ثقافة و فنون لا بدّ من شليغل لفهم فلسفة الحركة الرومانسية الألمانية by admin 29 يونيو، 2023 written by admin 29 يونيو، 2023 38 وعيه الرهيف غلبت عليه علامات الابتهاج بالأعمال الفنية ودلائل التعثر بزائلية الحياة الإنسانية اندبندنت عربية \ مشير باسيل عون مفكر لبناني الفيلسوف الألماني فريدريش فون شليغل (1772-1829) ولد في وسط فلسفي وأدبي في هانوڤر وفي أسرة أدبية عريقة وذائعة الصيت، إذ كان والده يوهان أدولف شليغل (1721-1793) قسيساً وأديباً لامعاً. كذلك عمه يوهان إلياس شليغل (1719-1749) كان كاتباً مسرحياً وباحثاً في النظريات الجمالية. أما شقيقه الأكبر أوغوست فيلهلم شليغل (1767-1845)، فاشتهر بترجمته أعمال شكسبير إلى الألمانية ونبغ في إتقان الكتابة الأدبية النقدية. في عمر 20 سنة كتب يقول لأخيه أوغوست فيلهلم: “الانتحار فكرة تراودني يومياً منذ ما يقارب ثلاثة أعوام”. لا ريب في أن هذه الخلاصة نشأت من معاينته الفراغ المهيمن على حياته والنفور من رتابة الوجود. الحقيقة أن وعيه الرهيف غلبت عليه علامات الابتهاج بالأعمال الفنية ودلائل التعثر بزائلية الحياة الإنسانية. فوض أهله أمره إلى مصرفي ليلقنه المهنة، ولكنه سرعان ما أشاح بنظره عن حقل المال والأعمال، وأخذ يعتني بدراسة الأدب والقانون. حاول التخصص في حقل الفلسفة، فاستوقفه على الأخص الفن والتاريخ. أما الميدان الذي نبغ فيه، فالنقد الأدبي الذي أكب عليه حتى انعطافة عام 1808. استكشاف كنوز الأدب القديم انتسب فريدريش فون شليغل إلى جامعتي غوتينغن ولايبتسيش ليدرس الحقوق، غير أن طموحه المعرفي أفضى به إلى توسيع آفاق مطالعاته، فأخذ يقرأ الأدب العالمي وانتهى به المطاف إلى اعتناق الدعوة الأدبية التي نذر لها حياته. ابتداء من عام 1793 أنشأ بضعة من الأبحاث التي تناولت الأدب اليوناني ووضع مخططات كتابية لبضعة من المشاريع البحثية في الشعر الكلاسيكي. في 1798 نشر دراسته القيمة تاريخ شعر اليونان والرومان (Geschichte der Poesie der Griechen und Römer). علاوة على هذا، أعد بحثاً مستفيضاً في دراسة الشعر اليوناني (Über das Studium der griechischen Poesie) أظهر فيه حدود الاختلاف الأسلوبي بين الأدب القديم والأدب الحديث. من جراء الانكباب على مثل هذه الأبحاث، اتصفت الحقبة الأولى من إنتاجه بالسمة الكلاسيكية الغالبة. شليغل في شبابه (مؤسسة شليغل) لا بد من ذكر الأثر الذي تركته صداقة المرأة اللامعة الأديبة كارولين بومر (1763-1809) التي تزوجها شقيقه أوغوست فيلهلم، وما لبث الفيلسوف الألماني شلينغ (1775-1854) أن خطفها منه واقترن بها. التقاها فريدريش فون شليغل عام 1794 في مدينة دريسدن، وتأثر بغنى خبرتها الحياتية ومعاناة الأحداث السياسية التي أفضت بها إلى مصاحبة ضابط فرنسي حملت منه أثناء إقامتهما في ماينتس وما لبثت أن سجنت بتهمة تأييد أفكار الثورة الفرنسية. لا ريب في أن صداقة كارولين أيقظت في نفس فريدريش حس النضال الاجتماعي والسياسي. بعد أن أقام سنة واحدة في مدينة يانا التي كانت عصرئذ مركز الفلسفة والأدب يتألق فيها الفيلسوف الألماني فيشته (1762-1814)، يمم شطر برلين وطفق يخالط الأوساط الأدبية، لا سيما صالون الأديبتين هنرييت هرتس (1764-1847) وراهل لفين فارنهاغن (1771-1833)، منضماً انضماماً صادقاً في التيار الرومانسي. من