سان - سانس (1835 - 1921) (غيتي) ثقافة و فنون كيف أصبح “كرنفال الحيوان” لسان – سانس أشهر قطعة موسيقية عند أهل السينما؟ by admin 26 أغسطس، 2024 written by admin 26 أغسطس، 2024 51 ربما كان يهدف من كتابتها في الأصل أن تكون مزحة تنفيسية اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب بالنسبة إلى أهل السينما، من الذين لا يهتمون بالموسيقى قدر اهتمامهم بالصورة المتحركة، والذين يعد مهرجان “كان” مربط خيلهم، لا ريب أن جزءاً من قطعة كميل سان – سانس الموسيقية المسماة “كرنفال الحيوانات“، هو المقطع الموسيقي الذي يرافق أذهانهم، طوال حضورهم المهرجان، ويترنمون به حتى من دون أن يشعروا بذلك… فهذا الجزء هو القطعة الموسيقية التي اختيرت، من دون أن يعرف أحد لماذا، لترافق عروضاً في هذا المهرجان، لكل فيلم يعرض، على خلفية صورة البساط الأحمر الصاعد إلى ذرى السينما بدرجاته التي تمثل حلم كل سينمائي على وجه الأرض. غير أن ما يسمعه أهل السينما هناك ليس سوى جزء يسير من عمل موسيقي كبير، وطريف، وكان ثورياً في زمنه، إلى حد أن مؤلفه أصر، بعد تقديم أول عمل خاص له، ألا يقدم ثانية ما دام أنه، هو، لا يزال على قيد الحياة. ظروف شديدة الخصوصية ومهما يكن من الأمر، فإن لتلحين سان – سانس “كرنفال الحيوان” ظروفاً غريبة ولافتة بعض الشيء تستأهل أن نرويها هنا: حدث ذلك في بداية عام 1886، إذ كان الموسيقي الفرنسي النابغة، والنابغة إلى درجة أنه كان يلقب في صباه المبكر بـ”موزارت الفرنسي“، قد أصدر كتاباً عنوانه “هارمونيا وميلوديا” شن فيه هجوماً كبيراً على زميله الألماني ريتشارد فاغنر وعلى أسلوب هذا الأخير في كتابة موسيقى “الأوبرا”. ولقد أثار الهجوم يومها ردود فعل عنيفة، ولا سيما من قبل أهل الموسيقى الألمان، ثم كان من سوء طالع سان – سانس أن توجه إلى برلين بعد فترة يسيرة من صدور كتابه ومن تفاقم الضجيج الذي ثار من حوله، ليقدم “كونشرتو” من تلحينه برفقة فرقة جمعيتها الفيلهارمونية. ولكن هنا، وبصرف النظر عن المستوى الفني الذي قدمه لجمهوره الألماني، بادره هذا بالصفير والصراخ والاستهجان كرد فعل قومي وفني، على موقفه السابق من فاغنر. وهكذا أحس صاحب “رقصة مقابرية” و”شمشون ودليلة” بالإحباط والفشل. وقرر أن يتوجه للإقامة بعض الوقت في فيينا عاصمة النمسا، ليسترجع أنفاسه. عودة المزاج الساخر هناك، وسط ألم سان – سانس واشمئزازه، ولكن انطلاقاً أيضاً من مزاجه الساخر الذي عرف به، وعلى أثر زيارات تأملية عديدة قام بها إلى حديقة الحيوانات، كتب تلك القطعة التي سيطلق عليها بنفسه صفة “فانتازيا حيوانية”. وربما كان سان – سانس يهدف من كتابة تلك القطعة الغريبة، في الأصل، أن تكون مزحة تنفيسية، غير أن الجمهور سرعان ما التقطها ليعدها من أجمل أعمال هذا الفنان، حتى وإن كان معظم هذا الجمهور قد ظل يجهل، إلى زمن طويل، أن سان – سانس كان، في وصفه للحيوانات المتعاقبة في “كرنفاله” قد رمى إلى السخرية من زملاء له، عبر استلهام جمل موحية منهم في مرافقة مسار هذا الحيوان أو ذاك: السلحفاة بالنسبة إلى أوفنباخ، الفيل بالنسبة إلى مندلسون وبرليوز… وهكذا، بل إنه لم يتوان عن التهكم من نفسه إذ أتى إلى وصف أحفورات ما قبل التاريخ الحيوانية، مازجاً جملاً من “رقصة مقابرية” (التي كانت في ذلك الحين وربما لا تزال حتى اليوم تعد من أشهر أعماله وأنجحها)، مع جملة موسيقية من روسيني وجملة أخرى من بيتهوفن. غايات تنفيسية “بريئة” إذاً، كل هذا جاء ليقول لنا إن غاية سان – سانس من كتابة هذا العمل كانت أقرب إلى التنفيس والسخرية. ومن هنا نراه بعدما عاد إلى باريس وقد ارتاح من أزمته، يقدم العمل كاملاً في عرض خاص لدى صديقه عازف التشيلو ليبوك، معلناً أمام الحضور أنهم سيكونون وحدهم الذين سيستمعون حقاً إلى هذا العمل الذي “لن أعود بعد الآن إلى تقديمه أبداً كما أنني سأوصي بألا يقدم أبداً بعد موتي” كما قال وهو واثق مما يقول. وهكذا، على رغم رد الفعل الإيجابي الصاخب الذي أثاره العمل، أصر سان – سانس على وضعه على الرف. وكاد ينساه حقاً لولا ما حدث بعد ذلك من أمر لم يكن ليتوقعه أبداً وتقبله تدريجاً