ثقافة و فنون فيسكونتي ووجوهه المستعارة: سينما البارون الأحمر مرآة الذات والانهيار by admin 21 يونيو، 2023 written by admin 21 يونيو، 2023 38 السينمائي الإيطالي يستعير الأدب الكبير والشخصيات التاريخية لقول ماهية التغيرات الكبرى اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كان لوكينو فيسكونتي سينمائياً – وربما مع ال التعريف – على الصعيد العالمي. وكان مسرحياً ورجل أوبرا بين ممارسات فنية أخرى ملأت الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين. ومن هنا لا يحتاج هذا المبدع الاستثنائي إلى أي تبرير للعودة إليه بين الحين والآخر. وفي كل عودة لا ريب أن ثمة جديداً يمكن اكتشافه. ولعل ما يمكن العودة إليه هنا الحديث عن الكيفية التي بها يلعب المكان في الأعمال الفيسكونتية، دوراً كبيراً، لكنه يلعب هذا الدور فقط بنسبة تموضعه في لحظة زمانية محددة. ومن خلال ذاتية المبدع المطلقة مهما كان من شأن مرجعيته المباشرة والتي غالباً ما كانت أدبية كما سنرى. من هنا لا يصح الحديث عن مكان أو زمان لدى فيسكونتي إلا عبر ثنائية المكان – الزمان. وهذه الثنائية تجد التعبير الأسلم عنها في لحظة الوعي نفسها، أي في لحظة الإبداع الثقافي. من هنا نجد أن قصر أمير سالينا (في “الفهد…”)، والغرف المغلقة في “الملعونون” وفندق الحمامات وبلاج الليدو في “الموت في البندقية” وقصور ملك بافاريا الباروكية في “لودفيغ”، هي كلها لحظات وعي، وعلاقات ذاكرة عملها يقف خارج السياق الحدثي، لتصبح هي لحظة الانعطاف. تعاطف أم إشفاق؟ في كل تلك الأماكن أمامنا بطل يعيش وحدته وسط ديكور يعبر عنه ويحدد له ملامحه. أو لسنا هنا إزاء فيسكونتي نفسه في علاقته مع العالم: أرستقراطي (أي يمتلك لحظة الوعي الخلاقة لطبقة خلقت أكثر لحظات الإبداع الفني والحضاري تجلياً)، وماركسي (أي يمتلك حس تحليل التاريخ الذي يؤكد له حتمية الانهيار الطبقي على مذبح صعود العلاقات الاقتصادية)، مولع بالجمال (ويكاد في هذا المجال ينتمي إلى عهود مضت) وواقعي في الآن نفسه: ذلكم هو فيسكونتي… فهل أفلامه سوى صورة لإحساسه بمسيرة العالم: مسيرة قد لا يكون راضياً عنها لكنه يدرك أن ما من شيء قادر على إيقافها حتى ولو أدركنا تفاهتها؟ إن تصوير الصراعات الطبقية يتخذ لدى فيسكونتي صورة الدوخان الداخلي… ولا سيما لدى شخصيات لا يفوتنا أن نتعاطف معها، نتعاطف معها أم نشفق عليها يا ترى؟ تاريخ وزمان محددان فهل يا ترى كان هذا هو السبب الذي يجعله يختار لمواضيع أفلامه أحداثاً تاريخية ولحظات انعطاف تتمخض عن صراع بين رؤيتين تنتميان معاً إلى التاريخ لا إلى الراهن؟ إذا كان هذا صحيحاً يكون فيسكونتي قد حدد طرفي صراعه. فالصراع عنده صراع بين وعيين: وعي بجمال يذهب ووعي بحتمية تجيء. ومن دون أن يزعم أنه يقف بين الوعيين على حياد، عرف فيسكونتي كيف يجعل من أعماله السينمائية الأساسية أعمالاً تحكي التاريخ ومشكلة التاريخ، وتحكي الفن ومشكلة الفن في آن معاً. وهو أمر سيتجلى بكل وضوح في الثلاثية المؤلفة من “الملعونون” و”الموت في البندقية” و”لودفيغ” والتي لن يكون من غير المنطقي اعتبار الفيلم التالي لها “عنف وعاطفة” محاولة لتفسيرها، وتوليفها. لقد قيل دائماً إن تاريخ السينما لم يعرف خارج إطار فيسكونتي وقبضة أخرى من المخرجين الكبار، مبدعين أعطيت لهم على الدوام حرية كاملة، بمعنى أن اختيارات فيسكونتي كانت اختيارات حرة… فينبغي التعامل معها على هذا النحو، ومن دون أخذ عناصر “الضغط الإنتاجي” في الاعتبار، أي بكلمات أخرى، يمكن التعاطي مع فيسكونتي وأفلامه انطلاقاً من كونه يحمل المسؤولية التامة عن هذه الأفلام واختياراته بصددها. لوكينو فيسكونتي (الموسوعة البريطانية) واقع اجتماعي؟ عندما حقق فيسكونتي “الأرض تهتز” كان يريد لذلك الفيلم أن يكون حلقة أولى في ثلاثية هدفها تصوير جوانب عدة في الواقع الاجتماعي الإيطالي وكان فيلمه “روكو وإخوته” جزءاً من الثلاثية. وحين فشل المشروع صار من الطبيعي أن ينظر النقاد إلى “روكو” كفيلم عن الواقع الاجتماعي يتخلى فيه المخرج عن مناخاته “الشاعرية” و”الأوبرالية” و”المسرحية”. غير أن هذا الاعتبار فيه ظلم لهذا الفيلم، صحيح أن “روكو…” في شكله الحدثي وفي مناخه العام يرسم صورة قاسية بل ميلودرامية لوضع اجتماعي إيطالي ما. فهو عن حكاية عائلة روزاريا التي تتجه إلى ميلانو لتبدأ الحياة بالانتظام شيئاً فشيئاً… غير أنها حياة تنتظم على أنقاض التماسك العائلي… فإننا هنا، عبر الأحداث، وعبر العلاقات المتشعبة نجد أن الفيلم يتحول من فيلم يريد أن يتحدث عن الواقع الاجتماعي ليصبح مرة أخرى فيلماً عن السقوط. فإذا استثنينا الأخ تشيرو الذي يضحى عاملاً لدى ألفا – روميو، ويكتسب وعياً سياسياً واضحاً، نلاحظ أن الشخصيات الأخرى جميعها تسقط، فهل نحن هنا أمام أمثولة أخلاقية؟ الهادئ شخصية محورية لو كان هذا الفيلم نفسه يحمل توقيع لاتوادا أو كومنشيني أو دي سيتا، وهم مجايلون إيطاليون لفيسكونتي، لكان من الممكن لنا أن نقول: نعم، إننا أمام أمثولة أخلاقية، أو لكان من الطبيعي للفيلم أن يحمل عنواناً آخر هو “تشيرو وإخوته”، لكن فيسكونتي جعل من روكو شخصيته المحورية: روكو الهادئ اللامتمرد، والذي يعتقد أن الطيبة وحدها قادرة على تغيير العالم. إنه يعاني بألم ويحن إلى لوكانيا، مسقط رأسه “أرض الزيتون وقوس قزح” – كما يقول – وروكو هو الخاسر، على رغم كل نواياه الطيبة. الخاسر بالمعنى الذي تحمله كلمة “سقوط” نفسها. من هنا، وتجاوزاً للواقع الاجتماعي الذي يصوره فيسكونتي بدقة وبالتفصيل نتساءل: أوليس روكو هو مركيزة “الحس” وغوستاف فون ايشنباخ، بل لودفيغ في “سقوط الآلهة”، وبيرت لانكاستر في “عنف وعاطفة”؟ مرة أخرى هنا نجد أنفسنا أمام حكاية السقوط، أمام ذلك الميل، الذي صوره فيسكونتي دائماً، الميل القائم في استهلاك الكائن لذاته. فأبطال فيسكونتي يستهلكون ذواتهم وروكو لا يشذ عن هذه القاعدة، بل هو يرسم الخطوط الأولى والأكثر وضوحاً لترسخ مسيرة الصراعات في الداخل، على شكل دوخان وهذيان داخليين، وعلى شكل مسيرة محتمة، يتلقاها الخائفون منها من دون قدرة على ردها، وكأننا هنا نصف أمير فيلم “الفهد” وصفاً دقيقاً. حزن الأمير منذ أفلامه الأولى كانت علاقة فيسكونتي مع الأدب علاقة مثمرة، ففيلمه الأول “وسواس” اقتبس من الأميركي جيمس كين و”الأرض تهتز” اقتبس من فارغا و”الليالي البيضاء” من دوستويفسكي و”الحس” من كاميلو بويتو و”روكو” عن رواية “جسر غيسولفا” لجيوفاني تيستوري. والآن مع “الفهد” (1962) آن الأوان لفيسكونتي التعامل مع رواية كبيرة ثمة بينه وبين كاتبها روابط كثيرة. فـ”الفهد” فيلم مقتبس عن رواية كتبها الأمير جيوزيبي دي لامبيدوزا عند نهاية حياته، لكنها لم تشتهر إلا في أواسط الخمسينيات. وكما فعل فيسكونتي وسيفعل كثيراً من الآن وصاعداً، من الواضح أن لامبيدوزا قد وضع في روايته كثيراً من ذاته. وبهذا المعنى يمكن اعتبار فيلم “الفهد” الذي يدوم نحواً من ثلاث ساعات، أشبه بلوحة شخصية للأمير (وسنكتشف لاحقاً أنه يكاد يكون أيضاً لوحة شخصية لفيسكونتي نفسه). الأنا/ الآخر الأرستقراطي بالنسبة إلى كثر، ربما يكون جيوزيبي دي لامبيدوزا أشهر كاتب إيطالي على الإطلاق، ومع هذا جرب أن تعثر على أعماله الكاملة وعلى روايات أخرى تتصورها له، عدا روايته التي صنعت شهرته، “الفهد” فلن تجد. وجرب أن تبحث عن مقالة عنه في الموسوعات العالمية فلن تجد. وإذا كان يخيل إلى كثر أن هذا الكاتب الأرستقراطي هو من أبناء القرن التاسع عشر، من المستحيل أن تجد كلمة عنه في كل أدبيات وتواريخ ودراسات ذلك القرن، وذلك لأن دي لامبيدوزا: أولاً، لم يكتب أية رواية أخرى عدا “الفهد” إذ إن هذه إلى ثلاثة أو أربعة نصوص أخرى يعتبر معظمها مجرد “مسودة” أولى لـ”الفهد” وهي التي تشكل “أعماله الكاملة”. ثانياً، بالكاد ينظر إليه مؤرخو الأدب العالمي على أنه كاتب حقيقي، يستحق أن يذكر في الموسوعات. وثالثاً وأخيراً، ليس دي لامبيدوزا من أبناء القرن التاسع عشر، على رغم أن أحداث “الفهد” تدور في ذلك القرن، بل تؤرخ ذهنيته في شكل لم يتمكن أي عمل آخر من فعله، دي لامبيدوزا هو من أبناء القرن العشرين. فهو مات في عام 1957. وهو لم يكتب رائعته “الفهد” إلا قبل أشهر قليلة من رحيله، ويبدو لأسباب تتعلق بذلك الرحيل. وسيقول النقاد والمؤرخون إن هذه السمات هي التي جعلت فيسكونتي يختار تلك الرواية ليحقق عنها واحدة من أكثر صور ذاته صدقاً، ولكن في انتظار أفلام أخيرة له تبدت أكثر ذاتية ومن أهمها “موت في البندقية” و”لودفيغ” و”عنف وعاطفة” ولكن هذه حكاية أخرى! المزيد عن: لوكينو فيسكونتيالسينما الإيطايةجيمس كين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مصر ترفع الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص لـ97 دولارا next post السودانية ريم جعفر تفوز بجائزة الرواية الأفريقية بالإنجليزية You may also like نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024