بين أعلام هذا التيار اللامعين تعرف إلى الفيلسوف الألماني فريدريش شلايرماخر (1768-1834) الذي شاركه في المسكن وتعاون وإياه في إنجاز بعض المشاريع البحثية، خصوصاً ترجمة حوارات أفلاطون التي عاد شلايرماخر فاضطلع بها وحده. علاوة على مخالطة بعض مؤسسي المذهب الرومانسي من أمثال الشاعر الناقد الأدبي لودڤيغ تيك (1773-1853) ورجل القانون الكاتب فيلهلم هاينريش فاكنرودر (1773-1798)، ربطت شليغل صداقة متينة بالشاعر الفيلسوف الصوفي البروسي-الألماني نوفاليس (1772-1801) الذي كشف له عن أزمة المثالية الألمانية في كتابات فيشته المتأخرة. في هذه الأثناء أنشأ الأخوان شليغل مجلة أدبية (Athenaeum) حشدا لها كل التأييد الفكري وطفقا ينشران فيها مقالاتهما ومقالات أبرز أدباء العصر ومفكريه، ومنهم شلايرماخر ونوفاليس. في برلين أيضاً تعلق قلب فريدريش فون شليغل بابنة الفيلسوف الألماني موزس مندلسزون (1729-1786) دوروتيا فايت (1764-1839) التي كانت هجرت زوجها المصرفي سيمون فايت. من بعد أن نشر فريدريش عام 1799 روايته لوسنده (Lucinde) وقد أضفى عليها طابع البوح العاطفي الذاتي والوصف الإباحي، اعتقد الناس بأنه كشف فيها عن علاقته الجنسية بدوروتيا التي كان اقترن بها بعد انفصالها عن زوجها. فاستثارت الرواية فضيحة صاخبة في الأوساط الاجتماعية. نهاية حلقة يانا الرومانسية فلسفة الحياة واللغة بالترجمة الإنجليزية في مجلد واحد (أمازون) في إثر ذلك، ترك شليغل برلين وقصد مدينة يانا ليقيم مع شقيقه وزوجته كارولين، ويحاضر في الجامعة (1800-1801) في مسائل الفلسفة المثالية الترانسندنتالية، غير أن محاضراته الفلسفية لم تلق الآذان المصغية، لا بل تلقفها بالتشكيك واحد من ألمع المستمعين، ألا وهو هيغل نفسه الذي كان يخاصم شليغل خصاماً شديداً. لم تدم إقامة فريدريش في يانا طويلاً، بل سرعان ما غادرها مدركاً أن أمراً جليلاً جرى بعد موت نوفاليس واضطراب العلاقة التي كانت تربطه بشقيقه أوغوست فيلهلم وزوجته. لا ريب في أن جميع هذه الأحداث أفضت إلى انفراط عقد حلقة يانا الرومانسية والدخول في حقبة جديدة من تطور المذهب الأدبي الرومانسي عينه. بعد إقامة وجيزة في برلين ودريسدن، انتقل فريدريش إلى باريس عام 1802 وأنشأ فيها مجلته الجديدة “أوروبا” (Europa)، متحولاً شيئاً فشيئاً إلى البحث في الفن التصويري يدبج فيه المقالات ويحاضر في خصائصه وميزات الرسوم التي تتزين بها جدران متحف اللوڤر. عام 1804 غادر فريدريش ودوروتيا باريس وانتقلا إلى مدينة كلن الألمانية حيث أكب الأديب على دراسة الفن القوطي الألماني في الرسم والعمارة، وطفق يحاضر في قضايا تطور الفكر الفلسفي (Die Entwicklung der Philosophie). كان أيضاً يطمع في الاستحصال على منصب أكاديمي، فأخذ يعتني بدراسة اللغة السنسكريتية والبحث في خصائص النصوص الدينية الهندوسية. فإذا به يقارن نحو اللغة السنسكريتية بنحو اللغات الهندو-أوروبية وينشر كتاباً قيّماً في لغة الهنود وحكمتهم (Über die Sprache und Weisheit der Indier) يكشف عن علم جديد وضع له اصطلاحه الأساسي، “النحو المقارن”. فقه اللغة الهندية أو الفيلولوجيا الجريئة من المنصف القول إن الدراسة التي تناولت لغة الهنود وفلسفتهم استثارت فضول الفلاسفة الألمان وفي مقدمتهم شلينغ وشوبنهاور (1788-1860) ونيتشه (1844-1900). كان