Stock Photo / ستيغ داغرمان ثقافة و فنون في سبعين رحيله… ستيغ داغرمان طفل الأدب السويدي الرهيب by admin 18 ديسمبر، 2024 written by admin 18 ديسمبر، 2024 23 تأمله البصير في زيف العالم وشروط الكينونة دفعه إلى الانتحار المجلة / أنطوان جوكي ثمة كتّاب كبار تتسلط اللعنة عليهم طوال حياتهم، ولا تفارقهم حتى بعد وفاتهم. هذه هي حال الكاتب السويدي ستيغ داغرمان الذي، بعد عبور مؤلم وخاطف في هذه الدنيا، ختمه بنفسه، لفّه النسيان بسرعة، ولم تتمكن الأعمال الأدبية والشعرية المجيدة التي تركها خلفه، والترجمات التي حظيت بها، من إخراجه من دائرة الظل. والدليل؟ حلول مئوية ولادته العالم الماضي في صمتٍ معيب لم تقطعه سوى مقالات معدودة، هزيلة، مقارنة بأهميته. لحسن الحظ، يمنحنا الرحيل المبكر لهذا الكاتب، عام 1954، فرصة الاحتفاء به اليوم، نظرا إلى مرور سبعة عقود بالتمام على ذلك. فرصة نغتنمها لتسليط الضوء على مسيرته الثرية وقيمة ثمارها الأدبية والشعرية التي تشكّل، بمضمونها وتتابعها، خير تفسير لقراره وضع حد لحياته، وهو في ذروة عطائه. أول الأسباب التي تقف خلف إقدام داغرمان على الانتحار في سن الحادية والثلاثين، هو من دون شك معاناته، منذ نعومة أظفاره، من حالة اكتئاب عميقة رافقته مثل لعنة حتى نفَسه الأخير. ومع أنه سعى جاهدا للشفاء منها، إلا أن حساسيته الشديدة تجاه الأحداث المؤلمة التي عاشها أو عايشها، كانت تعيده دوما إلى فلكها المعتم، قبل أن يرى يوما في الموت فرصة خلاص، فيعانقه. السعادة المستحيلة ابن عاملَين فقيرَين افترقا باكرا، أمضى داغرمان طفولته في منزل جدّيه، في الريف، قبل أن يحضره والده للعيش معه في ستوكهولم. ومع أنه كان تلميذا متفوقا، إلا أنه رأى في المدرسة سجنا، فلجأ إلى حياة الشارع والسينما لاختبار حريته وتلطيف اكتئابه، ثم التحق بـ”حلقة الشباب النقابي” عام 1941، حيث التقى رفيقة دربه القصير، آن ماري غوتزه، التي لعبت مع والدها، الناشط الفوضوي، دورا محوريا في معانقته الأطروحات الفوضوية. حساسيته الشديدة تجاه الأحداث المؤلمة التي عاشها أو عايشها، كانت تعيده دوما إلى فلك الكآبة المعتم، قبل أن يرى في الموت فرصة خلاص بين عامي 1943 و1949، كتب داغرمان جميع أعماله الأدبية، التي تتألف من أربع روايات، وأربعة نصوص مسرحية، وعدد كبير من القصص، إضافة إلى عشرات القصائد والمقالات. منذ روايته الأولى، “الأفعى” (1945)، التي صوّر فيها حياة مجموعة من الشبان خلال الحرب العالمية الأولى، مركزا على الخوف الذي سينتابهم على جبهات القتال، ومحاولاتهم العبثية لتبديده، يحضر موضوع الانتحار. رواية كرّسته فور صدورها كأحد وجوه الموجة الأدبية السويدية الجديدة، واستتبعها برواية أخرى لا تقل أهمية، “جزيرة الهالكين” (1946)، قارب فيها بطريقة مجازية موضوعَي الفاشية والكفاح ضد كل وجوه السلطة. في العام نفسه، عبر ألمانيا المنكوبة، واستقى من تجربته فيها كتاب “خريف ألماني” (1947) الذي جلب له شهرة واسعة تجاوزت حدود بلده. غلاف رواية “الأفعى”. مجموعته القصصية، “ألعاب ليلية” (1948)، حققت النجاح نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى روايته الثالثة، “الطفل المحترق” (1948)، التي كتبها في مقاطعة بريتانيا الفرنسية، “في عزلة كبيرة”، وقدّم فيها مراهقا يدفعه اكتئابه ويأسه إلى كتابة رسالة انتحار يقول فيها كراهيته لعالم تقطنه “كلاب صغيرة، بمشاعر صغيرة، وملذات صغيرة، وأفكار صغيرة”. بعد رواية أخيرة، “هموم زفاف”، انتقل إلى الكتابة المسرحية، فوضع نصه الشهير، “الرجل المحكوم بالموت”، الذي يعكس، منذ عنوانه، هوس الكاتب بفكرة الفناء، ثم ثلاثة نصوص أخرى (“ظل مارتا”، “الوصولي”، “لعبة الحقيقة”)، ومجموعة قصائد ومقالات، قبل أن يعاني من عجز عن الكتابة انطلاقا من عام 1949، سببه اعتقاده أنه لم يرق إلى مستوى توقعات قرائه منه. وبعد أربع محاولات روائية مجهضة، دخل إلى مرأب منزله في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 وأقدم على الانتحار. غلاف رواية “ألعاب الليل”. لفهم فعلته هذه، علينا أن نعرف أن داغرمان تاق إلى أن يكون كاتب فجر جديد ومليء بالوعود. لكن مع تطور عمله الكتابي، استحوذت على نصوصه فكرة استحالة السعادة، الفردية والجماعية، قبل أن تنزلق هذه النصوص كليا في اتجاه ما سمّاه “ديكتاتورية الحزن”. وهذا ما يفسّر الشعور بالذنب الذي لازمه طوال حياته، مع شعور بالخزي اجتاح جميع كتاباته، بدءا من قصته الأولى، “الكلب والقدر” (1941)، التي تناول فيها بمرارة قرار وطنه ملازمة الحياد خلال الحرب العالمية الثانية. قصة تفتح ديوانه القصصي، “شاطئنا الليلي”، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثا عن دار “موريس نادو”. GettyImages / جندي يكرّم رفيقه الراحل في بلغراد. خزي اجتماعي على المستوى الشخصي، تألم داغرمان أيضا من خزي اجتماعي تعكسه معاناة شخصياته الروائية والقصصية في صغرها من أصولها الريفية، من هجران في سن الطفولة، ومن نشأتها في فقر مدقع، مثله تماما. شخصيات لن يشفيها خجلها من شعور الخزي هذا، حين تبلغ سن الرشد، بل يضاعف عذابها. من هنا ذلك البحث عن عزاء في جميع أعماله، خصوصا في النص الذي خطّه عام 1952 تحت عنوان “حاجتنا إلى العزاء يتعذر إشباعها”، وربط فيه بين الراحة المستحيلة والعوز التام الذي عاشه. نص يقول فيه: “أنا محروم من كل شيء. (…) لذلك لا يمكنني أن أكون سعيدا، فالإنسان الذي يخشى أن تكون حياته مجرّد تيه عبثي نحو موت محتوم، يعجز عن السعادة”. ويضيف: “لم أتلق أي ميراث. لم أورَّث غضب المشككين المقنّع، حِيَل العقلانيين الذكية أو صدق الملحدين المحموم”. باختصار، لم يتلق أي شي يمكن أن يمنحه تماسكا أو عزاء، باستثناء موهبته الكتابية. لكن هذه الموهبة كانت كل شيء إلا مصدر راحة له: “يا له من عزاء رهيب يضاعف خمس مرات شعوري بالعزلة”. بين 1943 و1949، كتب