JOEL SAGET - AFP / الكاتب أوبير حداد. ثقافة و فنون في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني طفل by admin 19 نوفمبر، 2024 written by admin 19 نوفمبر، 2024 32 حقبة ألمانيا النازية كاستعارة لعنف زمننا المجلة / أنطوان جوكي خمسة عقود مرّت على معانقة أوبير حداد الكتابة، وما برح هذا الشاعر والروائي يحفر داخل الأدب ثلمه الخاص، مبديا في ذلك مهارات كتابية وسردية تفسّر موقعه الفريد والمتقدم داخل المشهد الأدبي الفرنكوفوني. فرنسي من أصول تونسية وجزائرية، وطن حداد هو الخيال. وإذ يلامس رأسه السحاب، فإن قدميه لا تفارقان أرض الواقع، كما تشهد لذلك جميع رواياته التي عالج فيها موضوعات مهمة ساخنة، لكن برقّة شعرية وإنسانية بصيرة تمنحان نصوصه مذاقها الخاص وكل قيمتها. جديد هذا الكاتب رواية بعنوان “السمفونية الأطلسية”، صدرت حديثا في باريس عن دار “زولما”، ويتخذ فيها من الحرب العالمية الثانية خلفية لسرد قصة طفل ألماني، وليقارب من خلاله، بكلمات رقيقة صائبة تشكّل ميزة أسلوبه، موضوع الأطفال الذين يضحّى بهم منذ فجر التاريخ على مذبح الكراهية وعنف البشر. اسم الطفل كليمنس، وقصته تبدأ في ثلاثينات القرن الماضي، في مدينة ريغنسبورغ، جنوب ألمانيا، حيث ولد لعائلة بورجوازية مثقفة، بملامح تجعله يبدو مثل جنّي صغير خرج توا من أسطورة ألمانية. لكن هذه الملامح ليست ميزته الوحيدة، فهو يتمتع أيضا بموهبة موسيقية مدهشة سينميها ويصقلها مع جارته، عازفة البيانو الشابة هاندا، التي تحتضنه وتلطّف عزلته الناتجة من كونه يعيش بمفرده مع أم مضطربة تغادر المنزل كل يوم ولا تعود إلا عند أفول الشمس. انفصال مع وصول النازيين إلى الحكم وتشديد قبضتهم على ألمانيا، تنقلب حياة كليمنس رأسا على عقب لأن أمه، القلقة على حياته ومستقبله، ستحرمه منها ومن هاندا، حين ترسله للعيش في دار قريب عجوز، محمّلة إياه كمتاع وحيد كمان جدّه الذي بات قادرا على استنطاق أوتاره. انفصال ضروري لكن مؤلم للغاية لأنه “حين تعوي الذئاب في الخارج، لا ملاذ أرقّ من صدر الأم”، ولأن هذه الأم لا تلبث أن ترمى في مصح، قبل أن تخضع لـ”القتل الرحيم” الذي مارسه النظام النازي على نطاق واسع على “المعوقين عقليا وجسديا” بحجة الحفاظ على نقاء العرق الآري وتفوقه. قصة طفل ألماني يقارب الكاتب من خلاله موضوع الأطفال الذين يضحّى بهم منذ فجر التاريخ على مذبح الكراهية وعنف البشر في منزل هذا القريب، الذي يقع في قلب غابة، يمضي كليمنس معظم وقته في الطبيعة، التي تحتضنه بدورها مثل أم، وتعاونها في ذلك السيدة فريدريك، مدبّرة المنزل، التي ترى في هذا الفتى الذي يتمتع “بجمال غريب وميل إلى الحلم أمام أدنى زهرة مفتونة بالشمس”، تجسيدا للبنات السبع أو الثماني اللواتي لطالما حلمت بإنجابهن، فتحبّه مثل ابنة لها. لكن ما أن يبدأ كليمنس في التأقلم في هذا المكان حتى يضطر إلى الفرار منه في ليلة مظلمة إثر رؤيته بأم عينه عملية قتل هذا القريب والسيدة فريدريك على يد عناصر من حركة “شباب هتلر” التي بات من المتعذر كبح جنونها القاتل. أثناء سيره بلا وجهة محددة، يراه ضابط كبير في الجيش الألماني ويشفق عليه، فيتوجه به إلى معهد تعليمي خاص في مدينة كاسيل ويكلف مديره إيواءه والاعتناء به. في هذا المكان، “سيرتجف كليمنس طويلا من برد داخلي بين شراشفه الخشنة التي لا تصلح سوى لصنع كفن”، قبل أن يعاود تدريبه على الكمان، فـ”يمضي ساعات طويلة في الكنيسة الباردة والرطبة، مركّزا على عزفه إلى حد ينسى فيه التنفس”. ولا عجب في ذلك، فمع كمان جدّه نسج هذا الفتى رابطا توأميا. أما البراعة التي يبديها في تأدية أصعب المعزوفات الكلاسيكية، فتسمح له بالإفلات من العنف الذي يحاصره، ومن خطر التجنيد القسري في حركة “شباب هتلر”. عودة