شليغل السباق في استدخال الفكر الشرقي في مباحث الثقافة الغربية الحديثة. فضلاً عن ذلك، أبان لنا في هذه الدراسة أن اللغة الهندية أقدم من اليونانية والرومانية وأنها اقترنت بالعادات والأعراف والبنى الذهنية السائدة في المجتمع الهندي من دون تغير أو تطور. اللافت أيضاً قوله إن هذه اللغة أعظم اللغات فلسفياً، تتجاوز بقدراتها حتى اللغة اليونانية عينها. ذلك أنها، عوضاً عن بناء توافقات دلالية مجردة، تعمد إلى تشييد أنظومة متماسكة من الإحالات المتبادلة تجعل المفردات والتعابير المقدسة تستنير بعضها بعضاً. ومع ذلك، كان مصراً على إظهار القربى بين اللغتين الهندية واليونانية، وفي يقينه أن تاريخ الشعوب الآسيوية والأوروبية واحد يضم في رحابته الأسرة الحضارية المتنوعة هذه. من مخطوطاته (مؤسسة شليغل) لم يقتصر أثر هذه الأبحاث على تطور تصورات شليغل الأدبية، بل أفضت به إلى انعطافة وجودية إيمانية تكللت بالارتداد إلى الإيمان الكاثوليكي وقد اختبره في صحبة زوجته دوروتيا عام 1808. فضلاً عن ذلك، رافق هذا التحول تغيير جليل في التزام فريدريش السياسي، إذ ما لبث أن انتقل إلى ڤيينا من بعد أن عين مسؤولاً في دائرة الخدمة المدنية. فأقام في المدينة حتى وفاته. أما العمل السياسي الذي مهر حقبة حياته النمسوية، فكان إشرافه على تحرير الجريدة التي كانت تناوئ علناً سياسة نابليون. من جراء انغماسه في النضال السياسي طلب منه رجل الدولة الدبلوماسي النمسوي كليمنس فون مترنيش (1773-1859) عام 1813 أن يرسم الخطوط العريضة التي تمهد لصوغ الدستور الألماني الجديد. في الأعوام الأخيرة من حياته، اضطلع بأمانة سر البعثة النمسوية في محفل الأمراء الناخبين في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، وقد التأموا في الجمعية التشاورية المنعقدة في فرانكفورت. وعام 1829 توفي في ڤيينا، المدينة التي تبنته ورعته وجعلته يناضل في سبيل اقتناعاته الفكرية والسياسية. من الحقبة الكلاسيكية إلى الحقبة الرومانسية كان فريدريش فون شليغل في بداية مسيرته الأدبية متأثراً بالمذهب الكلاسيكي، يعاين في الشعر اليوناني جمالية نادرة، ولكنه كان يصف الشعر الحديث بالعمل الجدير بالاهتمام. الفرق واضح بين الصفتين، إذ إن الشعر القديم يناضل في سبيل مثال أدبي راقٍ يمكن نعته بالنموذج الموضوعي، في حين أن الشعر الحديث يتميز بأصالة خصائصية تعلي من شأن الفرد وتتيح بعض التصنع التذوقي. يذكرنا هذا التمييز بما صاغه المفكر الشاعر المسرحي فريدريش فون شيلر (1759-1805) من آراء في الشعر البسيط الطبيعي البعيد من التكلف والشعر الوجداني العاطفي الانفعالي (Über naive und sentimentalische Dichtung)، بيد أن هذا التمييز ما لبث أن رافقه استجلاء الاختلافات الناشطة بين الأدب الكلاسيكي القديم والأدب الرومانسي الجديد الذي أخذ شليغل يناصره رويداً رويداً. أما تعريفه الأدب الرومانسي فأخذه عن الأديب ناقد الفن يوهان غوتفريد فون هردر (1744-1803)، فأفصح عنه في وصف لافت يجعل الرومانسية مزيجاً من الأشكال والأساليب التي انبثقت من أعمال الأزمنة الوسيطية، بحيث يمكن أن يضم المرء مسرحيات دانتِه (1265-1321) وشكسبير (1564-1616) إلى نشأة هذا الأدب. بتعبير أدق، تتجلى الرومانسية في هيئة المنعطف الذي يفصل بين الأدب القديم والأدب الحديث. ذلك أن