ثقافة و فنونعربي فيشته فيلسوف الأنا الحر by admin 12 مايو، 2023 written by admin 12 مايو، 2023 91 كان يعتني بالعالم الخارجي والآخر والغيرية وبالعلاقات الناشطة بين الذوات الإنسانية اندبندنت عربية \ مشير باسيل عون مفكر لبناني يوهان غوتليب فيشته (1762-1814) ابن فلاح حرفي وضيع، نشأ في مقاطعة الساكس الألمانية، ودرس اللاهوت في جامعة يانا (1780-1784)، وما لبث أن اضطلع بمهنة التعليم الخاص في مدينة تسوريخ. عاد إلى يانا أستاذاً جامعياً، ولكنه رشق بالإلحاد بسبب من كتاباته الفلسفية الجريئة، فاضطر إلى مغادرة المدينة. درس في مدينة إرلانغن. غير أن الغزو الفرنسي البونابارتي أجبره على الانكفاء والتحريض على مقاومة المحتل. في إثر ذلك، دعي إلى برلين حيث ألقى في الأكاديميا الشهيرة خطابه الموجه إلى الأمة الألمانية (1807-1808). في عام 1810 عين رئيس أكاديميا برلين، وطفق يعاني معارضة زملائه اللامعين في الحقل الفلسفي، ومن أبرزهم هيغل (1770-1831) وشلينغ (1775-1854). غير أن كانط (1724-1804) كان الفيلسوف الأبرز الذي طبع فكره، فجعله يدرك مقام الأنا في كل مسعى فلسفي. كانط عينه أوصى به لدى ناشر أعماله النقدية، فصدرت في عام 1792 الطبعة الأولى من كتاب “بحث في نقد كل وحي” من غير إشارة إلى اسم الكاتب. فظن الناس أنهم يقرأون كتاباً نقدياً لكانط صدر بعد الكتب النقدية الثلاثة الأوائل. فأقبلوا عليه وأكسبوا فيشته شهرةً فلسفيةً مبهجةً. خلافاً لسيرة كانط الهادئة، اضطرمت حياة فيشته بأصناف شتى من الجيشان والاضطراب حتى إن مؤرخ سيرته كزافييه ليون احتاج إلى ثلاثة مجلدات (Fichte et son temps) ليدون فيها جميع الأحداث التي عصفت بحياته. الفيلسوف الألماني هيغل (غيتي) فلسفة الأنا الحية بحسب أبرز أهل الاختصاص ألكسيس فيلوننكو (1932-2018)، يجب تحرير فيشته من تأويلات هيغل التي حصرته في المذهب المثالي الذاتي الذي يجعل الأنا مطلقة القدرة في نحت الواقع التاريخي كله. لا يجوز أن ننعت فلسفة الأنا بالمثالية الأفلاطونية، إذ إن فيشته كان يعتني أصلاً بالعالم الخارجي، والآخر والغيرية، والعلاقات الناشطة بين الذوات الإنسانية. الحقيقة أن فلسفته تستند كلها إلى حدس أساسي يملي على الإنسان أن ذاته كيان متماسك متحد يحمل في عمقه كل مضامين الحرية. يمكننا أن نميز ثلاثة مستويات في عمارة فيشته الفلسفية: فلسفة الأنا المبنية على الحدس القائل بأن الروح يقوم في وحدة ذاتية راسخة، فلسفة الكينونة المستندة إلى جدلية العلاقة الناشطة بين الحرية والواقع، فلسفة المطلق المرتكزة على تطور نشاط الأنا التفكري وبلوغه مرتبة السعادة القصوى. أراد فيشته أن ينشئ نظرية متماسكةً في الحرية، ولكنه في آخر حياته انتهى إلى اعتناق روح الأنظومة السياسية البروسية. لم يكتف ببناء عمارة نظرية مجردة، بل عكف على صوغ نظرية فلسفية عملية تقوم على أساس نصرة الحرية والذود عن قيم الثورة الفرنسية. فضلاً عن ذلك، أولى التربية فائق اعتنائه، فرسم أن الإنسان الفرد لا ينمو وينضج ويتألق إلا بفضل التربية التي تفترض استقامة العلاقة الإنسانية بين النظراء المتساوين. ومن ثم، تتجلى الارتباطية التبادلية مثالاً أعلى يستلهمه فيشته في بناء الأخوة الإنسانية التي يجعلها مرجعية القانون وغاية الأخلاق. ذلك بأن الناس لا يمكنهم أن يحيوا حياةً