كليمنس إلى الموسيقى تحصل بفضل أستاذة الموسيقى في المعهد، سوزان فهرنهورتس، التي لن تكون فقط رابطه الوحيد مع العالم الخارجي، بل أيضا صديقة تنجح في التأسيس لتواطؤ عميق معه عبر دعوته باستمرار إلى محاورة عزفها على البيانو. في أحد الأيام، بينما كانت الطائرات الحربية البريطانية تعيث قتلا ودمارا في مدينة كاسيل، يهرع كليمنس إلى صالة الموسيقى لإجبار سوزان على النزول معه إلى الملجأ. و”حين يراها تعزف على البيانو، غير مبالية بالموت المحدق بها، يخرج الكمان من علبته ويضبط، بضربة من قوسه، عزفه على عزفها. وكما لم يحدث ذلك من قبل، يؤديان تلك المعزوفة بابتهاج يشكّل خير جواب على الجحيم الزاحفة”. Heinrich Hoffmann – Getty Images / العلم النازي يرفرف فوق ميناء شيربورغ بعد احتلالها في 18 يونيو 1940. موسيقى القنابل فعلا، لا تلبث موسيقى رهيبة أن تصل من الغرب، موسيقى قنابل الحلفاء التي ستنهال مثل المطر على المدن الألمانية وتدفع البلاد إلى الهاوية، مورطة أقدار كل مَن فيها بالحرب، بمن في ذلك كليمنس: “نظرا إلى تأثره بما كان يشاهده أثناء مشاركته في عمليات رفع الأنقاض داخل الأحياء المنكوبة، كان كليمنس متعطشا للموسيقى، فهي وحدها كانت تبدد كوابيسه. لغة شعرية تستحضر بجمالياتها وصورها نصوص هوفمان ونوفاليس وهايني وسائر الرومنطيقيين الألمان لكن اكتشافه الرهيب تحت الركام ذلك الوجه الذي داعب رخاء بشرته بأطراف أصابعه، تغلغل بقسوة تحت جلده”. هكذا تبدأ وجوه من الماضي بالتسلط عليه، خصوصا وجه “ماريا أنكا (أمه) ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين مثل سماء صافية فوق سنابل قمح”، ووجه هاندا “بسمفونية شعرها المتساقط أمواجا سوداء على مفاتيح البيانو”. لكن حين “يرى القنابل تتساقط والأرواح تتطاير، النهارات تنطفئ والليالي تشتعل، الوجوه المألوفة تتحلّل مثل رسائل ملقاة في النار”، يدرك أنه “يتعذر إنقاذ أي شيء من الأحلام أو الذكريات”. الكاتب أوبير حداد لذلك، حين يرسله النازيون إلى ساحل النورماندي للخدمة العسكرية في واحدة من قلاع “الجدار الأطلسي”، مثل آلاف القاصرين الألمان، ويفاجئه الإنزال العسكري للحلفاء على هذا الشاطئ، يواجه إعصار الموت بنشيد أوتار كمانه: “مثل إله طفل، يخرج للعزف، على رغم الصراخ الذي نظن أننا نسمعه حين يكشّر الموت عن انيابه. وبينما يهطل وابل من الفولاذ حوله، يعزف للحظات، لدقائق، ربما إلى الأبد”، مديما معجزة الموسيقى طويلا، طويلا، بعد تلك الرصاصة التي تخترق قلبه. بعد ثمانين عاما على مقتل كليمنس ونهاية تلك الحرب الشعواء، “لم يعد الجدار الأطلسي سوى أطلال، لكن البحر لم يفقد موجة من أمواجه”، يكتب حداد في خاتمة روايته. مرارات مسارّية وتاريخية، تفتننا “السمفونية الأطلسية” أولا باللغة التي يشحذها صاحبها فيها لسرد قصتها. لغة شعرية تستحضر بجمالياتها وصورها نصوص هوفمان ونوفاليس وهايني وسائر الرومنطيقيين الألمان، وتشكّل خير ركيزة لما تسيّره من وصف دقيق لأهوال الحرب العالمية الثانية، وقبل ذلك، لأفعال مرتدي “القمصان البنية” الذين “أخضعوا الرأي العام في المانيا لدعايتهم القاتلة خلال الثلاثينات، فصفّق لهم وانساق خلف ما سمّوه بـ”الانتقام البطولي للشعب الألماني”، ورفض أن يرى أو يسمع أي شيء عن الفظائع التي كانوا يرتكبونها”، وتلك التي كان من الواضح أنهم سيرتكبونها لاحقا. FRANCE PRESSE VOIR -AFP / هتلر في برلين: صورة تظهر هتلر مع غورينغ وهيملر بجانب فندق إكسلسيور في أوائل الثلاثينات. لذلك، لا يهمل حداد التذكير بمرارة، داخل روايته، بأنه كان ينبغي انتظار هزيمة ألمانيا في الحرب كي يفتح أبناؤها عيونهم على هذه الفظائع، فيصوّر أولئك الناجين منهم الذين “غادروا بيوتهم المدمرة على عجل، حفاة الأقدام