الشعر اليوناني بدأ بالأسلوب الملحمي، وما لبث أن انتهى إليه في ذروة أدائه، في حين أن الشعر الحديث ابتدأ بالأسلوب الرومانسي وما برح يعود إليه في قمة إبداعاته. أما الدليل الأوضح على تأييد شليغل المذهب الرومانسي، فيظهر في قوله إن الشعر الرومانسي كوني وتقدمي ويجسد الشعر بحد ذاته، عوضاً عن اقتصاره على أسلوب من أساليبه. الرومانسية جوهر الشعر. فإما أن يكون النظم رومانسياً، وإما ألا يكون على الإطلاق. لا ريب في أن مثل هذا التصريح ينطوي على بعض المغالاة، غير أن شليغل يسوغ رأيه بالاستناد إلى طاقة الصهر التي تتيح للرومانسية أن تؤالف بين الشعر والنثر وبين الإلهام والنقد وبين نظم الفن ونظم الطبيعة. وعلاوة على ذلك، تؤهلنا الرومانسية لنجعل الشعر حياً نابضاً بالألفة الاجتماعية، ونمهر الحياة والاجتماع بجمالية الإفصاح الشعري، ذلك أن الشعر يملأ صور الفن بأبهى آيات الرقي الفكري وينعشها بأطرف اهتزازات التفكه الممتعة. ومن ثم، ينبغي أن يسري الأسلوب الرومانسي عينه في الرواية، بحيث تضحي نظرية الشعر نظرية في الرواية عينها. جماليات الأدب غالباً ما كان شليغل يصرح بأنه لا يستطيع أن يوجز تعريف الرومانسية التي كانت جزءاً من تصوره الفكري الجمالي الأرحب لأنه كان يسعى إلى الفوز بمعيار صالح يؤهل الإنسان للحكم الصائب على قيمة العمل الأدبي والفني الفردية. ليس على الناقد الأدبي أن يحكم على جمالية هذا العمل بالاستناد إلى فكرة نظرية عامة، بل بالبحث عن المثال الفردي الخاص الذي يتميز به كل صنيع أدبي على حدة. من الواضح أن مثل هذا المعيار يبين لنا الأثر الذي تركه هردر وكانط (1724-1804) في تصورات شليغل الأدبية، إذ كان الأول يصر على فردية الإبداع الذاتي التاريخية والثقافية، في حين كان الثاني في كتابه “نقد ملكة الحكم” (Kritik der Urteilskraft) يؤكد استحالة قياس الجمال وتقويمه بواسطة قاعدة خارجية مستخرجة من حقل معرفي موضوعي محايد. في مثواه الاخير (مؤسسة شليغل) في الأبحاث التي ساقها شليغل حول فلسفة ياكوبي (1743-1819) ولسينغ (1729-1781) وعالم الإثنولوجيا الألماني غيورغ فوستر (1754-1794)، تجلى لنا في هيئة المنظر الأدبي الذي اعتنى بكيان الإنسان في جميع أبعاده الحياتية. كذلك حين حلل رواية غوته “فيلهلم مايستر”، كشف لنا عن أنها لا تكتفي بالحكم على ذاتها، بل تصف ذاتها من داخل حبكتها السردية وأسلوبها القصصي. وحقيقة الأمر أن مفهوم الفرادة الإبداعية أخذ ينتشر انتشاراً واسعاً في الأدبيات النقدية التي تناولت الشعريات والجماليات الرومانسية. في هذا السياق، يمكننا أن ندرك معنى “الفوضى الجمالية المنحوتة” التي تجلت في رواية “لوسنده” غير المكتملة. أسلوب الشذرة والتهكم من الثابت أن الشذرة وسمت معظم أعمال التيار الرومانسي وتميزت سواء بشكلها المقترن بنصوص مستلة من كتابات شتى، أو بمقصدها المنعقد على إبراز الفوضى الشاملة المتبعثرة في أحوال لا متناهية من التعارض. على رغم الاقتضاب الذي يقلص مساحة تعبير الشذرة، ما برح الأسلوب التقطعي الاجتزائي هذا يختزن طاقات غنية من الإيحاء الذي لا يبالي بوحدة العالم، بل يفصح عن تنازع خلاصي في المعنى المتجلي لا تدركه الأبصار المهجوسة بمقتضيات الوحدة. ومن ثم، يستطيع الأسلوب الشذري أن يتدبر بحكمة الخفر التواضعي مسألة الارتباط السري بين المحدود