على شيء من المضض. وهو كما تقول لنا الحكاية، إن راقصة البالية الشهيرة آنا بافلوفا، ومن دون أن تكون على علم بما قرره الموسيقي الكبير الذي كانت لا تخفي إعجابها به وبفنه بصورة عامة، استخدمت المقطع المخصص لـ”البجعة” في “كرنفال الحيوان”، لتبني عليه رقصتها “موت البجعة” التي ربما تعد إلى جانب “البوليرو” الذي رقصت عليه إيدا روبنشتاين، أشهر قطعة رقص منفرد في النصف الأول من القرن الـ20. وهكذا، عاد “كرنفال الحيوان” إلى الحياة، من طريق آنا بافلوفا، ولكن أيضاً بفضل تقديمه، جماهيرياً وكاملاً، أمام الجمهور للمرة الأولى في عام 1922، أي بعد عام من وفاة صاحبه. أجواء الحيوانات وأصواتها و”كرنفال الحيوان” كما يمكن أن يكون قد بدا واضحاً حتى الآن، قطعة موسيقية متكاملة تتألف من مقاطع عديدة متتالية، تؤلف في مجموعها ما يشبه استعراض بعض أهم الحيوانات، في استلهام لأجوائها وأصواتها ومزاجها العام، إضافة، كما أشرنا، إلى استلهام الموسيقيين من المعاصرين لسان – سانس وبعض الكبار من السابقين أيضاً، في مناخات هذا المقطع أو ذاك. وهكذا، على مسار العمل تطالعنا أولاً مشية الأسد الملوكية في إيقاع مضبوط وأنيق، وننتقل بعد ذلك إلى نوع من الفوضى والفكاهة في قطعة تالية تضعنا أمام الديك والدجاجة، قبل أن تتوالى أمامنا شتى أنواع الحيوانات، وصولاً إلى السلاحف التي تعيدنا مشيتها البطيئة والمترددة إلى أجواء أوفنباخ في “أورفيوس في الجحيم”، ثم ننتقل إلى الفيلة ومشيتها المتثاقلة على إيقاع مستقى مباشرة من “لعنة فاوست” وقد عهد بتنفيذها إلى الكونترباص. وبعد حركة الفيلة المتثاقلة هذه نجدنا مباشرة أمام قفزات الكانغارو المتسارعة المباغتة، ومن الكانغارو إلى حوض السمك، إذ تصبح الموسيقى شفافة رقراقة على مثال حركة مياه عذبة تحيلنا إلى انزلاق الأسماك في هدوء ودعة أبديين. وفي المقطع الثامن المعنون “شخصيات ذات آذان طويلة”، نجدنا أمام آلتي كمان تتحاوران في ما بينهما، مقلدتين معاً تثاؤب الحمار ونهيقه في الوقت نفسه. وبعد مقاطع خفيفة منها “كوكو في عمق الغابة” و”طيور” تتيح لنا أن نصغي إلى صفيق الأجنحة وصوت الريش الناعم ينطلق في الأجواء، يطالعنا المقطع الـ11 وعنوانه “عازفو البيانو”، وهو مقطع تبدو طرافته من منطلق دمج سان – سانس لزملائه العازفين، فيه، بين صنوف الحيوان، ومن “عازفي البيانو” ينطلق الموسيقي إلى “أحفورات” ما قبل تاريخية، إذ يعرج على موسيقاه نفسها كما تجلت في واحد من مقاطع “رقصة مقابرية” ثم يستعين بتلميحات أخرى قبل أن يصل إلى جملة من “حلاق إشبيلية”. لو لم يلحن غيره! أما المقطع الـ13، وهو نفسه الذي يحمل عنوان “البجعة” الذي أثار إعجاب آنا بافلوفا أكثر من غيره، فهو مبني أساساً على لعب تؤديه فيولونشيلا منفردة، وفي عمقه إشارات تحيل إلى تشايكوفسكي… وهذا ما يجعل كثراً من الهواة يخلطون بين موسيقى “موت البجعة” من تأليف سان – سانس وبعض مقاطع “بحيرة البجع” لتشايكوفسكي. والحال أن هدوء موت البجعة يمهد هنا للوصول إلى المقطع الـ14 والأخير، والذي هو أشبه ما يكون بـ”كريشندو” تصاعدي، سرعان ما تختلط فيه شتى الجمل الموسيقية المهيمنة على القطع السابقة كلها، وكأن كرنفال الحيوان هذا قد اختتم باجتماع الحيوانات كلها واختلاطها معاً، في حركة شيطانية صاخبة تبدو شديدة القرب من بعض عوالم أوفنباخ. والحال أن هذا المقطع الأخير يحمل خصائص تجمع بين القوة والطرافة، والقدرة الخلاقة على محاكاة موسيقى آخرين، إذ يبدو العمل هنا أشبه بأنطولوجيا موسيقية مبدعة. ولقد قال مؤرخو الموسيقى دائماً إن سان – سانس لو لم يكتب في حياته سوى هذا المقطع الأخير، لاستحق أن يدخل سجل الخلود في عالم الموسيقى. المزيد عن: سان – سانسآنا بافلوفاموت البجعةكرنفال الحيواناتريتشارد فاغنررقصة مقابرية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل بدأ ثاني أكبر اقتصاد في العالم في التراجع؟ next post “فضائيون” جيمس كاميرون وأعظم تتمة في تاريخ الخيال العلمي You may also like “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 أهم إصدارات الكتب في بريطانيا لنوفمبر 2024 15 نوفمبر، 2024