لائقةً إلا إذا بنوا مدينتهم الإنسانية الديمقراطية على أصول المثُل الأخلاقية التي تحول الائتلاف الاجتماعي إلى ائتلاف الذاتيات الإنسانية المتضامنة. ما من مدينة إنسانية تدوم إلا إذا عززت في الإنسان وفي الاجتماع طاقات استثمار الحرية، وأسهمت في تحقيق دعوة الكائن الإنساني الكيانية. لم يستوعب معاصروه فرادة الإسهام الفلسفي الذي أتى به في سبيل استهلال زمن الحداثة، لا سيما في دفاعه عن مبدأ الحرية الذاتية، واعتصامه بالمذهب الإنسي. لذلك شوه بعضهم إرثه الفلسفي، مع أنه كان من أوائل الذين ابتكروا المنهج الفنِومِنولوجي من أجل وصف حقائق الوجود وتعليل حركة التاريخ. كان هيغل يصرح بأن ثلاثة أحداث جسام طبعت زمنه: الأول كتاب فيشته “أساس نظرية العلم الشاملة” (Grundlage der gesamten Wissenschaftslehre) في تأصيل العلم، والثاني كتاب غوته “ڤيلهلم مايستر”، والثالث الثورة الفرنسية. خصوصية الفلسفة يصر فيشته على تعريف الفلسفة تعريفاً يجعلها نظريةً في العلم، شرط أن يكون العلم هذا أصل جميع العلوم. يدل هذا التعريف على أن الفلسفة لا تتعاطى الأغراض المعرفية على غرار سائر العلوم، ولا تشتغل بحقل من الحقول، بل تعتني بعلم المعرفة على معنى الإطلاق. لذلك كانت مهمة الفلسفة أن تضع المبادئ الأوائل التي تجعل المعرفة، على أنواعها، ممكنةً وصالحةً. غير أن هذه المبادئ لا تحتاج إلى تسويغ أو تأصيل. في كتابه “أساس نظرية العلم الشاملة”، يضع فيشته ثلاثة مبادئ يستند إليها في تسويغ دعوة الفلسفة: الأنا، واللا-أنا، والعلاقة الجدلية بين الأنا واللا-أنا. المبدأ الأول هو الأنا الذي يقوم في أصل الوعي، وإليه تستند جميع المعارف. إنه شرط المعرفة الاقتضائي المجاوز، أي الشرط الترانسندنتالي الذي يقوم في أصل كل معرفة. المبدأ الثاني هو اللا-أنا الذي يعارض الأنا من الداخل. غير أن هذا التعارض لا يفنيهما معاً، بل يضع لهما حدودهما. المبدأ الثالث العلاقة الجدلية الناشئة بين الأنا واللا-أنا تضمن لكلَهما الحد والضبط والتعريف والإغناء. إيمانويل كانط (غيتي) الأنا الحرة استناداً إلى المبادئ الثلاثة هذه، يعلن فيشته أن الأنا طاقة عظيمة على النشاط والإبداع، يواجهها على الدوام اللا-أنا في هيئة الحد والضغط والتردد والإمساك والكبح. ذلك بأن الأنا المطلق الصلاحية لا يستطيع أن يحقق كل إمكاناته في العالم. اللا-أنا يُذكر الأنا المقتدر الحالم بأن الجهد المبذول يستلزم مراعاة محدودية العالم، ووضعية الأغراض والكائنات والموجودات. ومن ثم، لا يستطيع الأنا بعنفوانه الابتكاري المهيب أن يتخطى الكثرة الظرفية المعقدة التي يستوي عليها العالم والوجود والكون. ومع ذلك، يصر فيشته على ربط اللا-أنا بوعي الأنا ذاته، وقد أدرك أنه مرتبط بقوة تعاكسه وتخالفه على قدر ما تضع أمامه حدود الطاقة الإنجازية المتقدة فيه. اللا-أنا دليل المحدودية التي تصيب مشاريع الأنا المطلق. غالباً ما كان فيشته يعلن أن “كانط امتلك الفلسفة الحق، ولكنه لم يدرك مبادئها الأوائل”. برهانه على ذلك أن كانط لم يحرر الأنا من الفرضيات المربكة تحريراً كاملاً. لذلك يجب إكمال نقديات كانط، وإثبات أصلية الذات بواسطة إلغاء النومن (noumenon) أو الجوهر بحد ذاته، وترميم استقلالية الإرادة حتى يصبح بالإمكان التفكر في الحرية المطلقة الناشبة في صميم