واللامحدود وبين المتناهي واللامتناهي وبين الواقع والمثال،كذلك الأمر في المجاز الذي يطل بنا على آفاق اللامتناهي، إذ إن كل مجاز يدلنا على الألوهة، بحسب تعبير شليغل. في سياق أسلوب الشذرة، اعتنى شليغل بالاستدلال على طاقات التهكم الإيحائية وحجته في ذلك أن التهكم فعل ابتكاري يوحد ما تنطوي عليه الفطنة اللماعة من عبقرية شذرية تحاكي التألق الاستناري الذي يضيء كالبرق في ذهن المبدع الخلاق. لم يفت شليغل أن يتأمل في تهكمية سوقراط، معايناً فيها أشد ضروب التعبير تحرراً وأقساها تطلباً من الذات المبتكرة. التهكم خلق ذاتي وانضباط ذاتي وهدم ذاتي، لذلك أرسل شليغل قولته الشهيرة في تعريف الفلسفة “الفلسفة منزل التهكم الحق، وقد عرف هذا التهكم بالجمال المنطقي”. ومن ثم، ينبغي لجميع الفلاسفة والأدباء أن يمارسوا التهكم ممارسة تتجاوز متطلبات التماسك الخاص بالبناء الأنظومي. من فضائل التهكم أن يشرع في العمل الأدبي آفاق الانعتاق من المقاصد الظاهرة المنعقدة في التعبير الشذري، إذ إن السخرية الأنيقة الراقية المتفننة تكشف لنا، بحسب شليغل، عن أبعاد اللامتناهي وآفاق الشمولية واختبارات الكون الأرحب. بواسطتها نعي وعياً دقيقاً رشاقة الأبدية وفوران الفوضى المنبئة بالمدى اللانهائي الذي ينعقد عليه العمل الأدبي، وقد انعتق من منطق الاختتام المنشود وانفتح على امتزاجات أسلوبية تجعل المأساة تحاكي الملهاة لكي تناهض أوهام المشاهد السردية. الأنواع الأدبية وقدرة الفن التعبيرية لا ريب في أن تواطؤ الأساليب التعبيرية هذه دفع شليغل إلى إعادة النظر في تطور الأنواع الأدبية، لا سيما في الرواية الحديثة، فتناول أولاً التصنيف البراغماتي العملاني الذي اعتمده عصر الأنوار، وما لبث أن انتقل منه إلى النظرية الفلسفية التي تصنف الأنواع بحسب التنازع بين المذهبين الذاتي والموضوعي. وفي الرواية الدرامية المأساوية التي تجمع البعدين الذاتي والموضوعي استجلى التحول الطارئ من البعد الموضوعي الذي يجسده، في نظره النوع الملحمي، إلى البعد الذاتي الذي يعتلن في النوع الغنائي التمجيدي الشخصي، بيد أنه أدرك أن الرواية الجديدة أخذت تميل شيئاً فشيئاً إلى الملحمية الحديثة التي تتجاوز الاختلافات الناشطة بين الأنواع من غير أن تلغيها كلها، لذلك ما برح التنوع في الأنواع الأدبية خاضعاً، في رأيه، لنوع واحد مهيمن، ألا وهو الشعرية المبثوثة في جميع ضروب الإنشاء الأدبي. من باكورة أعماله دراسته في الشعر اليوناني وأظهر فيها ميله إلى الدراسات الجمالية وانتهاج سبيل النقد. بفضل نظره النقدي الثاقب، عاين في كمال الشعر اليوناني شأنه شأن هلدرلين (1770-1843) تتويجاً طبيعياً استحقه الوجود الإنساني المكتمل القادر على اختبار الانسجام الرائع بين حقول السياسة والأخلاق والدين والعلم والفن. ومن ثم، فإن ما يميز هذا الشعر إنما هو شمولية الوجود وقد تحولت إلى مثال تستلهمه الصنائع الفنية لأن الجمال هو الخير المشترك الذي تنعم به الذائقة العامة، لا الفعل الحصري الذي يبتكره الفرد المنعزل. فضائل النقد الأدبي بنى شليغل النقد على قاعدة شديدة التطلب “لا ينقد الشعر إلا الشعر نفسه. لا يدخل ملكوت الفن دخولاً مستحقاً حكمٌ نطلقه على صنيع فني لا يرقى بنفسه إلى مرتبة الصنيع الفني”، ولم يخطر بباله أن دراسة نقدية تستطيع أن تتجاوز جمالية قصائد