هو أنه رسمها من تلقائه من دون أن يكون قد أوصاه برسمها أحد، على عكس زجاجية “السلام”. وفي هذا المعنى وإذا أخذنا كل هذه الاعتبارات في حسباننا سنصل إلى فرضية أساس تقول لنا إن مارك شاغال حين رسم “الحرب”، إنما كان يرد على تفاؤل مارك شاغال “المفرط” حين رسم “السلام”. مهما يكن من أمر فإن الناظر إلى لوحة “الحرب”، وعلى رغم ابتعاد تلوينها من التلوين المعتاد لدى شاغال، سيجد فيها من فوره، وإن موظفة في اتجاهات جديدة، عناصر قديمة من معجمه التشكيلي، الزوجان ومعهما طفلهما الرضيع والمجاعة والموت والثور الأبيض والعربة والنار والثلج والصلب ومحاولات الهرب، مع تأكيد تمكن العديد من الشخصيات من الهرب سلوكاً لدرب المنفى، وحتى عازف الكمان نراه خلف الشخص السائر وراء العربة، لكنه أوقف عزفه وتحول داعية للهرب والنجاة. ومرة أخرى لا بد هنا من التركيز على استثنائية هاتين اللوحتين في حياة شاغال وفنه، لكنها استثنائية نسبية لا أكثر. المزيد عن:لوحة الحرب\لوحة السلام\مارك شاغال\بيكاس\ومبنى اليونسكو\باريس\لوحات فنية\قرية فيتبسك