العالم. ليس من الضروري أن نتبع كانط في افتراض مصدري المعرفة، وهما الحدس الحسي على مستوى الحاسة، والمفهوم الضابط المعطيات الحسية على مستوى الفاهمة. يكفي أن نثبت الأنا مصدراً معرفياً واختبارياً مطلقاً. غير أن الطموح التأصيلي هذا عاد فسقط فيما انتقده كانط من وهم الأنا الذي يظن أنه يمتلك ذاته من غير واسطة خارجية. ومع أن فيشته استدخل الجدلية التعارضية بين الأنا واللا-إنا، إلا أن تصوره التأصيلي جعل هذا الأنا سيد الوجود المطلق. بفضل كانط، أدرك فيشته أن الحرية أثمن صفات الإنسان. فإذا به يصوغ فلسفةً جريئةً في الحرية الأصلية القادرة على بناء الوجود الإنساني كله. ذلك بأن الحرية مقترنة بالأنا المستقل الذي يقوم مقام المطلق في فلسفته. الأنا هو الأصل، ولو أن يواجه ما يخالفه في هيئة اللا-أنا، أي في هيئة القوى المستترة المنبعثة من العالم الخارجي الذي يصارعنا. ومن ثم، يجب على الأنا المستقل هذا أن يناضل النضال الحسن، وأن يفعل الفعل النافذ لكي يصون حريته ويظهرها جليةً للعالم وللآخرين. غير أن الإنسان لا يستطيع أن يضطلع بمثل المسؤولية الجليلة هذه إلا إذا اجتهد في تذليل العقبات الخارجية التي تنصبها له الطبيعة. الذوات الإنسانية المتفاعلة: البينذاتية ومن ثم، يؤكد فيشته أن الأنا لا يمكنه أن يدرك ذاته كائناً مستقلا يفعل فعلاً حراً إلا إذا افترض وجود كائنات إنسانية عاقلة حرة تعترف به اعترافاً صريحاً، وترسم له حدود فعله رسماً يفيده في استجلاء إمكاناته الخاصة. فحوى الكلام أن الأنا لا يقوم مقامه وينهض نهضته ويفعل فعله إلا إذا ارتبط بكائنات عاقلة أواخر. من صميم هذا الارتباط تنشأ العلاقة القانونية بين الناس. من جراء التأصيل الأونطولوجي هذا، استطاع فيشته أن يصوغ المبدأ القانوني العام: يجب على الإنسان في جميع الأحوال أن يعترف بوجود الكائن الإنساني العاقل الآخر خارج دائرة الأنا، بحيث يعمد إلى ضبط حريته الذاتية ضبطاً يصون حرية الآخر. بما أن الجسد شرط الفعل الإنساني في العالم الحسي، فإن الحق الأصلي الذي يتمتع به الشخص الإنساني هو الحق في الحرية، وفي سلامة الجسد الذي يحمله، وفي استمرار الفعل الحر هذا في العالم. الجسد موضع الحرية الوحيد، به يستطيع الإنسان أن ينجز حريته. لذلك نستدل على حرية الإنسان حين ننظر في هيئة جسده. ما دام الناس يحيون بعضهم مع بعض، فإنهم يُخضعون حرياتهم الذاتية بعضها لبعض، فيرسم كل واحد منهم حدود حريته بمقتضى حدود انبساط حرية الآخر. ليس الحق في الإكراه سوى التعبير عن الرغبة في إنشاء العلاقة القانونية السليمة بين الناس، بمقتضى عقد اجتماعي حر تصونه دولة شرعية تمارس السلطة القانونية. لا تعني تعددية الذوات العاقلة أن الناس يتعايشون معايشة سطحية، بل تدل بوضوح على مقام التواصل الناشط بين الذوات، أي على البينذاتية الفاعلة المتجلية في التبادلية المستمرة. ذلك بأن مفهوم الفرد، في نظر فيشته، ينطوي في أصله على التشاركية التي تجعله مستحيل الإدراك بمعزل عن ارتباطه بالآخر. ليس من وعي ذاتي كلي الذاتية، أي مطلق الانتماء الخاص، بل كل وعي يشتمل على ذاتيتي وذاتية الآخر، من غير تملك أو تسلط أو استعلاء. في كل ذات ائتلاف جدلي مُغن نافع بين وعيي ووعي الآخر. فإذا بالوعيَين منخرطان في الذات الأصلية. لوحة للرسامة هيلين دو كلو (صفحة الرسامة على فيسبوك) استقلال الأنا أصل الأخلاق الناس، في نظر فيشته، مرتبطون ببعضهم بعضاً بواسطة علاقات جدلية تنشأ بين ذات الأنا وذات الآخر. إنها البينذاتية التي تجعل الحياة الاجتماعية ممكنةً بفضل نظامين متكاملين: القانون والأخلاق. ينبثق الإلزام في القانون من الخارج، في حين أنه يصدر في الأخلاق من الداخل، أي من صميم الوعي. ولكن علام تقوم الأخلاق؟ في كتاب “أنظومة نظرية الأخلاق” (Das System der Sittenlehre)، يرسم فيشته أن هذه الأنظومة تستند إلى نظرية العلم، بحيث ترتبط الأفعال بمقام الأنا. ومن ثم، لا يكون الفعل الإنساني أخلاقياً إلا إذا استوى على أساس استقلالية الأنا، وأظهر انتصار هذا الأنا وقدرته على تجاوز كل ما يربطه بالطبيعة من عوائق. لذلك تقترن الأخلاق في أصلها بحرية الأنا، أي بواجب الأنا والتزامه تعيين حريته في هيئة الاستقلال المطلق عن عوائق الطبيعة وعالم الأغراض الخارجي. الإنسان الفاضل إنسان حر مستقل. لا يتحقق الأنا المطلق إلا بواسطة القانون الأخلاقي. فالذات الإنسانية ليست غايةً بحد ذاتها، بل أداة القانون الأخلاقي ووسيلة تحقيق الأنا المطلق بواسطة الفعل الأخلاقي. الفعل هو القيمة الأسمى، إذ إنه يتميز من الأفعال التي لا تنبثق من الإرادة الحرة، فيقترن بالأنا الذي هو في جوهره فعل مبادر نافذ. ومن ثم، يتجلى هذا الفعل لصيقاً بالإرادة متماهياً بها: “لا أجد نفسي إلا على قدر ما أمارس فعل الإرادة”. إذا كان الفعل من صميم دعوة الأنا وكان أيضاً غايته القصوى وخيره الأسمى، فإن الشر الجذري الأعظم يأتي من السكون أو الجمود أو الخمول أو الكسل. وهذا كله ينجم عن طبيعة الإنسان التي تنطوي على قوة سلبية ترفض التطور وتُغلق على الأنا محولةً إياه إلى غرض من الأغراض. من جراء الجمود يصبح الأنا شيئاً من الأشياء الخاضعة لقانون الطبيعة. فإذا به يسقط في ظلام اللاوعي ورتابة المسلك، ويفقد قدرته على الاضطلاع بمسؤولية دعوته الوجودية الأرحب. الاقتناع الحر المنضبط ضمانةُ القانون أما القانون، فيرتكز على مفهوم الواجب، بحيث يتغير مضمون الأمر القطعي الذي أذاعه كانط، فيتحول إلى صيغة مختلفة: “تصرف على الدوام وفقاً لأفضل ما ينطوي عليه واجبك من اقتناع”. في كتاب “أساس القانون الطبيعي” (Grundlage des Naturrechts)، يعلن فيشته أن الإنسان العاقل لا يستطيع أن يضع الأنا الذي له في موضعه الأصلي، أي أن يثبت ذاته، إلا إذا أسند إلى نفسه فعلاً حراً. بيد أن الفعل الحر يفترض وجود العالم ووجود الآخرين. لذلك لا يدرك الإنسان ذاته ويعي مقام الأنا الذي له إلا إذا وضع حداً خارجياً لذاتيته: حد العالم وحد الآخرين. لا ريب في أن مثل هذا الاندفاع الذي يفضي بالإنسان إلى رسم حدود ذاتيته يدل، في نظر فيشته، على النداء الذي يوجهه الآخرون إلى الأنا. الآخر يعين لحريته حدودها على قدر ما يعترف بي كائناً حراً، والعكس أيضاً صحيح. ومن ثم، لا بد من القانون الذي يضحي شرطاً قبْلياً أولياً يتيح لي أن أمارس حريتي في العالم. بمقتضى القانون يتصل المجال النظري بالمجال العملي، إذ إن التشريع هو الوسيط الوحيد بين العالم الخارجي الجسدي والاجتماعي، والعالم الداخلي، عالم الأنا المستقل. لا يرتبط القانون بالأخلاق، بل يستنبط من ضرورة تدبر مقام كل ذات على حدة. بما أن الأخلاق تقترن بميدان الحرية