غوته الذي كان يعظمه فوق كل تعظيم ويفضله على شكسبير ودانتِه وثرفانتس (1547-1616). ومع ذلك، ينبغي للنقد أن يختزن من الغنى والسمو ما تختزنه معظم الأعمال الأدبية. حين نقد شليغل رواية غوته “فيلهلم مايستر”، أبرز شروط الرواية وكشف عن النواقص التي ابتليت بها الروايات البسيطة الشائعة في زمنه. فمن سمات النقد الأدبي أن يكون إذاً مستقلاً ومعيارياً ومنتمياً إلى حقل الإبداع الفني. وما مثال على النقد الأدبي أبلغ من الرواية النقدية “لوسنده” التي أنشأها شليغل لينتقد بها التصورات الاجتماعية البورجوازية المهيمنة لأن الذهنية السائدة عصرئذ كانت تفرغ الحب من مضمونه الرفيع، بحيث إن الوصف الذي ساقه لنا في تصوير بعض المشاهد الإباحية في الرواية لا يجسد الغاية القصوى، بل يرمي إلى إبراز قوة التعبير التي ينطوي عليها الحب الذي يجمع في سردية خلاقة اللذة الحسية وما يتجاوزها في الوقت عينه لأن الحب لا يجوز أن يتقيد بالنواميس والأحكام والأعراف، بل ينبغي أن ينبثق من صميم الألفة المحتدمة بين الحبيبين. وعليه، يجدر بنا أن نرأف بهذه الرواية التي لم تحظ بالنجاح المنشود، إذ إن مقاصد شليغل كانت تتخطى مجرد التألق الروائي، فتصر على الإتيان ببحث روائي نقدي يتناول الحب في أرحب دلالاته. وقد يكون في البحث هذا ميل إلى النقد الوجودي الذاتي، إذ إن هذه الرواية تكشف لنا أيضاً عن مآلات العلاقة الغرامية بين الأديب وزوجته دوروتيا. التخلي عن الأصل الضابط والمبدأ الناظم تأثر شليغل بالمحاضرات التي كان فيشته يلقيها عام 1796 في جامعة يانا متناولاً فيها أصول نظرية المعرفة وكذلك كان يحاور نوفاليس في صوابية التفسير الذي ساقه في شأن مثالية فيشته. ومن صلب هذه المحاورة انبثق اقتناع فلسفي أملى عليه التخلي عن منطق التأصيل الفلسفي الذي يفرض على الفيلسوف أن يعتمد مبدأ كونياً واحداً به ينتظم الوجود برمته. في الشذرات التي انطوى عليها كتاب “سنوات التعلم الفلسفية” (Philosophische Lehrjahre) أبان لنا أن البحث عن المطلق اللامشروط (das Unbedingte) مستحيل في قرائن الوجود التاريخي المشروط بالأمور النسبية (die Dinge). على غرار صديقه نوفاليس، كان يعلن أن ليس من مبادئ أصلية تصلح في جميع الأوضاع لكي ترشدنا إلى سبيل الحق، فضلاً عن ذلك ليست هناك براهين يمكننا أن نستند إليها، إذ إن كل برهان يرتكز على مسلمة تتقدم عليه، وهكذا دواليك حتى نسقط في المتاهة البحثية المهلكة. وليست مهمة الفلسفة أن تفوز بالأصل الأول والبرهان الأصدق، بل أن ترعى تلمسات العقل وارتقاءاته المتواضعة المتدرجة. ومن ثم، عوضاً عن التعلق المثالي الوهمي بأصل إنشائي يتعالى على كل الارتباطات الجدلية، آثر شليغل الاكتفاء بما يقترحه العقل من براهين متقابلة متدافعة ينوب بعضها مناب بعض (Wechselerweis) حتى يخرج الإنسان من ورطة الانسداد المعرفي. فأفضل المذاهب الفلسفية مذهب الشكية التاريخية الترابطية اللاتأصيلية التي تعاين اقتران الموجودات بعضها بعضاً وتعرض عن كل أصل ناظم. وشأن هذه الشكية شأن الشعرية الملحمية التي لا تبتدئ بطرف من الأطراف، بل بالوسط الدائري الذي يجمع الأجزاء من غير أن يسند إليها مقام الأصل. الحب الهادئ معنى الأخلاق اعتنى شليغل أيضاً بمسألة الأخلاق التي بناها على قاعدة الحب، وفي بحثه الذي عنونه “في حدود الجميل” (Über die