داغرمان جميع أعماله الأدبية، التي تتألف من أربع روايات، وأربعة نصوص مسرحية، وعدد كبير من القصص، إضافة إلى عشرات القصائد والمقالات لا عجب بالتالي في القلق الوجودي الذي تسلط عليه طوال حياته القصيرة وصبغ بدوره أعماله كافة. قلق اتخذ شكل أفعى تنساب بخبث من رواية إلى أخرى، ومن قصة إلى أخرى، زارعة الذعر في طريقها، بدءا من الرواية التي تحمل عنوان “الأفعى”، وانتهاء بقصة “الرجل الغريب” (ديوان “شاطئنا الليلي”) التي نشاهد فيها ثعبانا يتلوى ويدور، ويتابع تململه واهتزازه، مثل الخوف، حتى حين يُقطع رأسه. ثعبان يدعونا داغرمان إلى الإمساك به بكلتا يدينا لأن “مأساة الإنسان المعاصر تكمن في كونه فقد شجاعة الإحساس بالخوف”، و”تخلى عن كل ما يشكّل مصدر قلق له”، فصار “عديم التفكير”، بخلاف “الرجل القلِق (…) الذي يذهب إلى أعماق خوفه، ولا يهابه كالآخرين، لأنه يجالسه باستمرار”. وهذا الرجل هو الشاعر، في نظره، لأنه “الأكثر قلقا” في طبيعته، ولأن الكتابة هي قبل أي شيء “تدجين الخوف، والتحول إلى ساحر ثعابين”. غلاف رواية “جزيرة المحكومين”. في أعمال داغرمان، يبدو السفر أيضا كلي الحضور، سواء كان حقيقيا أو خياليا. السفر إلى الصين الذي لطالما حلم به، لكن بدلا من إنجازه، توجه إلى ألمانيا عام 1946 حيث استخلص من تجواله بين أنقاض مدنها كتاب “خريف ألماني”. السفر المسارّي، كما في قصة “رحلة يوم السبت” (ديوان “برد عيد مار يوحنا”) التي تختبر فتاة فيها مشاعر الحب، للمرة الأولى، مع راكب قطار مجهول. السفر الفاشل، كذلك الذي ينجزه لورد على متن باخرة بحثا عن “مياه خضراء حقا” (عنوان القصة) لن يعثر عليها، أو ذلك الذي نقرأه في قصة “الرحيل” (ديوان “شاطئنا الليلي”) ويأخذ شكل فرار رجل من منزله، لأسباب تبقى غامضة، بعد محوه كل آثار وجوده في هذه الدنيا. والسفر الأخير، المحتوم، الذي يقتصر على رحلة قصيرة يصفها الشاعر في قصيدة محفورة على قبره، يقول فيها: “الموت سفر وجيز من غصن شجرة إلى قسوة الأرض”. shutterstock / دمى ماتريوشكا الروسية التقليدية وهذا ما يقودنا إلى رؤية داغرمان السلبية للوجود، وإلى تصويره مسلسل هذا الوجود على شكل دمية روسية (ماتريوشكا) تخفي داخلها دمى متناقصة الحجم، حين نبلغ الدمية الأخيرة، ثمة “قفزة إلى حفرة كبيرة”. لكن قبل أسابيع قليلة من قفزه إلى داخل هذه الحفرة، كتب نصا متوهجا بعنوان “ألف عام مع الله”، يشكّل مكثّفا لأفكاره، وفي الوقت نفسه، يسجّل قطيعة مع اليأس الذي نخره طوال حياته. نص يقترب في أسلوبه من كتابات كافكا، ويسرد داغرمان فيه زيارة ليلية يقوم الله بها للعالِم نيوتن، وتُزعزِع قانون الجاذبية، فتتطاير الأشياء داخل منزل نيوتن، وتدور عقارب ساعته بجنون، قبل أن تشتعل النيران فيها. قصة سوريالية كان يمكن أن تكون مجرد نص هزلي لولا أنها لا تستحضر، شكلا ومضمونا، تلك الجاذبية المزدوجة المعنى التي تسمّر الإنسان على الأرض وتحول دون انعتاقه. مارس الكتابة بصرامة شديدة من منطلق كونها بحثا عن الحقيقة في عالم يسير حتما نحو الهاوية كاتب ملعون؟ العودة إلى داغرمان اليوم ضرورية إذن، لأنه احتك بجميع الأنواع الأدبية، مجسدا في طريقه الصورة المفارِقة للكاتب الملعون، ومارس الكتابة بصرامة شديدة من منطلق كونها بحثا عن الحقيقة في عالم يسير حتما نحو الهاوية. ضرورية أيضا لأنه نموذج الإنسان الثائر الذي فضح بعنف بصير زيف العالم، وضمن وصفه وضعا بشريا لا يطاق، أكد باستمرار: “لا قبول لوضع غير مقبول”. ضرورية أخيرا لأن منبع ثورته نزعة إنسانية جارفة جعلته يفضّل حتى النهاية صداقة الفقراء على أنانية الأثرياء، والقيم الحقيقية على الأيديولوجيات القاتلة، كما جعلته يعانق الأدب باعتباره أداة تعرية للواقع، وأداة مقاومة لكل أنواع العبودية، وبوصفه التزام قضايا المحرومين ومجاورتهم، حيث التقاسم الحميم للألم يحدد الفضاء الوحيد الممكن للكتابة. لذلك، يوم شعر أن كتابته معرّضة لخطر أن تصبح مجرد أسلوب ترفيهي، رمى القلم من يده. Alamy Stock Photo / ستيغ داغرمان، 1950. معتمة، تبهرنا أعمال داغرمان بعتمتها المنيرة، قبل أن تلقي علينا نورا كاشفا يتصاعد من قصائد أخيرة يتخلى فيها عن قناع الكاتب، عن حبكة الرواية وسيكولوجيا الشخصيات، للتوجه إلى قارئه بضمير المتكلم، في كتابة تقف على حدود الحياة والموت. قصائد حادة ورثائية تستحضر “كآبة أولئك الذين أحبوا في العزلة”، وتهبنا معرفتهم العميقة، خصوصا “متتابعة بيرغيتا”، وهي نص طويل يتعرى الشاعر العاشق بين سطوره، وبعد فرزه المعطيات الوجودية للمعاناة، يخطو فوق هشاشته، نحو ذلك المكان الذي تفتحه علاقة اتحاد بالحبيبة. نص يواجه داغرمان فيه حقيقة فنائه بلا قلق، مسلحا بهذا الحب، وأيضا بكتابة القصيدة نفسها، التي هي “كتابة الحياة”. المزيد عن: الحرب العالمية الاولى الرواية الانتحار 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “المجلة” تدخل إلى “فرع فلسطين”… أخطر مقرات مخابرات الأسد next post القوات الإسرائيلية تتوغل بعمق 9 كيلومترات داخل ريف درعا في جنوب سوريا You may also like سجالات بيرانديللو المسرحية الأخروية عند بوابة المقبرة 18 ديسمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: حُلي من مدافن البحرين... 18 ديسمبر، 2024 الباليه الفرنسي الذي انتظر 60 عاما ليوقظه الحريق 18 ديسمبر، 2024 (23) ممثلا كرهوا أفلاما قاموا ببطولتها 18 ديسمبر، 2024 استعادة فرنسية لإرث ابن خلدون المغاربي في سياقه التاريخي... 17 ديسمبر، 2024 فيصل دراج يكتب سيرة الذات والجماعة في “كأن... 17 ديسمبر، 2024 ما الذي بقي من إرث المسلمين الأفارقة في... 17 ديسمبر، 2024 “الطاولة السوداء”: حوار الألوان والتناقض في رؤية ماتيس 17 ديسمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 16 ديسمبر، 2024 الشاعر المغربي جواد الهشومي يكتب صرخة جيل الشباب 16 ديسمبر، 2024