غضب منظّم ومرسوم بدقة... تماماً كوشم فوق جسد ضخم بأقلامهم فوزي ذبيان يكتب عن: شيعة الجمّيزة by admin 29 يناير، 2025 written by admin 29 يناير، 2025 63 يتكلم الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو في رواية “انقطاعات الموت” عن ضرورة دلق المياه الباردة فوق حماسة الجماهير، من آن إلى آخر، ذلك أن هذه الحماسة بالذات قد تستبطن كل أسباب شقاء وهلاك هؤلاء. جريدة المدن الالكترونية / فوزي ذبيان – روائي لبناني “ييي علينا…”. بهذا همستْ الفتاة العشرينية على الطاولة المجاورة لطاولتي في إحدى حانات الجميزة لدى رؤيتها جموع شبيبة حزب الله فوق دراجاتهم النارية يلوّحون بتلك الأعلام الصفراء ويصيحون بشتات الأصوات. لم تبادلها صديقتها الكلام، وقد شخصتْ بملء النظر في هؤلاء عبر زجاج الحانة لتعمد بعدها إلى ارتشاف بيرة مكسيكان وتأتي بحركة من يدها تشي بفرط اللامبالاة. أنا أعرف شيعة الجمّيزة إلى حدّ كبير، لكن معرفتي بهم انبنتْ على مجالستي لهم في مقاهي الضاحية الجنوبية وساحاتها وأزقتها، وفوق ذلك الأوتوستراد الشهير. على الرغم من اليقين الأعمى الذي دفعهم إلى هذا التجوال الشقي في الجمّيزة، فإن ملامح شبيبة الحزب فوق دراجاتهم، تلك اليلة، كانت تشي بالبحث عن شيء ما… تشي أكثر ما تشي بالفقدان. “انشالله ما يطَوْلوا هون”، قالت تلك الفتاة بينما رفيقتها التي تكمّشتْ بصمتها أكثر فأكثر، تداور بيدها كأس البيرة وتداور نظراتها بين تلك الجمهرة المكللة بأصوات الدراجات التي تخالط عبارة “شيعة… شيعة…” يتوجّه بها هؤلاء إلى كل الآخرين وقد علت وجوه بعضهم ملامح العبوس، ورسم آخرون على وجوههم ملامح أخرى يمكن موضعتها عند عتبة الإبتسامات. لم أخمّن، أثناء تلك الجلسة الأنيسة، أن الجمّيزة ستتشكّل في تلك الليلة وفقاً لأهواء هؤلاء. وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن هؤلاء، وعلى الرغم من ضجيج صخبهم، كانوا محلّ احتواء غريب من قِبل شارع الجمّيزة مترامي الأطراف، وكأني بهذا الشارع الجميل يحوي فضاءً احتياطياً لكل هذا الغضب المدبّر والمشغول عليه باتقان… هو غضب منظّم ومرسوم بدقة، تماماً كوشم فوق جسد ضخم من جهة الحجم والعضلات. توقفتْ تلك الدراجات لبعض من الوقت، تستقطع بهَيصة صفراء بعضاً من وقت ناس الجمّيزة، كحالي وحال الفتاتين بالذات. ثمة التباس حايث مشاعري حيال ذلك التداخل الفظ، بين مشهد الفتاتين من جهة، ومشهد شبان “شيعة… شيعة” من جهة أخرى، وقلت لنفسي: ماذا إذا انساق ذلك التحايث الغريب إلى ما يفوق التوقعات، كأن تخرج إحدى الفتاتين من الحانة وتدعو واحداً من أولئك الشبان إلى مشاركتها الشراب؟! ألزمتُ خيالي الفرملة فجأة، على وقع تلويحة من ذلك العلم الأصفر تاخمتْ زجاجة الحانة وحجبتْ الرؤية للحظات، بينما تلك العشرينية تقول: “طيّب، وبعدين؟!”