Grenzen des Schönen )، رسم أن الحب أسمى أشكال الابتهاج الاستمتاعي الجمالي لا يختبره سوى الأشخاص الأحرار المتساوين المعاينين بهاءات الوجدان الإنساني، غير أن العلاقة الحبية ينبغي أن تتجسد في وصال جنسي صادق. أما المجتمع الذي يمكنه أن يحتضن طاقات الحب، فينبغي أن يجتاز حتماً طور الثورة الإصلاحية. خلافاً لكانط المحافظ، ناصر شليغل مبدأ العصيان التغييري وأيد شكلاً عقلانياً من أشكال العنف التطويري بيد أن التزامه السياسي في البلاط النمسوي جعله يخفف من جذريته الثورية ويستعيد بعضاً من حكمة كانط السياسية، بحيث إنه طفق ينتقد الدولة المنحوتة على صورة الآلة العديمة الإحساس، فينادي بدولة مسيحية عضوية تتألف من اتحادات مهنية تتحلق حول الملك الحاكم ومن هذه الاتحادات الكنيسة والمدرسة والأسرة وجمعية الحرفيين والتجار، إلخ. مصير الرومانسية في ظل تحولات شليغل الفكرية أكب شليغل في الأعوام الأخيرة من حياته على الاعتناء بتاريخ الآداب والتاريخ الأوروبي وفلسفة التاريخ وفلسفة الحياة وفلسفة اللغة، بيد أن فكره تطور تطوراً مذهلاً منذ الحقبة الرومانسية الأولى حتى محاضراته غير المكتملة في اللغة لأنه استهل مسيرته الفكرية فردانياً، ملحداً، راديكالياً. وما لبث أن ارتد إلى الإيمان الكاثوليكي وامتهن الصحافة والدبلوماسية التي تطلبت منه المسايرة والمداورة والتخفف من الاحتقان الفوراني الثوري. وبعدما خالط بيئة البلاط التي كان يلتئم فيها رهط من السياسيين ورجال الدين وأصحاب النفوذ المالي، تغيرت نبرته وتبدل أسلوبه حتى نسي ما قاله في غرة شبابه “ليس لنا سوى ناموس وحيد مطلق، الروح الحرة تغلب الطبيعة على الدوام”. منذ أن أعاد الباحثون اكتشاف الأبعاد الفلسفية التي انطوت عليها الرومانسية الألمانية في بداياتها، تبين لهم أن فريدريش فون شليغل أثر تأثيراً خفِراً في تطور الفلسفة المثالية الألمانية، فلم يكن شليغل فيلسوفاً بحسب معنى الاصطلاح التقني الدقيق، إذ كان يرفض البناء الأنظومي المتسق المتماسك. وكان ميله أشد إلى الشذرة ينثر فيها تهكمه الذي آلف بواسطته بين الخفة والفوضى واستخدمه في تعزيز عمله النقدي من بعد أن تبين له أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنازعات الوجودية التي انتابته. كان شليغل من أشد مخاصمي شلينغ يرشقه بسرقة أفكاره واستخدامها في إغناء أنظومته الفلسفية. وإذا كان البناء الفكري المنضبط عصرئذ من ميزة شلينغ، فالحدس الخلاق المغني من ابتكار شليغل. وتجدر الإشارة إلى أن هيغل انتقد تهكمية شليغل ونعتها بالتطرف النسباني الذي يعطل مطلقية القيم ويساوي بين جميع المبادئ. وآثر الباحثون أن يعرضوا عن الارتداد الذي طرأ على حياة شليغل عام 1808 وقاده إلى الإيمان الكاثوليكي ومناصرة عودة الملكية الأوروبية، لا سيما الفرنسية. وجل الدراسات تناولت أعمال الفترة الأولى وأبرزت فيها حرصه على بعث الأبحاث اللسانية الهندية وإغناء الفلسفة الألمانية بالحدس الفكري الفتاح. المزيد عن: شاعر ألمانيفلسفةشعرالوجودالرومانسيةالجماعةالماوراءالكائن 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الحقيقة والمدينة في نصوص رائد الكتابة المسرحية الأميركية next post لماذا تعيد إسرائيل التحقيق في “انفجار صور” بعد 40 عاما؟ You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024