أحيانا”، ملاحظا أنهم باتوا يجرؤون على “تأمل جنودهم المتقهقرين بصمت، من دون أن يؤدّي أي واحد منهم التحية الهتلرية لهم”، لأنه بدلا من “النصر والسلام لألف عام” اللذين وُعِدوا بهما، “فقدوا كل شيء، الممتلكات، المنزل، الأمل…”. وهو سيناريو يستحضر بقوة مأساة أبناء غزة والجنوب اللبناني اليوم. تنتظرنا في “السمفونية الأطلسية” قصة آسِرة وحبكة سردية محكمة وغنية تمنح نصها كل كثافته الاستثنائية تفتننا “السمفونية الأطلسية” أيضا بمقابلتين ناجعتين يجريهما حداد على طول نصّها: الأولى بين قرقعة السلاح وسحر الموسيقى التي يعزفها كليمنس الطفل، بمفرده أو مع معلمتيه هاندا ثم سوزان. والأخرى بين قسوة الحرب ورقة الطبيعة التي يسهب الكاتب في وصفها، تارة بطريقة احتفائية، وطورا بطريقة رثائية: “كان الخريف قد حلّ. فصل قاسٍ في زمن الحرب، الأجمل في الواقع بكل هذا الذهب المتفشّي هنا وهناك، بالعمق المنازع للخضرة الذي يعززه ذلك الصدأ الماسي، تلك التبقعات الزمردية في كل مكان، تدرّجات الأرجواني لأشجار اللوز والقيقب، نزيف الكرمة على أنقاض سور، أو تلألؤ سياج مرجاني على تلال رمادية زرقاء”. وكما في جميع أعماله السردية السابقة، نقع في روايته الجديدة على جمل كثيرة لا يسعنا عدم تسطيرها لدى قراءتها، نظرا إلى وقعها القوي في سياقها، وخارج أي سياق. كقوله: “يتمتع الحالم بكل المواهب، يطفو ويتحول مثل مولود جديد في بحار الحلم، لكنه لا يتذكر الخافيات للحظة إلا حين توقعه صحوة مفاجئة في مصيدة الواقع”؛ أو قوله: “وحيدة، مهدَّدة في تميّزها الجريح، ثمة على هذه الأرض الملعونة كائنات تحيا في تناغم مع المكتوم”؛ أو قوله: “لا شيء أكثر رعبا من تخفّي الأشباح، من أنفاسهم المستشعَرة، حين يسود الصمت على الأحياء”. غلاف رواية “السمفونية الأطلسية”. باختصار، تنتظرنا في “السمفونية الأطلسية” قصة آسِرة وحبكة سردية محكمة وغنية تمنح نصها كل كثافته الاستثنائية. رواية “تُسمعنا موسيقى فرانز ليست وموزار وشتراوس داخل ضوضاء عالمنا” (الناشر)، وتحاكي بقوة عنف زمننا الراهن في قراءتها حقبة ألمانيا النازية بعيون أولئك الذين لم يفعلوا أي شيء لقدومها، لكنهم عانوا مباشرة من وطأة فظائعها، وفي مقدمهم الأطفال: “لم يكن ينتظر أي شيء محدد، أي شيء له وجه بشري. لم يكن أحد يقلق عليه، هل من شخص حيّ كان يتذكّر كليمنس أوبردورف في تلك الساعة المبهمة؟ إنه لمن المريح ألا يفتقدنا أحد. حين لا نعود نخشى إحزان صديق وفيّ، أم غير محِبّة، أب عديم الفائدة، يصبح الموت العنيف أشبه بانفجار فقاعة صابون: حِسّ لا يُسمع في مشهد لامتناه”. المزيد عن: العنف الذاكرة الحرب الحرب العالمية الثانية الرواية فرنسا الموسيقى الموت 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عجائب خرق القانون وطرائف النصب في مصر next post براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم You may also like محمد علي اليوسفي: كل ثورة تأتي بوعود وخيبات 22 ديسمبر، 2024 سوريا والمثقفون الانتهازيون: المسامحة ولكن ليس النسيان 22 ديسمبر، 2024 حين انطلق “القانون في الطب” غازيا مستشفيات العالم... 22 ديسمبر، 2024 “انقلاب موسيقي” من إيغور سترافنسكي في أواخر حياته 21 ديسمبر، 2024 الإرهابيون أرسلوا رأس الصبي إلى أهله في “الذراري... 21 ديسمبر، 2024 “هند أو أجمل امرأة في العالم” لهدى بركات:... 21 ديسمبر، 2024 جواد الأسدي يسجن شخصياته المقهورة في “سيرك” 21 ديسمبر، 2024 عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في “بدم بارد” 21 ديسمبر، 2024 كاتبات يابانيات “متغربات” يتحدين تقاليد السرد العريق 21 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن: حسن الصباح والإسماعيلية…... 20 ديسمبر، 2024