المحض، من غير انخراط في مجالات الاختبارات الحسية، فإنها لا تستطيع أن تكون مستند القانون. وظيفة الدولة في رعاية الحريات وعليه، لا تصبح الحرية فاعلة في معترك الحياة إلا إذا انخرطت في وضعية تاريخية معينة وراعت معايشة الذوات وتعدد الأجساد المتجاورة. لا يستطيع الإنسان أن يحقق ذاته إلا في المجتمع، على حد ما كان يذهب إليه فيشته: “ليس الإنسان إنساناً إلا بين الناس”. لذلك لا بد له من أن يدبر أمره الاجتماعي وينظم الدولة، من غير أن يمس حرية الأفراد. لا سبيل إلى صون الحريات إلا بواسطة ضمة من التدابير القاهرة. المفارقة واضحة بين الحرية والقهر. غير أن الحريات الفردية تميل بالفطرة إلى الفوضى. لذلك يجب ضبطها حتى تنشأ للجميع مساواة تتيح لكل فرد أن ينعم بالحرية العقلانية. في هذا السياق، اجتهد فيشته في ابتكار كيان دستوري جديد أطلق عليه اسم “الدولة التجارية المغلقة” (Der geschlossene Handelsstaat)، وقد استوحاها من المذهب الاشتراكي وأرساها على قاعدة الاكتفاء التجاري الذاتي وحظر كل المعاملات التجارية مع الخارج. أما الأفراد فتوجههم إدارة هذه الدولة إلى التزام النشاطات الإنتاجية التي تلائم حاجات الزمن الاجتماعية. اللافت أن فيشته أصر على تعزيز نظام الاختبار والامتحان والمكافأة حتى يستنهض همم العمال ويوزعهم ويفرزهم بحسب مواهبهم وقدراتهم وكفاءاتهم. يجب أيضاً القول إن مفهوم القيمة المضافة ظهر أولاً في توسعات هذا الكتاب قبل أن يستثمره ماركس في نظرية الصراع الطبقي. تتميز الدولة من المجتمع تميزاً واضحاً في كتابات فيشته، وينحصر دورها في فرض احترام الملكية الفردية العادلة. من وظائفها الأساسية أيضاً تربية الناس وتنشئتهم على قبول حريتهم والتمتع بها من غير إفراط أو استكبار أو تعد على حرية الآخرين. لا بد من قوة تجعل الإكراه قانوناً عادلاً. غير أن الإكراه لا ينبثق من الإرادة الأخلاقية، بل من آلية قانونية خارجية تضمنها الدولة. ذلك بأن هذه الأخيرة تجسد في الناس البينذاتية أو وضعية التشارك، وتضمن لهم حريتهم وعقلانيتهم الكيانية. الدولة قائمة في أصل الوضعية الإنسانية الطبيعية. ليس التوحش الأصل الطبيعي، بل العقد الاجتماعي الملزم الذي يرضى به الجميع حداً فاصلاً بين الحريات الذاتية. ومن ثم، لا بد من دولة عضوية اشتراكية تقوم على الأسس الديمقراطية والقانون الدولي. الله ضابط النظام الأخلاقي أنشأ فيشته في عام 1798 تصوره الديني في بحث جريء وضع له عنواناً لافتاً: “في سبب إيماننا بحكم إلهي يسود العالم ” (Über den Grund unseres Glaubens an eine göttliche Weltregierung). أثار هذا البحث نقاشاً حاداً أفضى إلى اتهام صاحبه بالإلحاد، إذ إن فيشته، بحسب خصومه، جعل الله يتماهى بالنظام الأخلاقي الذي يسود العالم. قبل ذلك الزمن، كان قد نشر بحثه في “نقد كل ضروب الوحي” (Versuch einer Kritik aller Offenbarung). لا شك في أن مثل هذه الكتابات أفضت إلى ما اختبرته ألمانيا حينذاك من مشادات فكرية ارتبطت بمسألة الإلحاد. بيد أن فيشته طور رؤيته اللاهوتية، فأصدر في عام 1806 كتابه “الإرشاد إلى الحياة الطوبوية” (Die Anweisung zum seligen Leben)، وسعى إلى التقرب من الإيمان المسيحي، معترفاً بأن الحياة الحق تقتضي الانصراف إلى التأمل في الكائن الأزلي الذي يمكننا أن نعاين تجلياته