الاستمرار بالاعتقاد أن المثقفين هم المدافعون الحقيقيون عن حقوق وحاجات المجتمع بات اليوم ضرباً من ضروب الخيال (مواقع التواصل) ثقافة و فنون لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة by admin 7 مايو، 2025 written by admin 7 مايو، 2025 24 صامويل فيتوسي يرصد تراجع الحرية والتقهقر والعقل مقابل ازدياد الجهل والتعصب والموروث الغيبي اندبندنت عربية / مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN يواصل الكاتب والصحافي الفرنسي الشاب صامويل فيتوسي (مواليد 1997) خريج قسم الاقتصاد في جامعة كامبريدج البريطانية والمدرسة العليا للدراسات التجارية في باريس، مباغتة قرائه عبر نشر كتب ومقالات وتعليقات على الأحداث الراهنة، مولياً اهتماماً خاصاً بالمواضيع الاجتماعية كالدين والتعليم والعادات والتقاليد، داخلاً على السائد من الأفكار مفككاً عناصرها. وفيتوسي هو الذي هاجم في كتاب صدر له منذ عامين مذهب “الووكية”، وها هو ذا في كتابه الأخير الصادر حديثاً في باريس “لماذا يخطئ المثقفون؟” (لوبسرفاتوار، 2025) يعيد طرح سؤال قديم يتناول دور المثقفين في المجتمع. فما دور المثقفين في المجتمعات التي تتغير وتواجه أزمات مصيرية تتطلب مواقف واضحة؟ هل لا يزال المثقفون صوت الضمير المنادي بالحرية والعدالة والكرامة؟ وهل لا تزال كتاباتهم تتجرأ على الممنوع وتمس الموروثات الراكدة لتغير الآراء وتطور الأفكار وتحرك العقول؟ أم أنهم باتوا يعيشون مأزق الانهيار الأخلاقي؟ وهل هم في زمن التحولات التاريخية الكبرى جبناء ميالون للمسايرة على حساب كل قيمة وحق “سحرة يصنعون المعاني ويبيعون الأوهام” على ما يقول ريجيس دوبريه؟ هكذا يتبدى دور بعض المثقفين في القرن الـ20، ويكفي أن نقرأ ما كتبته الفيلسوفة هانا أرندت بعد فرارها من ألمانيا النازية وعزمها على عدم مخالطة أي منهم، فقد شاهدت هذه المرأة بأم العين كيف سارع كثير “من أصحاب العقول النيرة” إلى الانضواء تحت لواء النازية، وكيف توقف كثير من الكتاب عن الدفاع عن المعذبين والمقهورين. تقول أرندت “كنت أعيش في وسط من المثقفين، لكنني كنت أعرف أيضاً أشخاصاً آخرين، وكنت ألاحظ أن اتباع التيار كان، إن صح التعبير، هو القاعدة بين المثقفين، بينما لم يكن كذلك في الأوساط الأخرى”، فهل هذه هي حال مثقفي اليوم الذين يعيشون في مجتمعات ملتهبة؟ هل لا يزالون قادرين على المساءلة والوقوف في وجه الظلم واللاعدالة مغلبين تعدد الأصوات على استبداد الصوت الواحد؟ بعبارة أخرى، هل لا يزال المثقفون ملتزمين قضايا مجتمعاتهم، لاعبين دور “المثقف العضوي” الذي تحدث عنه الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي؟ يبدو لصامويل فيتوسي أن الاستمرار بالاعتقاد أن المثقفين هم المدافعون الحقيقيون عن حقوق وحاجات المجتمع بات اليوم ضرباً من ضروب الخيال، فثمة استنتاج مزعج لا بد من الإقرار به وهو أن غالبية المثقفين الفرنسيين لم يستنكروا أعمال القمع والعنف واللاعدالة، بل كانوا في كثير من الأحيان في طليعة المدافعين عنها، فبعضهم افتتن بالأنظمة الشمولية، وتغاضى في الوقت عينه عن جرائمها الجماعية، فيتساءل كيف يمكن لعقول لامعة أن تنخدع إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن لرجال ونساء يفترض بهم التعامل مع النصوص والمفاهيم أن يكونوا، أكثر من غيرهم عرضة لهذيانات تكون عواقبها كارثية على المجتمع أحياناً؟ معرض باريس للكتاب حيث يلتقي المثقفون (أ ف ب) في محاولة للإجابة عن كل هذه الأسئلة، يعرض الكاتب توليفة نابضة بالحيوية تطور ضرباً من التفكير الثاقب المستند ليس فقط إلى مراجع معروفة ككتابات جورج أورويل وريمون آرون وجان-فرنسوا ريفيل وتوماس سويل وستيفن بينكر وجوناثان هايدت، بل أيضاً إلى أدبيات أنغلوساكسونية أخرى متخصصة في دراسة الانحيازات المعرفية، فانطلاقاً من هذه المصادر المتنوعة، يسلط كتاب فيتوسي الضوء على بعض “أمراض التفكير” الخاصة بالمثقفين، موضحاً لنا أنه كلما زاد مستوى التعليم عند بعضهم، زاد ميلهم لتبني مواقف متطرفة، وكلما كانوا أكثر اطلاعاً ومعرفة، زادت احتمالية المبالغة بآرائهم، وكلما زادت شهاداتهم، زادت قناعاتهم أن الآخرين هم من يقدمون حججاً منحازة، وكلما كانوا سريعي البديهة، زاد سوء نيتهم وقدرتهم على التكيف، هكذا أصبحت عدم رؤية ما هو أمام أعينهم، أحد الفنون التي يتقنها كثير من المثقفين. وأشار إلى أن هذا “العمى” لا يعود إلى الجهل، بل إلى الذكاء الحاد، مستشهداً بقول الكاتب اليهودي المجري آرثر كوستلر (1905-1983)، الذي انضم إلى الحزب الشيوعي الألماني بعدما وجد فيه رداً على التهديد النازي، “كانت لدي عينان تبصران، وعقل مدرب على تحريف ما تبصره تلك العينان”، وهكذا لخص كوستلر عام 1954 إقامته في الاتحاد السوفياتي من دون أن يلحظ شيئاً مقلقاً قبل أن يبدأ فعلياً بمحاربة النظام الستاليني، ففي مواجهة فظائع الجرائم الستالينية والماوية والنازية، يتساءل فيتوسي، كم من المثقفين المرموقين، من أكاديميين وصحافيين، استسلموا لسحر الإنكار؟ ولعله يؤكد أن أفكار بعض المثقفين عبثية إلى حد لا يصدق، لدرجة أنهم، على ما يقول جورج أورويل، لا يمكن لغيرهم أن يؤمن بها، فالذكاء لا يحمي من الوقوع في الخطأ، بل قد يجعل الإنسان أكثر عرضة له، كيف يمكن على سبيل المثال لا الحصر لسارتر وفوكو، أن يبقيا صامتين أمام معسكرات الاعتقال والقمع في الاتحاد السوفياتي وفظائع بول بوت وماو تسي تونغ؟ متسلحاً بالدراسات العلمية في مجالات علم النفس التطوري، والانحيازات المعرفية، ولمحات العبقرية كما تتبدى في كتابات دان سبيربر وستيفن بينكر وجوناثان هايدت، يقارب فيتوسي هذا اللغز الذي طبع النصف الثاني من القرن الـ20، لا مجال للانزلاق إلى شعبوية رخيصة أو مناهضة للنخبة، فهو لا يدعي أن المثقفين يخطئون دائماً، بل يتساءل: لماذا حين يخطئون، يخطئون بهذه البراعة؟ يبدأ صامويل فيتوسي كتابه بتعريف للمثقف يستعيره من الفيلسوف السويسري إتيان باريلييه (مواليد 1947)، يقول فيه “إن المثقف هو ما يتبقى من جان بول سارتر وريمون آرون حين ننسى كل ما فرق بينهما”، ومن المفكر الأميركي الليبرالي توماس سويل قوله “المثقف هو شخص يبدأ وينهي عمله في مجال الأفكار”، هذان التعريفان يؤكدان بحسبه أن المثقف لا يتحمل عواقب أخطائه، فعلى عكس رائد الأعمال الذي قد يفلس، أو الخباز الذي قد يخسر زبائنه إن لم يعجبهم خبزه، يمكن للمثقف أن يخطئ دون أن يكون لأخطائه عواقب تذكر، مؤكداً أنه عندما يكون ثمن الخطأ منخفضاً، تجد اللاعقلانية بيئة خصبة للانتشار. من هذه الزاوية، يقارب فيتوسي مواقف المثقفين الفرنسيين الذين يتناولهم بالنقد، فيلاحظ أن معظمهم انتمى إلى اليسار وافتتن بالاتحاد السوفياتي ومجد ماو، وها هو ذا في رصده سلوكهم بفاعليته وحيويته الفكرية، يعري ممارسة المثقفين الفرنسيين الفكرية والسياسية، هازاً صورتهم، فيذكرنا أن سيمون دو بوفوار خصت ماو تسي تونغ بكتاب من 400 صفحة، دعت فيه فرنسا إلى اتباع سياساته، وأن صحيفة “لو موند” اتهمت الكاتب البلجيكي سيمون لييس بالكذب لكشفه الواقع الإنساني المريع في الصين، وأن تغاضي صحيفة “ليبيراسيون” عن ديكتاتورية بول بوت بلغ حد الترحيب بوصول الخمير الحمر إلى الحكم، وإن ينسى فلا ينسى الإشارة إلى إعجاب سارتر بفيدل كاسترو والدعم الحماسي الذي خصه فوكو للثورة الإسلامية في إيران… إلخ. وفي إطار سعيه إلى تفسير ظاهرة افتتان مثقفي فرنسا في النصف الثاني من القرن الـ20 بالأنظمة الشمولية أو ما يسميه “حب الطغاة” (المصطلح للمؤرخ الأميركي مارك ليلا)، يطرح فيتوسي فرضيات عدة أولها إعجابهم بدور المثقف في المجتمعات السلطوية، فهو الذي يرسم سياسة المجتمع الذي يطبقه السياسي، ثانياً كرههم الأنظمة الديمقراطية الليبرالية التي يعيشون فيها، ذلك أن حب المثقفين للشيوعية لم يكن نابعاً مما تمثله، بل لكونها بديلاً عن الديمقراطية الليبرالية، وعداً طوباوياً يمنحهم إمكان انتقاد المجتمع الذي يعيشون فيه والتقليل من قيمة الآخرين بغية إعلاء قيمة أنفسهم. ولتوضيح أطروحته يلجأ فيتوسي إلى عالم النفس الأميركي جوناثان هايدت الذي يصور لنا رجلين، أحدهما يدافع عن الحقيقة ولو كانت غير شعبية، بينما يجهد الآخر للحفاظ على صورته الإيجابية ولو اضطر إلى مجاراة آراء خاطئة سائدة في مجتمعه، فمن منهما، عبر التاريخ، كان بحسبه أكثر قدرة على البقاء والتكاثر؟ لعل الجواب هو الثاني من دون تردد، فالمثقفون الفرنسيون في رأيه هم “أحفاد” هذا الرجل، وأن التطور برمج أدمغة الناس لتنجذب ليس نحو الحقيقة، بل نحو تبرير القناعات السائدة التي تمنحهم المكانة والقبول في محيطهم الاجتماعي. الكاتب والصحافي الفرنسي الشاب صامويل فيتوسي (مواقع التواصل) هكذا يؤكد صامويل فيتوسي أن مثقفي اليسار الفرنسي في القرن الـ20 خلقوا عالماً مرجعياً ذاتياً، انتشرت فيه أفكار كارثية تتقاطع مع معاداة السامية أو مدح الطغاة، لكنها لم تفند ولم تحاسب عند احتكاكها بالواقع. في هذا السياق يذكرنا الكاتب بقول جان فرنسوا ريفيل إن “غالب المثقفين يتساءلون ليس عما يجب أن يعتقدوه، بل عما سيقال عنهم إن هم اعتقدوا ذلك”، علماً أن تغيير الرأي صعب على المثقفين، لأن هويتهم الاجتماعية مرتبطة بمواقفهم العلنية، ولعلهم يفضلون اللاعقلانية الحاضرة على الاعتراف بخطأ سابق، لأن كل الذين يعيشون من أفكارهم كتاباً كانوا أم صحافيين أو سياسيين، لديهم كثير ليخسروه إن غيروا آراءهم. إلى جانب