. لست أدري إذا ما كان ذلك الهوس بعرقلة سكب الكؤوس والفرح في شارع الجمّيزة، وأيضاً بعرقلة صوت انبعاث الموسيقى من هذه الحانة أو تلك، لست أدري إذا ما كان ذلك الهوس بمثابة آلية توازن بين الرغبة في الموت شهيداً من ناحية، والتمسّك من ناحية أخرى بأي ضرب من ضروب الحياة. فكل واحد من شيعة الجمّيزة في تلك الليلة العرجاء، مثّل أكثر ما مثّل، ذلك “التيهان بين ماذا يريد الحزب مني وماذا أريد أنا من الحياة”، وهي عبارة لطالما رددها على مسامعي صديقي وليم الذي ألهمني كتابة رواية “القُبلة الأبدية” منذ سنوات ومات. ثمة من تكلم مرة عن الخوف من الخوف. قد يكون ذلك الإجتياح المهندس بكل روية و”صفاء” ليل شوارع بيروت وأزقتها، نزهة عابرة ضد الخوف من الخوف، وقد يكون دعوة للآخرين إلى المشاركة بالقوة في محض الخوف، الخوف بإطلاق. لكن بيروت، كل بيروت، والجميزة ضمناً ليلتها، ملّت ذلك الإنجذاب إلى الجنة عبر الموت بالحروب كما شاهدت الأمر…”شي بضَيّق الخلق”، قالت الفتاة العشرينية لنفسها ولصديقتها ولي أنا، ولكل ناس الجميزة في ليلة الدراجات و”شيعة… شيعة”. “… شي بِضَيّق الخلق”، كرّرَتْها مراراً وقد ارتسمتْ فوق ملامحها تقاسيم الملل من هؤلاء، لا تقاسيم الرعب والخوف. فعلى الرغم من اعتوار شارع الجمّيزة بكمٍّ من الدراجات الصاخبة والأيادي المرفوعة بكل تهافت إلى أعلى الفراغ، فإن شارع الجمّيزة ذاك، أبى إلا أن يهندم نفسه بعد رحيل دراجات الضاحية بما يتناسب مع روحه، روح الخفة والسهر والإنشراح. يتكلم الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو في رواية “انقطاعات الموت” عن ضرورة دلق المياه الباردة فوق حماسة الجماهير، من آن إلى آخر، ذلك أن هذه الحماسة بالذات قد تستبطن كل أسباب شقاء وهلاك هؤلاء. طبعاً، لا أخمّن أن بين مُرتادي الجمّيزة في تلك الليلة العوراء، مَن كان بصدد دلق المياه الباردة لتخفيف حماسة ذوي الأعلام الصفراء والدراجات والأصوات المقببة لهؤلاء نحو محض الخلاء. ذلك أن الأمل لدى كل اللبنانيين معقود على أن تكون الجميزة والحمرا وعين الرمانة وفرن الشباك والداون تاون وساقية الجنزير وبرج حمود وساحة ساسين، أن تكون كل هذه الأمكنة بمثابة المياه الباردة التي تنعش قلوب هؤلاء وتخرجهم من تلك البوتقة التي “وُفّق” البعض في شبكهم فيها منذ عقود وعقود… “… شو بعرفني، يمكن بالآخر مساكين”، بهذا همستْ الفتاة الأخرى أثناء تناولها من البارمان كأساً أخرى من المكسيكان. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف يمكن لأحلامك أن تتنبأ بإصابتك بالخرف؟ next post “شيعة..شيعة”: رسائل سياسية لا تختزل الطائفة You may also like غسان شربل يكتب عن: ليلة القيصر 3 مارس، 2025 حازم صاغية يكتب عن:السؤال الذي يتحاشى الكثيرون طرحه! 3 مارس، 2025 وليد الحسيني يكتب عن: أمة التغيير..”ما فيش فايدة” 3 مارس، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: هل يسير ترمب... 2 مارس، 2025 سكوت أتران – أنخيل غوميز: ما تطلعات أهل... 28 فبراير، 2025 رضوان السيد يكتب عن: «مقاومة»… لكنها لا تقاوم 28 فبراير، 2025 جو معكرون يكتب عن: إضطراب المكوّن الشيعي في... 27 فبراير، 2025 كاميليا انتخابي فرد تكتب عن: التقارب الروسي –... 27 فبراير، 2025 دلال البزري تكتب عن: حزب الله… نصر الله 27 فبراير، 2025 سونر چاغاپتاي يكتب من داخل المحادثات الأخيرة لحزب... 26 فبراير، 2025