في العالم المحدود: “الحياة في الله أن يحيا الإنسان حراً في الله”. ينسب أهل الاختصاص الانعطاف الفلسفي هذا إلى الارتداد الذي اختبره فيشته ابتداءً من عام 1800، إذ أخذ يراجع كتاب “أساس نظرية العلم الشاملة”، مجتهداً في تجاوز التعارض بين الأنا واللا-أنا حتى يبلغ مبدأ الوحدة الأصلية المنبثقة من المطلق الإلهي. هوية الشعب الألماني الاستثنائية يأثر لنا التقليد الفلسفي عن فيشته قوله الرومانسي في هوية الأمة التي تتجلى في هيئة الجسم العضوي الحي القائم بحد ذاته، المنبسط انبساطاً مستقلاً عن إطار الدولة الدستوري والمؤسساتي. خاطب فيشته الأمة الألمانية (Reden an die deutsche Nation)، ورسم أن الشعب لا يحدده واقع عرقي أو عضوي، بل ينطوي على قوام ذاتي روحي حر. أما ألمانيا التي يمجدها، فتجسد مثالاً كونيا جامعاً، لا واقعاً سياسياً منطوياً على ذاته. لذلك لا يجوز أن ننسب إليه تصوراً قوميا ضيقاً يجعله يتعلق بهوية قومية جرمانية مستكبرة. بما أن فرنسا الخاضعة لمطامح بونابرت الجامحة خانت مبادئ ثورتها العظيمة، فإن رسالتها ينبغي أن تضطلع بها ألمانيا التي آن أوان اعتلانها أمةً حرةً مستقلةً قائمةً بقدرتها الحضارية الذاتية. في “خطاب الأمة الألمانية “كان فيشته يحرص على التمييز الأساسي بين نهضة الأمة الألمانية، وإرادة الاقتدار والتسلط على الأمم الأخر. حجته في هذا التمييز أن التسلط لا يليق بالكائن الإنساني، إذ إن التسلط من صفات الطبيعة غير العاقلة. على رغم التحذير الواضح، لم يستنكف النازيون من استغلال فلسفة فيشته القومية في سبيل تسويغ نظرية الاستكبار الجرماني المستقبح، ودليلهم على هذا الأمر أن فيشته كان مقتنعاً بتفوق اللغة الألمانية على جميع لغات الأرض. ومن ثم، توحي بعض من نصوصه السياسية باستعلائية مربكة: “إنكم، من بين جميع الشعوب الحديثة، تملكون على أوضح الوجوه بذار قابلية الكمال الإنساني، ولكم مقام الصدارة في نمو الإنسانية […]. إذا سقطتم، سقطت معكم الإنسانية برمتها من دون أمل النهوض في المستقبل”. على رغم التطرف القومي هذا، تعود فلسفة فيشته إلى الظهور والتأثير، لا سيما في فتوحاتها الأخلاقية والسياسية والقانونية، بحيث يستثمرها الباحثون في بناء فلسفة عملية تحرص على تدبر منازعات الواقع الإنساني وتعقيداته، فتتجنب ملابسات فلسفة التاريخ التي أنشأها كانط، وانزلاقات الاستبداد التي تستوطن فلسفة هيغل وماركس الشمولية. في عام 1793 أطلق فيشته العنان لقلمه، فأخذ يقرع الاستبداد الناشب في وعي الناس، قبل أن يجرم العنف الذي يجره الحكام على الشعب: “لا تكرهوا حكامكم، بل اكرهوا أنفسكم”. ذلك بأن الشعب، بجهله وخنوعه، يستجلب الاستعباد والاستبداد، فيتيح للحكام أن يجعلوا الله في خدمتهم. آن الأوان للخروج من عصر الظلام ورفض عقلية القطيع. فالإنسان ليس غرضاً من أغراض الحاكم، بل كائن عاقل يستحق الاحترام والتقدير. المزيد عن: يوهان غوتليب فيشتها\لفلسفة الألمانية\الغزو البونابارتي\الفيلسوف الألماني هيغل\إيمانويل كانط 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “كيف تفجر خط أنابيب”: فيلم ماركسي راديكالي يخاطب غضب جيل بأكمله next post ساسكاتشِوان: قرار بتقليص فترة تدريب الممرضات المؤهلات في الخارج You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024