انتقاد مواقف بعض المثقفين من الأحداث الجارية في العالم، يمدح فيتوسي مواقف وكتابات بعضهم الآخر الذين يجب بحسبه إعادة قراءة أعمالهم كجورج أورويل وريمون آرون وجان فرنسوا ريفيل وريمون بودون وجورج برنانوس وسواهم، مؤكداً أن انتقاد المثقفين لا يعني مهاجمة العلم والثقافة، بل الدعوة إلى التزام المثقفين الأخلاق والمنهجية العلمية الصارمة. لا يكتفي فيتوسي إذاً بالعودة إلى الانهيار الأخلاقي عند بعض المثقفين، بل يسعى في كتابه الجريء إلى وصف آليات هذا الانهيار، مستعرضاً الميكانيزمات الاجتماعية والثقافية والمعرفية التي تؤدي إلى “العمى الفكري”، وإن كانت نتائج هذا العمى تقع على حساب المجتمع الذي يدعي المثقفون إنارة سبيله، فالأيديولوجيا تعطل بحسبه عمل الدماغ بشكل سليم، والمهارة في الجدل توظف غالباً في خدمة سوء النية، أما التوافقية والرغبة في نيل القبول والمغالاة في اليقين، فهي عوامل تبعد عن البحث الصادق عن الحقيقة. ويتطرق فيتوسي في إطار نقده أزمة المثقفين للجامعات، التي كانت منبع المعارف، والتي باتت اليوم مهددة بالتحول إلى عالم مغلق لا يلامس الحقيقة الواقعية، معتمداً إذاً على أدبيات علمية غنية وكم هائل من الأمثلة التاريخية، يوجه صامويل فيتوسي تحذيراً واضحاً: من السهل دائماً تمييز ضلالات الماضي، بعدما يكتب التاريخ، لكن من الصعب جداً، الآن وهنا، كشف العمى الجماعي. في الختام، يأتي كتاب صامويل فيتوسي “لماذا يخطئ المثقفون؟” في أوانه ليهز هزاً عميقاً بعض القناعات الراسخة، وهو، بحق، من الكتب التي تحث القارئ على التفكير، لعل الفكر العربي المعاصر في حاجة إلى دراسة مشابهة تعيد النظر بدور المثقف الذي تحدث عنه علي حرب في أجمل كتبه، راصداً تراجع حضور الحرية والتقهقر والعقل والتنوير والارتهان للغرب مقابل ازدياد الجهل والتعصب والموروث الغيبي، حيث الخرافة والاستسلام للقضاء والقدر في مجتمعات يدعي مثقفوها العمل على توعية الجماهير وتحديث مجتمعاتهم وفق مشاريع مفصولة عن نسيجهم التاريخي والمعرفي. المزيد عن: فرنساصامويل فيتوسيلماذا يخطئ المثقفون؟المثقفونآرثر كوستلرألمانياالحزب الشيوعي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عباس إلى بيروت 21 مايو و”سلاح المخيمات” هاجس الزيارة next post Baby eel fisher calls for enforcement against illegal harvesting on N.S. river You may also like القطار الأخير إلى الحرية: حكاية الخادمة تكتب فصلها... 8 مايو، 2025 مهى سلطان تكتب عن: متحف نابو يوثق ذاكرة... 8 مايو، 2025 هاملت: من شخصية مسرحية إلى مادة لشتى الدراسات 8 مايو، 2025 رحيل محمد الشوبي الفنان المغربي الأكثر إثارة للجدل 8 مايو، 2025 لماذا سمى بودلير ديوانه «أزهار الشر»؟ 8 مايو، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: سرير أميرة ثاج 8 مايو، 2025 رحلة مع روبرت ماكفارلين عبر الأنهار 7 مايو، 2025 بيرليوز يستلهم صائغا نهضويا في أوبرا مشاكسة 7 مايو، 2025 مرصد الأفلام… جولة على أحدث عروض السينما العربية... 7 مايو، 2025 الأوروبيون أضفوا طابعا أسطوريا على فرقة “الحشاشين” 4 مايو، 2025